أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
يتكلَّم الكتاب المقدس عن ثلاث مراحل للعالم. ومن المعروف أن كلمة “العالم” ترد في الكتاب المقدس بمعانٍ مختلفة يُمكن فهم كلٌّ منها بسهولة من القرينة. فأحيانا تعني “الكَوْن”، أي الخليقة، كما جاء في عبرانيين ١١: ٣ «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ»، وفي قوله عن المسيح: «الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ» (عب١: ٢). وأحيانًا تعني الجنس البشري، كما جاء في الآية الشهيرة: «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو٣: ١٦). وأحيانًا تعني أسلوب ونظام هذا العالم ومبادئه، أي الجنس البشري في موقفه إزاء الله وإزاء الوجود على هذه الأرض. هذا هو “العالم” الذي يقول عنه الرسول يوحنا: «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ... لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ» (١يو٢: ١٥، ١٦). وهذا الموضوع يتعلَّق بتاريخ الإنسان على هذه الأرض، كما يراه الله وليس كما يراه المؤرخون البشر. بخصوص هذا العالم، أي تاريخ الإنسان على الأرض، يتكلم كتاب الله المقدس عن ثلاث مراحل: أولاً: عالم ما قبل الطوفان: يقول عنه الرسول بطرس: «اللَّوَاتِي بِهِنَّ الْعَالَمُ الْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ» (٢بط٣: ٦). ثانيًا: العالم الكائن الآن: أي منذ الطوفان، وإلى أن يأتي المسيح ليملك على هذه الأرض. وهو العالم الذي يصفه الوحي المقدس بأنه «الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ» (غل١: ٤). ثالثًا: العالم الآتي: يقول عنه الكتاب: «فَإِنَّهُ لِمَلاَئِكَةٍ لَمْ يُخْضِعِ الْعَالَمَ الْعَتِيدَ (في المستقبل) الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ» (عب٢: ٥). ويُخبرنا أنه سيُخْضَع ليسوع الذي «نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ» (ع٩). وهذا العالم العتيد يبدأ بمجيء المسيح الثاني ليملك كملك الملوك ورب الأرباب، وينتهي بالقضاء النهائي على الشر، وطرح إبليس في جهنم النار ودينونة العرش العظيم الأبيض، ثم الحالة الأبدية. أما بخصوص العالم الماضي، أو العالم القديم، عالم ما قبل الطوفان، وهو العالم الذي «فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ» (٢بط٣: ٦)، فقد ابتدأ تاريخ ذلك العالم بآدم وحواء اللذين بهما «دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رو٥: ١٢). ووُلِد لآدم وحواء ابن اسمه قايين وآخر اسمه هابيل «وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ» (تك٤: ٨). من ذلك نرى أن العالم الذي هلك بالطوفان اتصف بالعصيان والإجرام من أوله. وازداد الشر جدًا، «وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ» (تك٦: ٥، ٦). إن الله ليس إلهًا لا يُبالي. فهو خلق الإنسان على صورته وكشبهه. ولكن الخطية شوّهت هذه الصورة. وبعد أن كان الرب قد سلَّط الإنسان على الأرض والبحر، أصبح الإنسان غير صالح لهذا الأمر، وغير نافع «فَقَالَ الرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ» (تك٦: ٧). ومع ذلك فإن الله لم يهلكه في الحال، بل أعطى الإنسان مدة ١٢٠ سنة كان فيها نوح، الذي وجد نعمة في عيني الرب، يكرز للناس وينذرهم. ولكن للأسف لم ينجُ إلاّ ثمانية أشخاص. ولمدة ١٢٠ سنة كان نوح «كَارِزًا لِلْبِرِّ» (٢بط٢: ٥). ولكن ماذا كان الناس يعملون؟ «كَانُوا فِي الأَيَّامِ الَّتِي قَبْلَ الطُّوفَانِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُزَوِّجُونَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ نُوحٌ الْفُلْكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَخَذَ الْجَمِيعَ» (مت٢٤: ٣٨، ٣٩). بعض صفات العالم القديم، عالم ما قبل الطوفان؛ أولاً: اتصف ذلك الدهر بطول الأعمار كما هو واضح في تكوين ٥. إذ كانوا يعيشون مئات السنين، فعاش بعضهم ٨٠٠ أو ٩٠٠ سنة أو أكثر. وقد يندهش البعض من هذا، ولكنه كان أمراً لازمًا لسببين على الأقل: السبب الأول هو لتتميم الهدف الإلهي أن يُثمروا ويكثرُوا ويملأُوا الأرض (تك١: ٢٨). وعلَّق البعض على هذا بالقول: إن هذه هي الوصية الوحيدة التي أطاعها الإنسان، فلم يكونوا فقط طوال الأعمار، ولكنهم ولدوا بنين وبنات خلال مئات السنين التي عاشها كلٌّ منهم كما يخبرنا في تكوين ٥. والسبب الآخر الذي من أجله أعطاهم الله الأعمار الطويلة هو لكي تنتقل الشهادة شفويًا من جيل لآخر، أي لكي يشهد الجيل الأول مرارًا كثيرة - خلال السنين الطويلة التي عاشوها - بما رأوه وسمعوه للأجيال التي تليه. فمثلاً، كان متوشالح مُعاصرًا لآدم حوالي ٢٠٠ سنة، كما كان معاصرًا لسام ابن نوح لحوالي ١٠٠ سنة. ومات متوشالح قبل الطوفان مباشرة، أما سام فعاش بعد الطوفان ٥٠٠ سنة (تك١١: ١١)، وكان معاصرًا لإبراهيم خليل الله طوال حياة إبراهيم (تك١١: ١٠-٢٦). ولهذا كله أهمية واضحة، إذ لم يكن عندهم وحيٌ مُدوَّن، أي لم يكن أي جزء من الكتاب المقدس قد كُتب بعد، فكانت الشهادة الشفوية بواسطة شهود عيان لازمة جدًا. لذلك نجد في الآثار قصة الطوفان عند شعوب وثنية، ولعل أشهرها ما جاء في الآثار البابلية، إذ فيها شَبَهٌ كبير للحقيقة مع بعض التشويش. ثانيًا: لم يكن ذلك العصر بدون حضارة كما يظن البعض. فبعد أن طُرد قايين من وجه الرب وصار «تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ» (تك٤: ١٤)، أنجب ابنًا اسمه “حَنُوكَ” «وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً، فَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ كَاسْمِ ابْنِهِ حَنُوكَ» (تك٤: ١٧). وبناء مدينة هو لا شك لازم للحضارة. وجاء من سلالته من قاموا بالنجارة والصناعة والموسيقى (تك٤: ٢٠-٢٢). ثالثًا: جاء تعدد الزوجات بواسطة “لاَمَك” الذي من نسل قايين، وازداد الشر إلى أن بلغ أقصى حدوده في أيام نوح، حتى قرر الله أن يُرسل الطوفان ليُهلك الأشرار، ولكن ذلك العالم اتصف بعدم المبالاة كما ذكرنا. وكان الأجدر بالجنس البشري، أن يجد في الطوفان عِبرة، ولكن للأسف الشديد دخلت الخطية مرة أخرى بعد الطوفان مباشرة. وتجاهل الناس حادثة الطوفان أو تناسوها، أو أنكروا حقيقتها. فكانت النتيجة ما نراه في عالمنا الحاضر الشرير.
 
 
عدد نوفمبر السنة 2021
داود والثأر للجبعونيين
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«وَكَانَ جُوعٌ فِي أَيَّامِ دَاوُدَ ثَلاَثَ سِنِينَ، سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ، فَطَلَبَ دَاوُدُ وَجْهَ الرَّبِّ. فَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَ لأَجْلِ شَاوُلَ وَلأَجْلِ بَيْتِ الدِّمَاءِ، لأَنَّهُ قَتَلَ الْجِبْعُونِيِّينَ. فَدَعَا الْمَلِكُ الْجِبْعُونِيِّينَ وَقَالَ لَهُمْ. وَالْجِبْعُونِيُّونَ لَيْسُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلْ مِنْ بَقَايَا الأَمُورِيِّينَ، وَقَدْ حَلَفَ لَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَطَلَبَ شَاوُلُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ لأَجْلِ غَيْرَتِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا» (٢صم٢١: ١، ٢).

إن حكومة الله لا تتجاهل الشر كيفما كان، وأحكامه لا تسقط بالتقادم. ويصبح الحكم أكثر صرامة عندما ترتفع حالة الجماعة الروحية. وكانت قد انقضت سنوات منذ أفعال شاول الدموية. وهذه الحادثة؛ قتل الجبعونيين، لم تُذكَر في تاريخ شاول الملكي، وربما كان الشعب قد نسيها، وربما لم يسمع بها داود وسط ضغوطه. ولكن الله لم ينسَ ما فعله شاول، وظل هذا الفعل أمام عينيه. فإذا كانت جماعة إسرائيل غير مُتضمَّنة في هذه الجريمة، وشاول الذي اقترفها قد مات منذ وقت بعيد، فلماذا يسترجعها الله مرة أخرى؟ إنه مبدأ في طرق الله، سواء مع شعبه القديم أو مع الكنيسة. فالشعب مُرتبط بأفعال الملك، وانتهاك التعهدات والأقسام التي كانت باسم الرب (يش٩: ١٨)، جعلت الشعب مُذنبًا بالخطية التي اقترفها رئيسهم. ومضى جيل وأتى غيره منذ أن تم هذا العمل، وربما يتعلل الشعب بجهلهم بهذه المسألة، ولكن الجريمة باقية. وفي الوقت المُعيَّن يسترجعها الله. إنه يُسجِّل كل شيء، ولا شيء يُمحَى مما كتبه الله.

لقد استخدم الأموريون الحيلة لتقبلهم جماعة إسرائيل، ويُنقَذُوا من القضاء الواقع عليهم. واعتبر الله أن ما تعهَّدت به الجماعة أمامه أصبح مُلزِمًا لهم. ولا شك أن وضع الجبعونيين كعبيد لشعب الله قد حرَّر إسرائيل من نتائج القرار الخاطئ الذي اتخذوه تجاههم بجهل، دون أن يسألوا الرب. أما نتائج القرار الذي اتُّخذ بحسب الجسد فيبقى دائمًا ساريًا، لأن الله سمح بذلك. وقام شاول ليحكم بطريقة مُخالفة، وهو إنسان بحسب الجسد، ويفعل دائمًا إرادته الذاتية، وهي عكس إرادة الله. «وَطَلَبَ شَاوُلُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ لأَجْلِ غَيْرَتِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا» (ع٢). لقد قطع شاول السحرة والعرافين من الأرض، لكنه ترك عرَّافة عين دور، وكان يعرف أن آخرين يُمارسون هذا الشر في الخفاء. فهل يصلح أن نغار للرب ضد بعض الشرور ونتهاون إزاء البعض الآخر؟ ونحن نعرف أن شاول هذا كان مملوءًا غيرة وكراهية لداود مسيح الرب. كما كان شاول الطرسوسي مملوءًا غيرة كذلك، مما جعله يضطهد المسيح وأتباعه بإفراط (أع٩: ١). وفي يوم سابق تصرف الملك شاول بحماقة، وطلب أن يقتل ابنه يوناثان، وهو الذي خلَّص إسرائيل، لأجل اندفاعه بقسم أحمق اتخذه دون الرجوع إلى الرب (١صم١٤: ٢٤، ٤٤). وهنا نجد شاول نفسه يحتقر القسم الذي اتخذه يشوع ورؤساء جماعة إسرائيل، وربطوا أنفسهم به باسم الرب تجاه الجبعونيين. لقد فشل شاول فيما أمره به الرب من جهة عماليق، فأراد أن ينجح فيما لم يأمره به الرب بقتل الجبعونيين.

أصابت المجاعة إسرائيل ثلاث سنوات متتالية، وتوالى القضاء على شعب الله. ويبدو أن ضمير داود كان مُتبلِّدًا في هذه الفترة فلم يتحرَّك، ولم يشعر بيد الرب التي ثقلت على شعبه، فلم يسأل الرب بعد سنة أو سنتين من المجاعة، لكنه استيقظ في نهاية ثلاث سنوات. وهو أمر مُحزن وقد تكرَّر كثيرًا في تاريخ إسرائيل، خاصة في أيام حُكم القضاة. ولو رجع داود إلى الشريعة وإلى الشهادة لفهم أن هذا الجوع هو نوع من القضاء الإلهي، وليس شيئًا عابرًا (لا٢٦؛ تث٢٨). أخيرًا شعر داود باليد المؤدِّبة، «فَطَلَبَ دَاوُدُ وَجْهَ الرَّبِّ» (ع١). فهذا هو ملجأه الوحيد، وأجابه الله على الفور «هُوَ لأَجْلِ شَاوُلَ وَلأَجْلِ بَيْتِ الدِّمَاءِ، لأَنَّهُ قَتَلَ الْجِبْعُونِيِّينَ».

في يوم لاحق خرج شمعي ابن جيرا البنياميني ليَسُبّ داود ويرشقه بالحجارة في يوم محنته قائلاً: «اخْرُجِ! اخْرُجْ يَا رَجُلَ الدِّمَاءِ وَرَجُلَ بَلِيَّعَالَ! قَدْ رَدَّ الرَّبُّ عَلَيْكَ كُلَّ دِمَاءِ بَيْتِ شَاوُلَ ... لأَنَّكَ رَجُلُ دِمَاءٍ» (٢صم١٦: ٧، ٨). لكن هنا أتى الوقت ليكشف الله عن فكره إزاء هذا الاتهام، فقد وصف الله بيت شاول أنه هو «بَيْتِ الدِّمَاءِ»، وليس داود أو بيته.

وبعد أن سأل داود الرب ليعلم سبب التأديب، كان عليه أن يسأل الرب تجاه الأسلوب العادل الذي يلزم أن يتخذه تجاه الجبعونيين لأجل التكفير عن الذنب. وبدلاً من ذلك فقد سأل الجبعونيين قائلاً:

«مَاذَا أَفْعَلُ لَكُمْ؟ وَبِمَاذَا أُكَفِّرُ فَتُبَارِكُوا نَصِيبَ الرَّبِّ؟ فَقَالَ لَهُ الْجِبْعُونِيُّونَ: لَيْسَ لَنَا فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ عِنْدَ شَاوُلَ ... فَلْنُعْطَ سَبْعَةَ رِجَال مِنْ بَنِيهِ فَنَصْلِبَهُمْ لِلرَّبِّ فِي جِبْعَةِ شَاوُلَ مُخْتَارِ الرَّبِّ. فَقَالَ الْمَلِكُ: أَنَا أُعْطِي» (٢صم٢١: ٣-٦).

قال الجبعونيون: «لَيْسَ لَنَا فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ عِنْدَ شَاوُلَ وَلاَ عِنْدَ بَيْتِهِ» (ع٤). فهذه لا تُكَفِّر عن النفس ولا تُرضي الله. وهذا ما نقرأه في سفر حزقيا «يُلْقُونَ فِضَّتَهُمْ فِي الشَّوَارِعِ، وَذَهَبُهُمْ يَكُونُ لِنَجَاسَةٍ. لاَ تَسْتَطِيعُ فِضَّتُهُمْ وَذَهَبُهُمْ إِنْقَاذَهُمْ فِي يَوْمِ غَضَبِ الرَّبِّ» (حز٧: ١٩). وفي سفر صفنيا نقرأ القول: «لاَ فِضَّتُهُمْ وَلاَ ذَهَبُهُمْ يَسْتَطِيعُ إِنْقَاذَهُمْ في يَوْمِ غَضَبِ الرَّبِّ» (صف١: ١٨). إن الحاجة العظمى للإنسان هي النعمة المؤسسة على كفارة المسيح وسفك دمه الكريم. وهذا ما قاله بطرس للأعرج عند باب الجميل في الهيكل: «لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلكِنِ الَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامْشِ!» (أع٣: ٦). وقال للمؤمنين في رسالته: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ ... بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (١بط١: ١٨-٢٠).

ارتضى داود باقتراح الجبعونيين، مُخالفًا وصية صريحة في الناموس تقول: «لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأَوْلاَدِ، وَلاَ يُقْتَلُ الأَوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ. كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيَّتِهِ يُقْتَلُ» (تث٢٤: ١٦). لقد قتل السبعة وعلَّقهم على الصلبان في ابتداء حصاد الشعير (في شهر أبريل)، وتركهم نحو ستة أشهر حتى انصب الماء، أي حتى نزل المطر (في شهر أكتوبر). لقد صاروا عظامًا يابسة. وهو بذلك كسر وصية أخرى صريحة في الناموس تقول: «وَإِذَا كَانَ عَلَى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا الْمَوْتُ، فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، بَلْ تَدْفِنُهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلاَ تُنَجِّسْ أَرْضَكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا» (تث٢١: ٢٢، ٢٣).

«وَأَشْفَقَ الْمَلِكُ عَلَى مَفِيبُوشَثَ بْنِ يُونَاثَانَ بْنِ شَاوُلَ مِنْ أَجْلِ يَمِينِ الرَّبِّ الَّتِي بَيْنَهُمَا، بَيْنَ دَاوُدَ وَيُونَاثَانَ بْنِ شَاوُلَ» (٢صم٢١: ٧).

عفا داود عن مفيبوشث، ليس لاستحقاق فيه، بل من أجل خاطر يوناثان المحبوب. وداود الذي تعامل معه بقسوة ظاهرة في وقت سابق بسبب وشاية صيبا (٢صم١٦؛ ١٩)، فإنه الآن يكشف عن وفائه للعهد والقسم مع يوناثان، حيث استحلفه ألا يقطع معروفه عن بيته إلى الأبد، ولا حين يقطع الرب أعداء داود جميعًا عن وجه الأرض. وقال له: «الرَّبُّ يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ نَسْلِي وَنَسْلِكَ إِلَى الأَبَدِ» (١صم٢٠: ١٥، ٤٢). وهذا العهد هو رمز لوعد الحياة الأبدية الذي وعد به الآب ابنه الحبيب في الأزل من جهة كل مَن يُؤمن به لكي يتمتع بالحياة الأبدية، ولا يأتي إلى دينونة (تي١: ٢؛ ٢تي١: ١). وهذا هو الضمان الأبدي لنا.

رصفة وأولادها

وكان لرِصْفَةَ ابْنَةِ أَيَّةَ سُريَّة شاول ابنان، وبنو ميكال (أو ميرب) ابنة شاول خمسة أبناء، ولدتهم لعدرئيل المحولي (١صم١٨: ١٩). أخذهم داود «وَسَلَّمَهُمْ إِلَى يَدِ الْجِبْعُونِيِّينَ، فَصَلَبُوهُمْ عَلَى الْجَبَلِ أَمَامَ الرَّبِّ. فَسَقَطَ السَّبْعَةُ مَعًا وَقُتِلُوا فِي أَيَّامِ الْحَصَادِ، فِي أَوَّلِهَا فِي ابْتِدَاءِ حَصَادِ الشَّعِيرِ. فَأَخَذَتْ رِصْفَةُ ابْنَةُ أَيَّةَ مِسْحًا وَفَرَشَتْهُ لِنَفْسِهَا عَلَى الصَّخْرِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْحَصَادِ حَتَّى انْصَبَّ الْمَاءُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَمْ تَدَعْ طُيُورَ السَّمَاءِ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ نَهَارًا، وَلاَ حَيَوَانَاتِ الْحَقْلِ لَيْلاً. فَأُخْبِرَ دَاوُدُ بِمَا فَعَلَتْ ... فَذَهَبَ دَاوُدُ وَأَخَذَ عِظَامَ شَاوُلَ وَعِظَامَ يُونَاثَانَ ابْنِهِ مِنْ أَهْلِ يَابِيشِ جِلْعَادَ ... وَجَمَعُوا عِظَامَ الْمَصْلُوبِينَ، وَدَفَنُوا عِظَامَ شَاوُلَ وَيُونَاثَانَ ابْنِهِ ... فِي قَبْرِ قَيْسَ أَبِيهِ، وَعَمِلُوا كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الْمَلِكُ. وَبَعْدَ ذلِكَ اسْتَجَابَ اللهُ مِنْ أَجْلِ الأَرْضِ» (٢صم٢١: ٩ -١٤).

إن رِصْفَة ابْنَةِ أَيَّةَ، والتي كانت سُريَّة شاول، وهي أم لاثنين من السبعة، وهي التي ذُكرت قبلاً بالارتباط بالخلاف الذي حدث بين إيشبوشث وأبنير (٢صم٣: ٧)، فقد عملت عملاً حسنًا، وتصرفت تصرفًا تقويًا يستحق التخليد في ذاكرة المؤمنين. فقد جعلت نفسها حارسة للجثث السبعة لقرابة ستة أشهر. والدافع لهذه التقوى لم يكن بسبب أن اثنين من هؤلاء السبعة هما أولادها، إذ كانت تحرس جثث الخمسة الآخرين. فقد اعتنت بذرية شاول الذي قال عنه الجبعونيون «مُخْتَارِ الرَّبِّ» (ع٦).

لقد فرشت لنفسها مِسْحًا، وفي حزنها العميق جلست على الصخر طوال هذه المدة لتحرس أجساد الموتى من الجوارح نهارًا والوحوش ليلاً. وكانت تتطلع إلى هذا المنظر الرهيب بقلب كسير وعيون دامعة. لقد أكرمت أجسادهم، ولم تسمح أن يُعامَلوا كما يُعامل المجرمون والأشرار.

وفي مفارقة هائلة بين هذا المشهد، حيث جلست الأم أمام المصلوبين، وبين المشهد الأروع والأرهب عند صليب يسوع، حيث كانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه. مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية، ومعهن يوحنا الحبيب، ذلك التلميذ الذي كان يسوع يحبه. فإننا نلاحظ ما يلي:

(١) المصلوبين هنا هم أبناء شاول وجميعهم أشرار وينتمون إلى بيت شاول، بيت الدماء؛ أما المصلوب في الجلجثة فهو ابن الله، قدوس الله، ابن محبته، وموضوع سروره من الأزل وإلى الأبد. وهو الذي سفك دمه فدية لأجلنا.

(٢) الأم هنا هي رِصْفَة سُريَّة شاول التي تنجست بالعلاقة مع أبنير رئيس جيش شاول (٢صم ٣)؛ أما عند الجلجثة فالأم هي القديسة المطوبة مريم، المثال الرائع للطهر والعفاف، والتي وردت عنها النبوة (إش٧: ١٤).

(٣) سبب الصلب هو ما فعله شاول من ذنب، وما فعلوه هم. فالجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. أما المسيح في الجلجثة فقد مات لأجل الفجار، البار من أجل الأثمة لكي يقربنا إلى الله.

(٤) مُدة الصلب: مكث هؤلاء نحو ستة أشهر كاملة. أما المسيح فمكث على الصليب ست ساعات فقط. وفي القبر مكث ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، ثم قام من بين الأموات.

(٥) منظر المصلوبين الذي كان أمام رِصْفَة طيلة هذه المدة كان مُقززًا جدًا بسبب فساد أجسادهم ورائحتها الكريهة. أما المسيح فكان رائحة سرور للرب في حياته وموته. وجسده القدوس لم يرَ فسادًا. وفي القبر كان محاطًا بالأطياب التي أحضرها نيقوديموس، وهي مزيج مُرٍ وعود نحو مئة منًا (يو١٩: ٣٩). وقد قام في فجر الأحد ناقضًا أوجاع الموت إذ لم يكن مُمكنًا أن يُمسَك منه.

(٦) رِصْفَة فرشت لنفسها مسوحًا، وظلت تتطلع إلى هذا المنظر الكئيب في حزن عميق، بلا رجاء. أما نحن، فإذ قد لبسنا ثياب الخلاص ورداء البر، وليس المسوح؛ فإننا كلما اجتمعنا حول الرب لنذكر موته وقصة حبه العجيب، فإنما نجتمع بمشاعر الفرح الغامر، لشخص حي مُمجَّد في الأعالي، قد غلب الموت وقام، ولنا رجاء أننا سنراه عن قريب، ونكون معه طول الأبدية.

(٧) رِصْفَة جلست على الصخر، أما نحن فنجلس على مائدة الرب، ونتمتع بأسمى صور الشركة.

(٨) نتيجة صلب هؤلاء السبعة هو إرضاء الجبعونيين، وعودة المطر. أما نتيجة صلب ابن الله فهي رضى الله ونزول الروح القدس (المطر المبكر)، وبركة العالم حيث يُقدِّم الله نعمته للجميع.

فما أعظم نتائج صليب المسيح!

إن ما عملته رِصْفَة وهي تدافع عن الجثث يُذكرنا بما فعله أبرام يوم قدَّم الذبائح، وهي أساس العهد، وضمان الميراث، حيث نزلت الجوارح على الجثث (الذبائح) وكان أبرام يزجرها، ولم يسمح لهذه الجوارح أن تنال شيئًا من الذبائح (تك١٥: ١١). وهذا يُذكرنا أيضًا بما قاله بولس: «عَالِمِينَ أَنِّي مَوْضُوعٌ لِحِمَايَةِ الإِنْجِيلِ» (في١: ١٧). وهي مسؤولية كل شخص مسيحي حقيقي أمين للرب أن يُدافع عن حق الإنجيل، وعن ذبيحة المسيح على صليب الجلجثة، كالأساس الوحيد للكفارة وإرضاء الله، ضد أي هجوم شيطاني أو بشري، بكل ثبات وصمود.

وفي المستقبل، أشار آساف إلى ما سيفعله الأمم بشعب الرب في الضيقة العظيمة، قائلاً: «اَلَّلهُمَّ، إِنَّ الأُمَمَ قَدْ دَخَلُوا مِيرَاثَكَ. نَجَّسُوا هَيْكَلَ قُدْسِكَ. جَعَلُوا أُورُشَلِيمَ أَكْوَامًا. دَفَعُوا جُثَثَ عَبِيدِكَ طَعَامًا لِطُيُورِ السَّمَاءِ، لَحْمَ أَتْقِيَائِكَ لِوُحُوشِ الأَرْضِ» (مز٧٩: ١، ٢).

أخيرًا نرى كيف كوفئ إيمان رِصْفَة «فَأُخْبِرَ دَاوُدُ بِمَا فَعَلَتْ رِصْفَةُ» (ع١١)، وهذا وجد ترحيبًا في قلب داود، فجمع عظامهم وعظام شاول ويوناثان ودفها في أرض بنيامين في قبر قيس. وبعد ذلك استجاب الله من أجل الأرض (٢صم٢١: ١٢-١٤).

محب نصيف

محب نصيف