أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
يتكلَّم الكتاب المقدس عن ثلاث مراحل للعالم. ومن المعروف أن كلمة “العالم” ترد في الكتاب المقدس بمعانٍ مختلفة يُمكن فهم كلٌّ منها بسهولة من القرينة. فأحيانا تعني “الكَوْن”، أي الخليقة، كما جاء في عبرانيين ١١: ٣ «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ»، وفي قوله عن المسيح: «الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ» (عب١: ٢). وأحيانًا تعني الجنس البشري، كما جاء في الآية الشهيرة: «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو٣: ١٦). وأحيانًا تعني أسلوب ونظام هذا العالم ومبادئه، أي الجنس البشري في موقفه إزاء الله وإزاء الوجود على هذه الأرض. هذا هو “العالم” الذي يقول عنه الرسول يوحنا: «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ... لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ» (١يو٢: ١٥، ١٦). وهذا الموضوع يتعلَّق بتاريخ الإنسان على هذه الأرض، كما يراه الله وليس كما يراه المؤرخون البشر. بخصوص هذا العالم، أي تاريخ الإنسان على الأرض، يتكلم كتاب الله المقدس عن ثلاث مراحل: أولاً: عالم ما قبل الطوفان: يقول عنه الرسول بطرس: «اللَّوَاتِي بِهِنَّ الْعَالَمُ الْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ» (٢بط٣: ٦). ثانيًا: العالم الكائن الآن: أي منذ الطوفان، وإلى أن يأتي المسيح ليملك على هذه الأرض. وهو العالم الذي يصفه الوحي المقدس بأنه «الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ» (غل١: ٤). ثالثًا: العالم الآتي: يقول عنه الكتاب: «فَإِنَّهُ لِمَلاَئِكَةٍ لَمْ يُخْضِعِ الْعَالَمَ الْعَتِيدَ (في المستقبل) الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ» (عب٢: ٥). ويُخبرنا أنه سيُخْضَع ليسوع الذي «نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ» (ع٩). وهذا العالم العتيد يبدأ بمجيء المسيح الثاني ليملك كملك الملوك ورب الأرباب، وينتهي بالقضاء النهائي على الشر، وطرح إبليس في جهنم النار ودينونة العرش العظيم الأبيض، ثم الحالة الأبدية. أما بخصوص العالم الماضي، أو العالم القديم، عالم ما قبل الطوفان، وهو العالم الذي «فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ» (٢بط٣: ٦)، فقد ابتدأ تاريخ ذلك العالم بآدم وحواء اللذين بهما «دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رو٥: ١٢). ووُلِد لآدم وحواء ابن اسمه قايين وآخر اسمه هابيل «وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ» (تك٤: ٨). من ذلك نرى أن العالم الذي هلك بالطوفان اتصف بالعصيان والإجرام من أوله. وازداد الشر جدًا، «وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ» (تك٦: ٥، ٦). إن الله ليس إلهًا لا يُبالي. فهو خلق الإنسان على صورته وكشبهه. ولكن الخطية شوّهت هذه الصورة. وبعد أن كان الرب قد سلَّط الإنسان على الأرض والبحر، أصبح الإنسان غير صالح لهذا الأمر، وغير نافع «فَقَالَ الرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ» (تك٦: ٧). ومع ذلك فإن الله لم يهلكه في الحال، بل أعطى الإنسان مدة ١٢٠ سنة كان فيها نوح، الذي وجد نعمة في عيني الرب، يكرز للناس وينذرهم. ولكن للأسف لم ينجُ إلاّ ثمانية أشخاص. ولمدة ١٢٠ سنة كان نوح «كَارِزًا لِلْبِرِّ» (٢بط٢: ٥). ولكن ماذا كان الناس يعملون؟ «كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ» (مت٢٤: ٣٨، ٣٩). بعض صفات العالم القديم، عالم ما قبل الطوفان؛ أولاً: اتصف ذلك الدهر بطول الأعمار كما هو واضح في تكوين ٥. إذ كانوا يعيشون مئات السنين، فعاش بعضهم ٨٠٠ أو ٩٠٠ سنة أو أكثر. وقد يندهش البعض من هذا، ولكنه كان أمراً لازمًا لسببين على الأقل: السبب الأول هو لتتميم الهدف الإلهي أن يُثمروا ويكثرُوا ويملأُوا الأرض (تك١: ٢٨). وعلَّق البعض على هذا بالقول: إن هذه هي الوصية الوحيدة التي أطاعها الإنسان، فلم يكونوا فقط طوال الأعمار، ولكنهم ولدوا بنين وبنات خلال مئات السنين التي عاشها كلٌّ منهم كما يخبرنا في تكوين ٥. والسبب الآخر الذي من أجله أعطاهم الله الأعمار الطويلة هو لكي تنتقل الشهادة شفويًا من جيل لآخر، أي لكي يشهد الجيل الأول مرارًا كثيرة - خلال السنين الطويلة التي عاشوها - بما رأوه وسمعوه للأجيال التي تليه. فمثلاً، كان متوشالح مُعاصرًا لآدم حوالي ٢٠٠ سنة، كما كان معاصرًا لسام ابن نوح لحوالي ١٠٠ سنة. ومات متوشالح قبل الطوفان مباشرة، أما سام فعاش بعد الطوفان ٥٠٠ سنة (تك١١: ١١)، وكان معاصرًا لإبراهيم خليل الله طوال حياة إبراهيم (تك١١: ١٠-٢٦). ولهذا كله أهمية واضحة، إذ لم يكن عندهم وحيٌ مُدوَّن، أي لم يكن أي جزء من الكتاب المقدس قد كُتب بعد، فكانت الشهادة الشفوية بواسطة شهود عيان لازمة جدًا. لذلك نجد في الآثار قصة الطوفان عند شعوب وثنية، ولعل أشهرها ما جاء في الآثار البابلية، إذ فيها شَبَهٌ كبير للحقيقة مع بعض التشويش. ثانيًا: لم يكن ذلك العصر بدون حضارة كما يظن البعض. فبعد أن طُرد قايين من وجه الرب وصار «تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ» (تك٤: ١٤)، أنجب ابنًا اسمه “حَنُوكَ” «وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً، فَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ كَاسْمِ ابْنِهِ حَنُوكَ» (تك٤: ١٧). وبناء مدينة هو لا شك لازم للحضارة. وجاء من سلالته من قاموا بالنجارة والصناعة والموسيقى (تك٤: ٢٠-٢٢). ثالثًا: جاء تعدد الزوجات بواسطة “لاَمَك” الذي من نسل قايين، وازداد الشر إلى أن بلغ أقصى حدوده في أيام نوح، حتى قرر الله أن يُرسل الطوفان ليُهلك الأشرار، ولكن ذلك العالم اتصف بعدم المبالاة كما ذكرنا. وكان الأجدر بالجنس البشري، أن يجد في الطوفان عِبرة، ولكن للأسف الشديد دخلت الخطية مرة أخرى بعد الطوفان مباشرة. وتجاهل الناس حادثة الطوفان أو تناسوها، أو أنكروا حقيقتها. فكانت النتيجة ما نراه في عالمنا الحاضر الشرير.
 
 
عدد نوفمبر السنة 2021
كُنْ مُصلِّيًا فِي كُلِّ شَيْءٍ!
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ،
لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ» (في٤: ٦)

كتب أحد الكتّاب المؤمنين: “عادة وأنا أصلى لا أتحدث مع الله عن الأمور التي تشغلني بالفعل، لأنها ليست أمورًا روحية، لذلك أصلي من أجل السلام في العالم أو للإرساليات، أو لأي شيء من هذا القبيل. لكن يظل ذهني يهيم عائدًا إلى ما يشغل قلبي بالفعل”. والحل لمشكلة هذا الذهن الشارد متضمنه في عبارة «فِي كُلِّ شَيْءٍ»، إذ عليَّ أن أُصلي لما بداخلي، وليس لما أرجو أن يكون فيَّ. فأن أصلي لما هو في قلبي بالفعل، هو من نوع الصلاة «فِي كُلِّ شَيْءٍ»، حيث لا أنتظر حتى أُنقي دوافعي، أو حتى أبدو أكثر روحانية، بل أصلي لما هو بداخلي. فلكي تنمو في الصلاة، وتتغلب على الهم، عليك أن تبدأ بأن تكون رجل الصلاة «فِي كُلِّ شَيْءٍ»، سواء كانت طلبتك كبيرة أم صغيرة، وسواء كانت دوافعك مختلطة أم نقية، سواء كان سؤلك حكيمًا أم أحمقًا، فالله يستطيع أن يُصحح الكل. يُمكنك أن تثق في حكمة استجابته، لأنه لن يعطيك شيئًا بتهور. لكن عليك أن تتعلَّم أن تُطلق عنان صلواتك، وتثق في أن الله إن لم يستجب لك بالطريقة التي تريده أن يستجيب لك بها، فهو يعلم ما هو فاعل، وأن له أسبابه الصالحة جدًا. إنه أمر بسيط للغاية أن تداوم خلال يومك على سؤال الله: “ماذا تريد منى يا رب في هذه اللحظة؟” وعندما يُكشف لك الأمر عليك بطاعته! لا تُجادل ولا تقيسه بحسب المنطق البشري، ولا تؤجله. مهما كنت، ومهما كانت خلفيتك، يمكنك أن تفعل هذا بدءً من هذه اللحظة، وتصير رجل الصلاة «فِي كُلِّ شَيْءٍ».

كاتب غير معروف