أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2013
سفر راعوث ... قصة حب
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
درست في مدارس أمريكا عندما كان مسموحًا للطلاب بقراءة الكتاب المقدس في الفصول، لدرجة أننا درسنا سفر راعوث في الأدب الإنجليزي.  كنا نعتبره قصة قصيرة غاية في الروعة، ذات شخصيات نابضة بالحياة، وتفيض بالمشاعر الطيبة، ولها نهاية سعيدة، إذ عاش الجميع معًا في سعادة وهناء.  وبعد عدة سنوات، لما بدأت دراسة الكتاب المقدس كشخص مؤمن، اكتشفت أن سفر راعوث أكثر من مجرد قصة رائعة فهو - كجزء من كلمة الله الموحى بها - يُظهر نعمة الله وهي تتلامس مع المحتاجين.

يحكي هذا السفر قصة فتاة موآبية اسمها راعوث، عاشت في فترة سادت فيها الوثنية والحرب والمجاعة والفقر.  لكن الرجاء - الذي لا يُعطيه إلا الله وحده - أضاء حياتها.
هناك أربعة جوانب على الأقل لندرس بها سفر راعوث.  من الجانب التاريخي، يبدأ بعائلة تعيش في بيت لحم، أثناء حكم القضاة في إسرائيل (1200 قبل الميلاد).  عندما جاءت المجاعة قرروا أن يرتحلوا إلى موآب، وهناك وقعت المأساة للمرة الثانية، فمات الأب وابناه تاركين وراءهم ثلاث أرامل: نعمي الزوجة، وكنتيها راعوث وعرفة.  وتدور معظم أحداث السفر على رجوع نعمي وراعوث إلى بيت لحم، وما كان ينتظرهما من تحول كبير في الأحداث هناك.
ومن الجانب الرمزي، يرسم لنا سفر راعوث صورة للمحبة الموجودة بين المسيح وشعبه: كيف تنمو وتثمر لمجد الله.
ومن الجانب التعليمي، يكشف لنا السفر عن شخصية الله في تعاملاته الغنية بالنعمة مع شعبه، حتى مع هؤلاء المولودين تحت اللعنة مثل راعوث.
ومن الجانب العملي، يُبين لنا كيف يتغير الشخص المُتحمس، وهو يواجه موقفًا مُحبطًا للغاية، وهذا ما يجعل القصة وكأنها مأخوذة من وقتنا الحاضر.  ما زال الله يبحث عن مثيلات لراعوث مِمَنْ يستطعن أن يأتين بأشعة الأمل إلى عائلاتهن المطحونة بتجارب الحياة القاسية.

 الأصحاح الأول:
نعمة الله

نعمة الله تنتصر دائمًا رغم فشل الإنسان وعجزه.  ليس من الصعب اكتشاف الفشل البشري في الأصحاح الأول.  ضربت المجاعة الأرض لأن بني إسرائيل تحولوا عن الرب (تث28: 24)، وللأسف فإن أليمالك - واسمه يعني ”إلهي ملكي“ - لجأ إلى أرض الأعداء موآب، بدلاً من اللجوء إلى الرب في الشدائد.  يا لها من خسارة فادحة! ووقع بين أنياب الشيطان وهو يحاول الهروب من تأديب الله لشعب إسرائيل.  موت الأب وابنيه يوضح فشل الإنسان: فالناس يموتون كنتيجة للخطية (رو6: 23).  لكن الله قصد أن يُحوِّل فشلهم إلى الخير، لأن راعوث دخلت القصة هناك في موآب.

ولا نجد مثالاً عن عجز الإنسان أفضل من راعوث: 

أولاً: كانت موآبية، وبالتالي ممنوعة مِن الدخول إلى جماعة الرب حتى الجيل العاشر حسب الشريعة (تث23: 3، 4).  ثانيًا: كانت أرملة فقيرة معدمة.  ثالثًا: حلقة اتصالها الوحيدة بشعب إسرائيل؛ نعمي، لم تُعطِ لها شهادة واضحة عن إله إسرائيل.  رغم أن نعمي بدأت بالسير في الاتجاه الصحيح بالعودة إلى وطنها، إلا أنها لم تشجع كنتيها على الذهاب معها، بل ألقت اللوم - في مرارة نفس - على الله في كل مشاكلها.
ولكن الله يُسر بالانتصار على فشل الإنسان، وهذا ما فعله في حالة راعوث.  لم تُجدِ معها محاولات نعمي بإقناعها بالرجوع إلى شعبها وآلهتها، لكن سلفتها عرفة رجعت.  ورجعت راعوث مع نعمي إلى إسرائيل (را1: 22).  كلماتها الجميلة المليئة بالإصرار تعبر عن تجاوبها مع نعمة الله: «لاَ تُلِحِّي عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَكِ وَأَرْجِعَ عَنْكِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا ذَهَبْتِ أَذْهَبُ وَحَيْثُمَا بِتِّ أَبِيتُ.  شَعْبُكِ شَعْبِي وَإِلَهُكِ إِلَهِي» (را1: 16).  اختارت راعوث بهذه الكلمات القليلة طريقًا لتتبعه، ومكانًا لتعيش فيه، وشعبًا لتنضم إليه، وشخصًا لتثق به؛ إله إسرائيل.  ووصلت بيت لحم، مع نعمي، في ابتداء حصاد الشعير (را1: 22).

 الأصحاح الثاني:
راعوث تلتقي ببوعز

كان بوعز أول شخص التقت به راعوث في بيت لحم.  هناك عدة أشياء فيه تذكرنا بربنا يسوع المسيح؛ أولاً: كان ذا قرابة لأليمالك، وهذه نقطة هامة، والله كي يرينا نعمته، كان على ابن الله أن يصبح ”ذا قَرَابةٍ لَنَا“، أي يصير إنسانًا (عب2: 14، 15).  ثانيًا: كان بوعز رجلاً غنيًا، وقيل عن «نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ ... أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2كو8: 9).  ثالثًا: كان بوعز من بيت لحم؛ نفس القرية التي وُلد فيها الرب يسوع (لو2: 4-6).  رابعًا: تكلَّم بوعز بكلمات مليئة بالنعمة مما يذكرنا ببداية خدمة الرب في الناصرة «وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ» (لو4: 22).  خامسًا: أظهر بوعز اهتمامًا براعوث الغريبة المسكينة، والأناجيل الأربعة تردد صدى اهتمام الرب بالمساكين، فهو قد جاء ليبشر المساكين (لو4: 18).

والعلاقة بين بوعز وراعوث ترمز إلى العلاقة بين المسيح وشعبه.  دعاها لتلتقط في حقله، ضامنًا لها الحماية الكاملة.  وعندما حان وقت الطعام رحب بها على مائدته، واهتم بها بطرق لم تخطر على بالها، موصيًا غلمانه «وَأَنْسِلُوا أَيْضًا لَهَا مِنَ الْحُزَمِ وَدَعُوهَا تَلْتَقِطْ وَلاَ تَنْتَهِرُوهَا» (را2: 16). وهذا يذكرنا بقبولنا في المسيح (أف1: 6)، وبالشركة التي دعانا إليها (أف2: 19-22)، وبوعده أن يسدد كل احتياجاتنا (في4: 19).

لا عجب في اجتذاب راعوث لبوعز.  يقول الكتاب المقدس « فَاتَّفَقَ نَصِيبُهَا فِي قِطْعَةِ حَقْلٍ لِبُوعَزَ » (را2: 3)، لكن لا شك أن الله قادها إلى هناك.  لاحظ أنها لم تمكث عاطلة بالبيت تندب فقرها وتنتظر إحسانًا أو صدقة.  كانت تدرك حالتها المعدمة فذهبت والتقطت سنابل؛ ليس عملاً سهلاً أو محترمًا.  بدأ بوعز يلاحظها، وارتبكت من إحسانه وعدم استحقاقها.

سفر راعوث يُعلّمنا أن الحياة المسيحية سلبية وإيجابية في الوقت نفسه.  سلبية في إقرارنا بأن قدرة الله وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى (2بط1: 3)، لذا نثق به وننتظر بصبر إرشاده مع اعترافنا الكامل باتكالنا عليه (أم3: 5، 6)، لكنها أيضًا إيجابية في ضرورة التقدم للأمام بقوة الرب، باذلين كل اجتهاد لإضافة كل ما يساعد على أن تكون حياتنا مثمرة في معرفة ربنا يسوع المسيح (2بط1: 5-8).
وجدت راعوث ملاذًا تحت جناحي إله إسرائيل، وأقر بوعز بذلك وعاملها على هذا الأساس (را2: 12).  شهادتها اللامعة تضمنت: اجتهادها (ع2، 3، 17)، ومشاركتها لحماتها فيما حصلت عليه (ع 18، 19)، وسعيها لمعرفة المزيد عن بوعز (ع2: 20)، والطاعة بدون أي تردد (ع21-23).

 الأصحاح الثالث:
شركة أعمق

كان الله يخطط لزواج راعوث من بوعز، وبينما تسير الأحداث في هذا الاتجاه نبدأ في إدراك نوع التقارب الذي يفكر فيه الله نحو شعبه.  فهو لا يريد مجرد مُلتقطين في حقوله، بل يُريد عروسًا ليغدق عليها محبته (أف5: 25-27).  يرغب أن ينزع عنا شعورنا بعدم الأمان حتى نجد راحتنا فيه (مت11: 28-30).  لا يريد أن تتركز قلوبنا على عطاياه فقط، بل عليه هو (في3: 8).  حقًا الرب لديه أكثر جدًا مما اعتقدنا عندما اتكلنا عليه لأول مرة.  يريدنا أن نتمتع بشركة عميقة وخاصة جدًا معه.  لكن هذه العلاقة الخاصة تكون دائمًا مُكلّفة.

علمت راعوث من نعمي أن بوعز ”ذو قرابة“ لهما، أي مَن له حق فك أملاك أليمالك، ومسؤولية زواج أرملة وتربية أبناء القريب الراحل.  لذا ذهبت راعوث - كما أوصتها نعمي - إلى البيدر لتكشف عن نفسها كمن تحتاج الفداء من الجانبين، لكنها لم تقترب إلى بوعز عَرَضًا أو بلا اهتمام بل اغتسلت وَتَدَهَّنت، ولبست أحسن ما عندها.  وهكذا نحن يجب أن ِنَتَقَدَّمْ إلى الرب «لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ» (عب10: 22)، ونُنقي ونُزكي طرقنا بحفظنا لكلمته (مز119: 9-11).  ولأننا مملوؤون بالروح القدس علينا أن ننشر رائحته الزكية (1كو16: 19، 20).

عندما جاءت راعوث إلى طرف العرمة اضطجعت عند رجلَي بوعز.  هناك امرأة تقية اسمها مريم، جاءت بعد راعوث بعدة قرون، وجلست عند قدمي الرب يسوع لتسمع كلامه (لو10: 39).  وهذا هو مكاننا: عند قدمي الرب لسماع كلامه، كما سمعت راعوث كلمات بوعز المُعزية والمُشجعة.  لكن بوعز أخبر راعوث شيئًا لم يكن مُشجعًا: قد يتعطل زواجهما لوجود ولي أقرب منه.  لكن بوعز عمل على حماية شرف راعوث وشرفه، كما أعطاها مؤونة طعام ضخمة.

 الأصحاح الرابع:
الزواج

ذهب بوعز في اليوم التالي إلى الباب حيث تتم إدارة شؤون المدينة، إذ أراد إظهار بره أمام الجميع في فك راعوث، كما أظهر الله بره في فدائنا (رو3: 21، 22).  يرمز ”الولي الأقرب“ الذي كان يقف عقبة في طريق زواج بوعز من راعوث إلى الناموس.  لماذا؟ لأن الناموس جاء أولاً، وكان يبدو أنه الطريق المنطقي للإنسان ليقترب من الله.  لاحظ أن الولي الأقرب رفض الزواج من راعوث لئلا يفسد ميراثه.  ما أقرب هذا التشبيه بالناموس! فدوره ينحصر فقط في إدانة الخطاة الأشرار لا في تحريرهم.  كما يقول رومية 7: 12 «إِذًا النَّامُوسُ مُقَدَّسٌ، وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ».  لكن كل البشر خطاة ويعلن الناموس أنهم «تحت قصاص من الله» (رو3: 19).  فالناموس لا يستطيع إظهار رحمة أو شفقة نحو الإنسان الساقط.

بقي على بوعز الآن أن يفك راعوث، كما بقي على ربنا يسوع المسيح أن يحررنا.  عمل بوعز حسب التقاليد التي أوصى بها الناموس، وأعلن «لِلشُّيُوخِ وَلِجَمِيعِ الشَّعْبِ ... رَاعُوثُ الْمُوآبِيَّةُ ... اشْتَرَيْتُهَا لِيَ امْرَأَةً ... أَنْتُمْ شُهُودٌ الْيَوْمَ» (4: 9، 10).  لكن لا بد أن نشير هنا إلى مفارقة بين بوعز والمسيح؛ فداء بوعز تم بدون سفك دماء، ولم يتطلب إلا إنفاق بعض الأموال، بينما الفداء الذي قدمه الرب يسوع كلفه حياته «افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ» (1بط1: 18، 19).

راعوث تحرَّرت وتزوجت بوعز، وحملت نسلاً لمجد الله، فكان عوبيد ابنها جد الملك داود والرب نفسه، حسب النسل البشري.  وهكذا يستطيع المفديون بدم المسيح الثمين والذين أصبح لهم شركة شخصية معه أن يعيشوا حياة مثمرة لمجد اسمه.  يقول الرسول في رومية7: 4 «إِذًا يَا إِخْوَتِي أَنْتُمْ أَيْضًا قَدْ مُتُّمْ لِلنَّامُوسِ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ لِكَيْ تَصِيرُوا لآخَرَ لِلَّذِي قَدْ أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ لِنُثْمِرَ لِلَّهِ». 

يا له من تناقض! نحن الذين كنا غرباء، وحاملين اللعنة، نستطيع الآن أن نثمر لله، وهذا هو الغرض من الحياة المسيحية.


جرانت ستيدل