اللذة المتبادلة في محضره
«حَبِيبِي نَزَلَ إِلَى جَنَّتِهِ، إِلَى خَمَائِلِ الطِّيبِ، لِيَرْعَى فِي الْجَنَّاتِ، وَيَجْمَعَ السَّوْسَنَ.
أَنَا لِحَبِيبِي وَحَبِيبِي لِي. الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ» (نش6: 2، 3).
جاء ذِكر الجنة في هذا السفر قبل هذه المرة أربع مرات، كلها على فم العريس وهو يصف عروسه، فهي بحسب تعبيره: “جنته” (4: 12، 16، 16؛ 5: 1). وفي هذه الآية التي ندرسها تقول العروس: «حبيبي نزل إلى جنته». لقد أدركت أنها بالنسبة له جنته الفيحاء. واليوم، ليس للرب في كل الأرض سوى جنة واحدة، هي الكنيسة التي اقتناها بدمه، والتي تتكون من خاصته الذين في العالم، وكل ما عداهم بَرية جرداء، وصحراء قاحلة.
لكن العروس تضيف إلى قولها السابق «حبيبي نزل.. إلى خمائل الطيب»: وآه لو عرف المؤمنون الحقيقيون من هم في تقدير حبيبهم وسيدهم! ففي عالم حيث يسود الشيطان وتتم إرادة الإنسان، ولا يتصاعد منه سوى روائح الفساد والنجاسة والكبرياء والظلم الكريهة، فإن المؤمنين الأتقياء والأنقياء، يمثلون بالنسبة للحبيب “خمائل الطيب”. وأما سجودنا في محضره فعطر ينعش قلبه.
تستطرد العروس قائلة «ليرعى في الجنات». فبالإضافة إلى الجنة (بالمفرد)، نقرأ أيضًا عن الجنات (بالجمع)، ونقرأ عنها في السفر ثلاث مرات (4: 15؛ 6: 2؛ 8: 14). وليس من الصعب أن نفهم معنى الجنات. فجنة الحبيب الكبيرة الواحدة تتكون من جنات متعددة. وفي تطبيقنا الحالي يمكن القول إن الكنيسة التي اقتناها الرب بدمه، هي جنته؛ «الكنيسة التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف1: 23)؛ الكنيسة التي أحبها وأسلم نفسه لأجلها؛ اللؤلؤة الواحدة كثيرة الثمن، التي من تقديره لها مضى وباع كل ما كان له واشتراها (مت13: 46). لكننا نعلم أيضًا أن الكنائس المحلية هي التعبير المكاني عن هذا الجسد (انظر 1كو12: 26). فإذا كنا في الجنة نرى صورة للكنيسة الواحدة، فإنه يمكننا أن نرى في الجنات صورة للكنائس المحلية، أو بالحري للاجتماعات إلى اسمه، حيث يجتمع هناك الملتمسون وجهه، ومحبو اسمه، ولهم وعده الكريم بأنه «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، هناك أكون في وسطهم» (مت18: 20).
تقول العروس: «ليرعى في الجنات ويجمع السوسن».
والسوسن كما نتعلم من أصحاح 2: 1، 2 هم المؤمنون الحقيقيون، الذين قال عنهم: «سوسنة الأودية»، وأيضًا «كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات».
إن السوسن زهرة جميلة، متعددة الألوان، توجد بكثرة في البقاع والوديان. ولقد أشار إليها الرب في الإنجيل بالقول: «تأملوا زنابق الحقول كيف تنمو»، ثم يضيف قائلاً: «ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها» (مت6: 28). ومما سبق يمكننا أن نرى في السوسن صورة جميلة للمؤمنين، الناس لا يقدرونهم، ولكنهم في الوقت ذاته هم موضوع عناية الله بنفسه، إذ إنهم باكورة من خلائقه.
على العكس من هؤلاء نقرأ عن الآخرين باعتبارهم الشوك. والشوك في الكتاب هو صورة للعنة الخطية «شوكًا وحسكًا تُنبت لك الأرض» (تك3: ). لقد أصبح العالم حقلاً مليئًا بالشوك، وهو أيضًا مليء بالأشرار، الذين عنهم يقول داود: «لكن بنى بليعال جميعهم كشوك مطروح، لأنهم لا يؤخذون بيد. والرجل الذي يمسّهم يتسلح بحديد وعصا رمح. فيحترقون بالنار في مكانهم» (2صم23: 7). هذا هو وضع الأشرار، وهذه هي نهايتهم، ولو كانوا من عظماء هذا الدهر: شوك يُحرق!! وتنتظرهم البحيرة المتقدة بالنار والكبريت (رؤ21: 8).
على العكس من ذلك السوسن (أي المؤمنين). هم موضوع الاهتمام الإلهي الآن، وينتظرهم المجد الأبدي عن قريب. والرب يُسَرّ أن يجمعهم حوله، أولئك الذين يقول عنهم: «اجمعوا إليّ أتقيائي القاطعين عهدي على ذبيحة» (مز50: 5). نعم، إن الرب يُسَرّ أن يجمع مفدييه من حوله، ويطعم أحباءه بيديه، فهو «الراعي بين السوسن» (2: 16، 6: 3).
ثم إنه نظرًا لنمو السوسن في البقاع والوديان فإنه يحدِّثنا عن الودعاء والمتضعين، أولئك الذين قال عنهم النبي: «أبقي في وسطك شعبًا بائسًا ومسكينًا فيتوكلون على اسم الرب» (صف3: 12)، وذلك بالمقابلة مع المتكبرين الذي لا يحتملهم الرب، والذين يقول عنهم في الفصل ذاته: «أنزع من وسطك مبتهجي كبريائك» (صف3: 11).
لقد نزل الحبيب هنا إلى جنته. والرب في نعمته العجيبة يتنازل ليحضر وسط اجتماعات الكنيسة، فلنا الحق أن نرنم:
| مجدًا لمن تنازل | | حتى ينير المحفل |
| مجدًا لمن في وسطنا | | مجدًا لساكن العلا |
وهو يُسَرّ بأن يرعى في الجنات (الاجتماعات المحلية)، ويجمع السوسن (الودعاء والأنقياء القلب). نعم، إن هذه الاجتماعات بالنسبة للرب وبالنسبة للمؤمنين، هي جنات. ما ألذ الوجود فيها، حيث تختبر النفس الهدوء والسكينة والسلام، وتردِّد مع المرنم: هذه الخُلوة جنة حلوة! وما أسعد من يحيطون بربنا يسوع المسيح راعي الخراف العظيم!
إننا في هذه الجنات نستمتع بالشركة مع فادينا ومعبود قلوبنا، كما نستمتع فيها أيضًا بشركتنا بعضنا مع بعض.
قد تكون الاجتماعات بسيطة العدد والمظهر، فيها أشخاص قليلون، ليس لهم الحظ الوافر في أمور الزمان، ولكنهم أنقياء وأتقياء وبسطاء، يجتمعون دون تنظيمات بشرية، معتمدين على وعد المسيح بالحضور في الوسط، واجدين في حضوره كل كفايتهم، يسجدون للآب بالروح والحق. هذا السجود كم هو منعش لقلب الحبيب الذي يلذ له الوجود في هذا الاجتماع.
وعبارة “يرعى في الجنات” بحسب الأصل العبري، يمكن أن تُفهم بطريقة من اثنتين. قد نفهمها بأن الحبيب الراعي مشغول هناك بإطعام حملانه، وهو الفكر الذي سبق أن رأيناه في أصحاح 1: 7؛ أو أنه هو نفسه الذي يأكل، وهو الفكر الذي نراه في أصحاح 5: 1.
وفي الحقيقة فإن الأمرين يحدثان عندما يجمعنا الروح القدس حول شخصه. المسيح نفسه يشبع بسجودنا من حوله، كما أنه يُطعم حملانه بنفسه. ونحن نعلم أن المسيح، حتى لما كان هنا على الأرض، لم يكن يعنيه كثيرًا الأكل الحرفي، بل كان له طعام آخر ليأكل (يو4: 32). كان يجد لذته في النفوس التي يريحها من عبودية الخطية، من ثم كان يقودها للسجود للآب، من قلب فائض.
وهكذا هنا، فإن جمع السوسن من حول الراعي لا ينتج عنه ملء للبطن، بل لذة للقلب. نعم، كم يجد الرب شبعًا لنفسه عندما يجد من حوله أشخاصًا مختلفين عن باقي الناس، وسرورهم مجده. عندئذ يتم القول: «يرضى الرب بأتقيائه، بالراجين رحمته» (مز147: 11)، وأيضًا “من تعب نفسه يرى ويشبع” (إش53: 11). لكن من الجانب الآخر لا يمكن لذلك الراعي الكريم أن يترك قطيعه دون إطعام (انظر مر6: 34-44)، بل هو بنفسه حتمًا سيتولى إطعامنا وإشباعنا.
تلخيصًا لما تقدَّم نقول إنه ينبغي عندما يجمعنا الراعي من حوله أن تكون مشغوليتنا ليست بما نُطعم نحن عليه، بل بأن نسجد له، وأن نُشبعه؛ وهو من جانبه سيُشبعنا.
ونلاحظ أنه في الاجتماع إلى اسمه هو يجمع السوسن، أي يجمع المؤمنين من حوله، ونحن نجمع المن ونلتقط الحنطة (خر16؛ را 2)، أي أننا نجمع لأنفسنا كل ما يحدِّثنا عن المسيح، للذّة قلوبنا وبنياننا. نحن نتقابل مع المسيح ونزداد تعرفًا عليه، وهو يلتقي بأحباء قلبه. ما أعظم شبعنا به! وما أشد فرحته بنا!
ودعني في الختام أسأل: هل من الناحية العملية تكون اجتماعاتنا دائمًا جنّات للرب؟ هذا مُتاح حقًا لو أنه رأى في الاجتماعات ثمرًا شهيًا ونفيسًا، فيشتم عبير سجودنا ويبتهج. نحن نقول له: «عند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبي» (7: 13)، فيقول لنا: «دخلت جنتي... أكلت ... شربت» (5: 1). وأما إذا وجد الذات عاملة، ووجد الجسدانية، ووجد الأنين والتذمر والحسد والأنانية، فهل اجتماعات كهذه تكون جنة بالنسبة له؟ أيجد سروره في مثل هذه الحالة؟
أحبائي إن ذاك الذي تكلَّلت رأسه بالأشواك لأجلنا يستحق أن تكون اجتماعاتنا حوله لإكرامه جنات للذّته وشبع قلبه. وقريبًا سينزل من السماء، ويتم جمعنا الأبدي، في احتفال رائع. سيجمع الرب كل من له في هذا العالم، في ما يسميه الرسول بولس «اجتماعنا إليه» (2تس2: 1).
وتختم العروس قائلة: «أنا لحبيبي، وحبيبي لي، الراعي بين السوسن» (ع3). وهذا التعبير يشبه التعبير الوارد في ص2: 16 حيث تعبِّر المحبوبة فيه عن الامتلاك المتبادل، والعواطف المتبادلة، والألفة المتبادلة، واللذة المتبادلة. وهو ما يجب أن يميِّز المؤمن في علاقته مع حبيبه وفاديه الرب يسوع المسيح. على أننا نجد هنا نموًا في العلاقة بين الحبية والحبيب. لقد ارتقى مستواها، فما عاد شاغلها الأول بما لها، بل بما له. فهي هنا لم تقل: «حبيبي لي، وأنا له»، بل رتبت العبارة ترتيبًا أفضل إذ قالت: «أنا لحبيبي، وحبيبي لي». ويبدو أن هذا نتج بفضل ما تعلمته منه في الاجتماعات إلى اسمه، التي أشرنا إليها لتونا. لقد ارتقى مستواها إلى أعلا، ونمت في النعمة.
يوسف رياض