من الممتع والمفيد في آن معًا أن ننتبه إلى الطريقة التي وجد بها هؤلاء التلاميذ الأولون، المُخلِّص. فلم يأتوا جميعهم إليه بالطريقة ذاتها، لأن الله لا يحدّ نفسه في إطار طريقة خاصة، فهو مطلق في ذلك كما هو في كل شيء. وحسن أننا نحفظ ذلك في داخلنا، لأنه من شأنه أن يقشع كل شك، ويُزيل كل حيرة. فكثيرون استمعوا إلى شهادة البعض بشأن رجوعهم إلى الله، ولاموا أنفسهم، بل عيَّروها، لأن اختبارهم مختلف. ومن ثم صاروا بائسين. كم كثيرة تلك الكنائس التي تعقد احتفاليات مطولة في ذكرى تأسيسها على مدى أسبوعين، ثم تتجاهل النفوس في الخمسين أسبوعًا المتبقية من السنة، كأنّ لا أحد في حاجة للخلاص! وكم يتصوَّر الكثيرون أن الخاطئ لا يمكن أن يخلص إلا من خلال “مقعد النواح”! ولكن كل ذلك لا يعدو أن يكون نوعًا من حصر الله في “أُطر جامدة” أي أفكار محدودة عن الله، تبارك اسمه. فمن الأربع حالات الموصوف رجوعها إلى الله في فقرتنا (نقول أربعة لأن الاثنين المذكورين في ع35 مرتبطان معًا)، لم يتشابه منها اثنتان!
الاثنان الأولان سمعا مبشِّرًا يُعلن المسيح “كحَمَل الله” مما حفَّزهما على طلب المُخلِّص لنفسيهما.
والشخصية الثانية، سمعان بطرس، أُحضر إلى المسيح بواسطة أخيه الذي كان قد وجد المسيح وتبعه في اليوم السابق.
والشخصية الثالثة، فيلبس، بدا كأن أحدًا من المؤمنين لم يهتم به، ولا مخلوق آخر اهتم بالبحث عنه، بل نقرأ: «فِي الْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَلِيلِ، فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي» (يو1: 43).
والأخير، نثنائيل، دعاه فيلبس الراجع توًا إلى الرب، دعوة رقيقة، أن يأتي وينظر المسيح لنفسه. ويبدو أنه بينما كان يهم بذلك، تقدَّم إليه يسوع المُخلِّص وتقابل مع الباحث عنه.
وبوضع الأربع حالات متجاورة، نلحظ أنه في الأولى وجد المسيح إثر رسالة مبشر. في حين وجد الثاني والرابع المسيح نتيجة عمل فردي من قِبَل أحد المؤمنين. بينما لم يستخدم الله أداة بشرية في الحالة الثالثة.
وحقيقة أن التلميذين الأولين جاءا إلى المسيح كنتيجة لخدمة يوحنا المعمدان يبدو أنها تنبِّر على أن الله يضع الكرازة بالكلمة في المرتبة الأولى كوسيلة لخلاص الخطاة.
وحقيقة أنه بارك خدمة اثنين من الراجعين إليه حديثًا في العمل الفردي تُظهر أنه يُسَرّ بهذه الخدمة، ويُعوَل عليها كثيرًا في خلاص النفوس.
وحقيقة أنه خلَّص فيلبس دونما استخدام أداة بشرية تُبين أنه لا يعدم وسيلة في خلاص الخطاة حتى لو تبيَّن عدم أمانة المُبشرين في خدمتهم، وحتى لو أظهر المؤمنون أفرادًا بلادة تعوقهم عن الخروج إلى الخطاة ودعوتهم إلى الرجوع للمسيح.
وجدير بالذكر أن هؤلاء الراجعين الأوائل إلى الرب، ليس فقط رجعوا إليه بطرق متنوعة، ولكن المسيح نفسه تعامل مع كل منهم بطريقة مختلفة:
فبالنسبة للتلميذين المذكورين في العدد 35، كان ثمة سؤال فاحص: «مَاذَا تَطْلُبَانِ؟»، ليختبر دوافعهما لاتباع المسيح.
وبالنسبة لسمعان بطرس، كان ثمة برهان يُقنعه بأن المسيح عرف كل شيء عنه، متبوعًا بوعد كريم أنه سيُثَبِّت قلبه.
وبالنسبة لفيلبس لم يكن ثمة شيء إلا أمر صريح: «اتْبَعْنِي».
وبالنسبة لنثنائيل كان ثمة كلمة رقيقة تطمئنه حيال أي ضرر، وتُبرهن لقلبه أن المُخلّص يقف مستعدًا ليقبله.
وهكذا نرى أن الطبيب العظيم يتعامل مع كل إنسان وفقًا لخصائصه وأعوازه.
أخيرًا نلاحظ ملاءمة المسيح لكل أنواع البشر. فأمر مُبارك أن نجد المُخلِّص يجتذب إليه نوعيات متباينة في الخصال والمشارب والأمزجة. ثمة هواجس سطحية تدلِّل خطأً أن المسيحية تجتذب نوعًا معينًا من الناس: الحالمين، العاطفيين، ضعاف القلوب! ولكن مثل هذه الافتراضات تدحضها حقائق مبينة على استقراء الواقع. فقد سجد للمسيح وخدمه رجال ونساء من مختلف المشارب والأماكن والأمزجة. وأولئك الذي سُروا بأن يُسموا باسم ذاك الذي اسمه “فوق كل اسم”، ينتمون إلى شتى سبل الحياة: من كل أمة وعشيرة تحت الشمس؛ ملوك وملكات، رجال دولة ورجال حرب، علماء وفلاسفة، شعراء وموسيقيون، محامون وأطباء، فلاحون وصيادون... كلهم يهتفون: “مستحق ... أيها الخروف”.
وباستعراض هؤلاء الراجعين المبكرين إليه، نجد ذات المبدأ مشروحًا بوضوح:
فيبدو أن التلميذ الثاني بين تلميذي ع35 هو يوحنا، كاتب الإنجيل الرابع «التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ ... الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ الْعَشَاءِ». وكان مُكرّسًا ومُخلصًا ومُحبًّا. وكان - على ما يبدو - الوحيد من الاثنى عشر الذي وقف بقرب الصليب فيما كان المُخلِّص يتجرع غصص الموت.
ويظهر أن أندراوس كان ذا ذهن حذر يحسب حسابًا لكل شيء، وبحسب تعبير الوقت الراهن كان “رجلاً عمليًا”، فما أن أتى إلى المسيح حتى ذهب في الحال ليجد أخاه سمعان، ويُخبره الأخبار السارة أنهم قد وجدوا المسيا، وأحضره إلى يسوع. وكان أندراوس هو التلميذ الذي لاحظ الصبي صاحب أرغفة الشعير الخمسة والسمكتين الصغيرتين، قبيل إشباع الجموع الجائعة (يو6: 8، 9).
بينما كان سمعان بطرس ذا طبع ناري ومندفع، ومملوءًا غيرة. وكان فيلبس مرتابًا وماديًا، وهو الذي وجَّه إليه الرب السؤال الفاحص: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزًا لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟». وكانت إجابة فيلبس: «لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا يَسِيرًا» (يو6: 5، 7). وكان فيلبس هو الذي قال للمسيح: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا» (يو14: 8).
أما نثنائيل فلا نعرف عنه إلا القليل، كان على ما يبدو مفكرًا ومعتزلاً. عاش حياته في الظل، وكان فيما يظهر ذا طبيعة منفتحة صريحة. كان «لاَ غِشَّ فِيهِ».
ترون إذًا التباين الشاسع بين طبائع وأمزجة هؤلاء الرجال. ومع ذلك وجد كل منهم في المسيح كفايته وشبعه، سداد حاجته وملء قلبه!