كتب النبي حبقوق رسالته المُختصرة والثاقبة حوالي ٦٠٠ ق.م. قبيل اجتياح نبوخذنصر للمملكة الجنوبية مباشرة، ليحمل الكثيرين من شعبها إلى السبي في بابل. لقد أطلق أنبياء معاصرين - منهم إرميا وصفنيا - نداءات مُخلصة للتوبة، في جهادهم مع شعب يهوذا. لكن حبقوق لم يفعل هكذا؛ إذ كان الأوان قد فات، والسبي كان وشيكًا وحتميًا.
لقد كانت هناك نهضة سابقة تحت قيادة الملك الغض يوشيا، لكن للأسف لم تدُم طويلًا. وأُعيدت عبادة البعل مرة أخرى، وجاء معها تفشي الظلم في المجتمع، في عهد الملكين يهوياقيم ويهوياكين. وكان حبقوق حزينًا على حالة شعبه الأدبية والروحية، ودخل في حوار حميم مع الرب عن هذا الأمر، وتساءل: لماذا يفلح الأشرار في النهب والعنف؟ حتى متى يمضون بلا عقاب؟ ولدهشته، قال له الرب بأنه سيستخدم الأمَّة الأشر منهم؛ أمَّة الكلدانيين (البابليين)، ليُعاقبهم بها. وهذا ما أقلق حبقوق أكثر. لماذا يستخدم الرب الكلدانيين كأدواته ليُعاقب بهم يهوذا؟ وفيما هو واقف على مَرْصَدِهِ، أراح الرب فكره بأنهم لن يفلتوا منه. والعدل لا بد أن يأخذ مجراه أخيرًا.
ووسط كل هذه الكآبة يتلألأ عدد من النقاط المُضيئة، مثلها مثل لمعان أشعة الشمس في الفراغات بين السحب، أو كأحجار كريمة متلألئة على خلفية مظلمة. وربما كانت أكثر الأمور لمعانًا هي إجابة الله النهائية، التي تلقاها حبقوق، وهو متحير على مَرْصَدِهِ: «الْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا» (حب٢: ٤). هذه الآية المُميَّزة تُعتبر واحدة من أعظم الإعلانات في كل العهد القديم، ويمكن أيضًا أن تُعتبر موضوعًا محوريًا في كل الكتاب.
ويُذكر في القرينة أن كبرياء الكلدانيين سيكون سببًا في خرابهم النهائي، لأن هذه «الأُمَّةَ الْمُرَّةَ الْقَاحِمَةَ»، ستُعاقَب (حب١: ٦؛ حب٣: ١٦)، وسقوطهم النهائي كان أكيدًا، بعد أن استخدمهم الرب في قصده القضائي على شعبه. إن الشر عادةً ما يحمل معه بذور خرابه. وعلى العكس، فبخصوص الأبرار من البقية التقية المستقيمة من إسرائيل، فإن أمانتهم ستكون سببًا في خلاصهم. فإيمانهم المتطلع إلى العُلى، سيجعلهم يثقون بالله، حتى في أسوأ ظروف عصيان الأمَّة وتشتتها.
وكما ذكرنا سالفَا، فإن الآية المفتاحية لنبوة حبقوق هي: «الْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا» (٢: ٤). وفي العهد الجديد، اقتبسها الرسول بولس ثلاث مرات في رسائله (رو١: ١٧؛ غل٣: ١١؛ عب١٠: ٣٨). وهو يركز في كل رسالة على كلمة واحدة من هذه الآية الثلاثية. في رسالة رومية يركز علي“الْبَارّ”، وفي رسالة غلاطية يركز على“الإِيمَانِ”، وفي رسالة العبرانيين يركز على “يَحْيَا”.
أولاً: رسالة رومية تركز على “الْبَارّ”
«لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ. لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ، لإِيمَانٍ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا»(رو١: ١٦، ١٧).
هذا المقطع من رسالة الرسول بولس إلى القديسين في رومية، يُشدِّد على فكرة البر. والله يتعامل الآن مع الناس على نفس الأساس، بغض النظر عن الجنس والعِرق. فرسالة الإنجيل واحدة للجميع.
ومن خلال موت المسيح الكفاري، فإن الله البار العادل، قادر أن يُعطي الناس، أن يقفوا في برٍّ كامل أمامه. فبرّه يُنسَب إليهم (وُضع في حسابهم)؛ صار ملكًا لهم بالإيمان بالمسيح، وبعمله التام على صليب الجلجثة. وهم بدورهم يتبررون، وذلك بجعل العيشة في توافق مع النموذج المقدس المُعلن على صفحات الوحي. ويتحقق هذا على مبدأ الإيمان، ويتبرهن بمَن لهم إيمان. إن الحياة المسيحية هي رحلة إيمان من البداية إلى النهاية.
رسالة غلاطية تركز على “ِالإِيمَانِ”
«لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ. وَلكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ «الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا». وَلكِنَّ النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ، بَلِ الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا. اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ. لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ» (غل٣: ١٠-١٤).
لا يمكن للناس أن يتبرروا بأعمالهم. لقد حاولت الأمة اليهودية ذلك، أيام موسى، وفشلت فشلاً ذريعًا. لقد قالوا مؤكدين بجرأة وبصوت واحد: «كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ» (خر١٩: ٨؛ ٢٤: ٤، ٧)، لكنهم لم يستطيعوا أن يفوا بوعدهم، ووقعوا تحت لعنة الناموس. إن الناموس لا يطلب من الناس أن يؤمنوا، بل يصر على أن يُطيعوا. لكن المسيح - بموته على الصليب - أزال لعنة الناموس المكسور. ولا يبقى الآن سوى البركة لمَن قبلوا ما تهبه نعمته لهم، مؤمنين به بإيمان صريح وثقة.
رسالة العبرانيين تركز على “يَحْيَا”
«أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا، وَإِنِ ارْتَدَّ لاَ تُسَرُّ بِهِ نَفْسي. وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا مِنَ الارْتِدَادِ لِلْهَلاَكِ، بَلْ مِنَ الإِيمَانِ لاقْتِنَاءِ النَّفْسِ» (عب١٠: ٣٨، ٣٩).
إن الإيمان ليس مجرد عملاً مفردًا، مُورس في لحظة من الزمان في الماضي؛ بل هو أسلوب حياة. والحياة الوحيدة التي تُسرّ الله هي حياة الإيمان. إن الإيمان بالله وبره يستمر مدى الحياة، لطول المدى. أما حياة مثل التي ليهودي، أتى إلى حافة اعتناق المسيحية بالإيمان بالمسيح، لكنه رجع إلى طقوس اليهودية، فهذا لا يُجلب السرور لقلب الله المحب. من الناحية الأخرى، فإن حياة آخر، يهودي كان أو أممي، يقبل ويؤمن ويُقدِّر وعود الله، ويُثابر إلى المنتهى، فهذا يُمكنه أن يُجلب السرور العظيم إلى قلب الله.
رسالة حبقوق لليوم
بالصواب رأى حبقوق من مَرْصَدِهِ - منذ أكثر من ٢٥ قرنًا - حتمية سبي يهوذا نتيجة لعصيانهم. لم تكن رسالته مؤرَّخة. واليوم في عالم آثم بالمثل، حطمته الزلازل، والتسونامي والأوبئة والعنف العرقي، لا زال الإيمان هو أساس أسلوب الحياة الذي يُسِر الله. وليس من بديل مقبول. لا يُمكننا اقتناء الخلاص الأبدي بالقيام بأعمال صالحة، مهما كانت مُعتبرة ومُقدّرة. علينا أن نقبل الخلاص كهبة لا نستحقها من الله. أما أعمال الرحمة والعطاء الصالحة، فستتبع ذلك في مسارها الصحيح، إذ نُمنهج حياتنا على النموذج الكامل الذي تركه لنا ربنا، لنتبعه.
إيان ليفنجستون