مرَّت السنون قبل أن نرى المُطوَّبة مريم مرة أخرى في السـجل المقدس، حيث كان آخر ظهور لها في أورشليم، عندما كان الرب يسوع في الثانية عشر من عمره، عندما ذهبت مع يوسف للاحتفال بالفصح، ثم رجعوا إلى الناصرة (لو ٢: ٤١-٥٢). ولم يَرد أي ذكر سواء عن الرب يسوع أو عن أُمِّهِ، على الأقل لمدة ١٨ سنة. وخلال كل هذا الوقت الذي استُتِر فيه، استُتِرت هي أيضًا، وهو ما يحدث - أو يجب أن يحدث - مع المؤمن «لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ»، ولكن «مَـتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ» (كو ٣: ٣، ٤). «أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَـنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يو ٣: ٢). لذلك ففي إنجيل يوحنا، وبمجرد ما بدأ الرب يسوع في الظهور لإسرائيل (يو ١: ٣١)، ظهرت المُطوَّبة مريم ثانيةً. لكن لكي نفهم هذا بطريقة صـحيحة، وأيضًا ندرك مغزى ظهورها المُتكرر لاحقًا، يجب ملاحظة إغلاق تاريخها الشخصي. فإذا ما شوهدت أو ذُكرت فيما بعد فإما بطريقة رمزية، أو لكي تُقدِّم درسًا ما، غالبًا بالارتباط بربنا يسوع. وبالرغم من عظم التقدير الذي تتمتع به، إلا أنها يجب ألا تأسر عيون شعب الله عندما يكون ابنها الرب يسوع في المشهد: فكماله ومجده وحكمته وخضوعه لمشيئة إلهه، هو ما يجب أن يشغل القارئ دون أن ينسى تفرُّد العلاقة التي قامت بين مريم وابنها.
مكتوب «وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ» (يو ٢: ١، ٢). قليلون هم الذين يشكُّون في أن كل هذا المشهد كان رمزيًا حـتى وإن كانوا على الأقل قد تعرَّفوا على التعليم النبوي الخاص برد إسرائيل المستقبلي. إن التصريح بأن هذا العرس كان في اليوم الثالث، يُشير بوضوح إلى هذه الحقيقة، سواء اعتُـبر اليوم الثالث فـترة البركة، الـتي تلي يومي الشهادة - اللذين ليوحنا المعمدان وللرب يسوع، حسب الأصـحاح الأول؛ أو أنه يشير بالأكثر إلى القيامة، وبالتالي يلقي بالظلال على حقيقة أن بركة الشعب الأرضي، وحـتى السماوي، لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق القيامة. ولكي نفهم الطابع الرمزي لهذا العرس، بالرغم من أنه قد تم فعليًا، إلا أنه قد اختـير لهذا السبب، لكن مفتاحه مع الكاتب. ومن الضروري ذكر هذا لأن البعض قد أساءوا فهم سلوك الرب الشخصي تجاه مريم، في تلك المناسبة، ناسين في فكرهم البشرى مجد ذلك الشـخص الظاهر هنا - كما في كل مكان - وكماله في كل علاقة أقامها .
إننا نقرأ «وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ. قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ» (ع ٣-٥). هذه ملحوظة لآخر من شأنها توضيح معـنى هذا الجزء من المكتوب: “في العرس لم يكن ليعرف أُمِّهِ؛ كانت هذه هي الرابطة بين علاقته الطبيعية بإسرائيل. وبالنظر إليه كمولود تحت الناموس كانت هي أُمُّهُ؛ ففصل نفسه عنها ليُتمِّم البركة”. وهذا يخدم تفسير الطابع الرمزي لهذا المشهد، كما أُشير من قبل.
وبالفعل هذا ما حدث، فإن كان المسيح قد وُلِد من امرأة تحت الناموس، فكان لا بد أن يموت عن كل هذه العلاقات الـتي مجد الله فيها تمامًا، وفدى أولئك الذين كانوا تحت الناموس، بأن جُعل لعنة لأجلهم، قبل أن يُتمِّم بركة إسرائيل. كان لا بد لحبة الحنطة أن تقع في الأرض وتموت، لتأتي بثمر كثـير (يو١٢: ٢٤).
لكن هناك شيء آخر حريٌّ بنا أن نذكره؛ وهو أن الرب يسوع كان قد سبق وأخـبر أُمِّهِ، أنه ينبغي أن يكون فيما لأبيه (لو٢: ٤٩). وإذ قد أتى ليُتمم مشيئته، فقد تمَّمها في كل خطوة بالشركة مع الآب، سواء من جهة التوقيت أو الطريقة. كما قال بنفسه: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذلِكَ» (يو٥: ١٩، ٢٠). فمن المستحيل إذًا أن يقبل اقتراحًا من أُمِّه عما يجب فعله، وحتى إن فعلت ذلك كانت مريم تدخل إلى منطقة ذات خصوصية مطلقة للآب والابن، فما كان قولها سوى حثّ على عمل الخـير، كما كان في ذات الوقت تعبـيرًا عن إيمانها بقدرة الرب يسوع، الذي لا يمكن أن ننكره عليها. أما في نطاق تكريس المسيح التام والكامل فما كان ليسمع أي صوت سوى لذاك الذي قد أتى الرب يسوع ليُتمم مشيئته. هذا يفسر لنا الكلمات: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ » (ع٤).
إن كلمات الرب يسوع لأُمِّه كان لها التأثير المقصود، وهذا واضح من حقيقة أنها لم تُجِبه بشيء، وأنها لا زالت تُعوِّل على تدخله وإظهار قدرته، حيث قالت للخدام: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ» (ع ٥).
يا لها من روعة فائقة؛ لأنه إن كانت مريم قد اندفعت بمشاعرها الجارفة خارج مكانها الصـحيح، وربما برغبتها في أن ترى ابنها معروفًا شعبيًا، إلا أنها قد عادت إلى مكانها، حال تكلَّم الرب، حتى وهي تسعى لأن يتألق بما يفوق المجد البشري (ع١١)، موصية الخدام أن يولوه طاعة كاملة «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ». إن التوافق بين مشاعر أمومتها للرب يسوع، مع إيمانها به كمَن يجب أن يُدعى ابن العلي وابن الله، لا بد أنها كانت مهمة صعبة في الروتين الحياتي اليومي وهي تتعامل معه في أكله وشربه ونومه؛ لكن الله بنفسه كان مشرفًا عليها، وكان يفتح قلبها يوميًا بالإرشاد المطلوب، مثلما حدث في عرس قانا الجليل. فاهتمامها بنقص الخمر أُزيل تمامًا، وظلت مراقبة صامتة للأحداث التالية، وبالتالي تمتعت بالامتياز الذي لا يُضاهى لكونها شاهدة على بداية معجزات الرب يسوع التي فعلها، عندما أظهر مجده علنًا، وآمن به تلاميذه (ع١١). إن تقديم ما هو إلهـي، هو جزء من مجد الله، الذي هو استعلان لما هو عليه الله في ذاته. والنتيجة في عرس قانا الجليل كانت تحويل الماء إلى خمر بقدرته المطلقة، فكانت النتيجة أن آمن به تلاميذه. لقد قبلوه قبل ذلك بالرغم من ضعف إيمانهم، لكن الآن تأكد إيمانهم، كما مريم أيضًا.
وإذ قد تمَّم الرب يسوع إرساليته في قانا الجليل نزل إلى كفرناحوم مع أمه وإخوته وتلاميذه: وبقوا هناك أيامًا ليست كثيرة (يو٢: ١٢). يبدو من هذا الجزء ومن مرقس٢: ١ بالأخص، أن مريم انتقلت من الناصرة إلى كفرناحوم. وعلى الأرجـح أن يوسف كان قد رقد آنذاك، لأنه لم يرد ذكره بعد لوقا٢: ٤٨. ولربما كان هذا هو الدافع للانتقال.