أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد ديسمبر السنة 2007
نظرة على مزمور 73
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
سفر المزامير هو سفر مُحبَّب لكلِّ المؤمنين منذ القديم، فهو يحتوي على اختبارات الأتقياء في ظروفهم المتنوِّعة: ترنيماتهم خلال شركتهم السعيدة مع إلههم، وصرخاتهم في وقت الضيق أو الخطر، وحيرتهم وقت تيهانهم عن إلههم، وتنهداتهم عند انحراف قلوبهم عنه، ودموعهم لحظة توبتهم، واعترافاتهم عند ردَّ نفوسهم. ومع أنَّ التعليم الإلهي دائمًا ثابت، والحق الكتابي هو هو لا يتغيَّر، إلاَّ أنَّ اختبارات الأتقياء متغيِّرة، تتأرجح بين القوَّة والضعف. إنَّها تتضمَّن ضحكات الانتصار ودموع الانكسار؛ فيها الارتقاء إلى الذُرى، وفيها الانحدار إلى المهاوي. والجميل في هذا المزمور الذي ندرسه أنَّه يتضمَّن هذا كله، فنرى هشاشة النَّبي، واستعادته للقوَّة؛ نشاهد تيهانه عن إلهه، ثم ردّ شركته معه؛ نستمع إلى أنينه وبعد ذلك ترنيمه. وهو يحتوي على أوضح كلمات الانحراف: «غِرتُ من المتكبِّرين إذ رأيت سلامة الأشرار»، ويحتوي أيضًا على أصدق كلمات الاعتراف: «أنا بليد ولا أفهم. صرت كبهيم عندك». كما أنَّه يتضمَّن بالإضافة إلى ذلك واحدًا من أعذب تعبيرات الشركة الصادقة مع الله: «من لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئًا في الأرض»! وضع المزمور يقع هذا المزمور في القسم الثالث من سفر المزامير (من مزمور 73 إلى 89)، وهو أوّل مزامير هذا القسم. وهذا القسم يناظر سفر اللاويين في أسفار موسى الخمسة. وكما كان سفر اللاَّويِّين مشغولاً بالمقادس والقداسة، هكذا أيضًا هذا القسم، وهكذا هذا المزمور. فهو يُحدثنا عن مقادس الله، وعن بركات الدخول إليها، بل أيضًا بركات أن يحفظ التَّقي نفسه في هذا الجو المقدَّس، جو القداسة، بما يتضمَّنه من الانفصال عن جو هذا العالم الفاسد. والقسم الثالث من سفر المزامير هو أقصر أقسامه الخمسة، إذ يتكوَّن من 17 مزمورًا فقط. والرقم 17 هو رقم الفداء والشركة المؤسسة عليه. ومن هذه المزامير فإن المزامير الأحد عشر الأولى كلها لآساف، وكان آساف من سبط لاوي. كما أنَّ أربعة منها هي لبني قورح، وهي المزامير 84؛ 85؛ 87؛ 88، وكان بنو قورح أيضًا من سبط لاوي. فمن المناسب حقًّا أنْ نقول عن هذا القسم إنَّه يتوافق مع سفر اللاَّويِّين. بالإضافة إلى ذلك فإنَّ للمقادس أهميَّة خاصة في العديد من المزامير في هذا القسم، فنحن لا ننسى أنَّ أجمل مزامير الشركة مع الله في المقادس، وهو المزمور الرابع والثمانون، وَرَدَ في هذا القسم. بالإضافة إلى مزمور 79؛ 87؛.. إلخ. كاتب المزمور: هو آساف، وهو لاوي من عشيرة الجرشونيِّين (1أخ 6: 39-43)، وقد كان مرنِّمًا، وقائدًا لإحدى الفرق الموسيقيَّة، إذ كان واحدًا من أئمَّة الغناء الثلاثة الذين تعيَّنوا بواسطة داود للقيام بخدمة التسبيح في الهيكل (قارن 1أخ 15: 19؛ 16: 5، 7؛ 25: 1، 2). كما كان له مزامير من وضعه هو، حيث نقرأ في 2أخبار 29: 30 أنَّ الملك حزقيا أمر اللاَّويِّين أن يُسبِّحوا الربّ بكلام داود، وآساف الرائي. وعليه فآساف هو كاتب للمزامير المعنونة باسمه، إنْ لم يكن لها كلها، فعلى الأقل لبعضها. ومن الآية السابقة (2أخ 29: 30) نفهم أنَّ آساف كان رائيًا، أي أنَّه كان نبيًّا (1صم 9: 9). ولهذا فمزاميره تتضمَّن أيضًا نبوَّات. ولا شك أن لهذا المزمور كباقي المزامير معاني نبوية دقيقة ورائعة. ثم إن هذا المزمور، هو أيضًا المزمور الأوَّل في مجموعة من أحد عشر مزمورًا لآساف، من مزمور73 إلى 83. والرقم 11 هو رقم الترنيم والفرح. ولو أنَّنا - بالأسف - لا نقرأ في بداية المزمور عن فرح أو ترنيم، بل عن تمرمر وأنين. لكن حمدًا لله فلا يُختَم المزمور إلاَّ وقد تبدَّل الأنين بواحد من أحلى تعبيرات الفرح والشبع بالربّ، قَلَّ أن نجد مثيلاً لها في كل الكتاب المقدَّس. وبالإضافة إلى هذه المجموعة من الأحد عشر مزمورًا التي تبدأ كتاب المزامير الثالث، كتب آساف أيضًا مزمور 50، فيكون جملة ما كتبه آساف هو 12 مزمورًا. موضوع المزمور: موضوع هذا المزمور هو عثرة الإيمان إزاء نجاح الأشرار، أو بكلمات أخرى معاناة الأبرار ورخاء الأشرار. والحقيقة أنَّ هذه المشكلة لا تخص جيلاً بذاته ولا زمانًا دون غيره، ولا جنسًا دون سواه؛ بل هي مشكلة قديمة جدًّا قِدَم الإنسان، أربكت وحيَّرت العديد من الأتقياء على مرّ الزمان. ونحن نقرأ عن هذه المشكلة عينها في واحد من أقدم أسفار الوحي، هو سفر أيوب، حيث يقول أيوب في شَجنه وحيرته: «لماذا تحيا الأشرار ويشيخون، نعم ويتجبَّرون قوَّة؟!» (أي 21: 7). من استطاع أن يُجيب عن هذا السؤال إجابة شافية وكاملة؟ لا أحد. ولذا فقد تنازل الله ليُعطينا في كلمته بعض المفاتيح الهامة لحل هذه الأحجية الأكثر تعقيدًا. وليس الأتقياء فقط تعثَّروا أمام هذه الأحجية، بل حتى المفكرين أيضًا. عندما سُئل ”سُقراط“ فيلسوف الإغريق: ما هي المعاناة الأكبر للصالحين؟ كانت إجابته: هي ازدهار الأشرار ونجاحهم! وهناك مقولة قديمة: ”إنَّ ازدهار الأشرار إهانة للآلهة“. نعم إنَّ هذه الأحجية تُثير العديد من التساؤلات، وتُطالِب بالإجابة عنها. فأمامها يتساءل المفكِّرون: هل هناك إله؟ وهل هذا الإله يُبالي؟ هل هو أساسًا يَدري بِمَا يحدث على هذه الأرض؟ إنَّها معركة للإيمان، معركة تدور رَحاها داخل النفس لا خارجها. إنَّها مشكلة القدِّيسين في هذا العالم الشرير. إنَّها عثرة التَّقي وحيرة المفكِّر. وإذا قلنا إن ليس كل الأشرار ناجحين، ولا كل الأبرار يعانون، تعقَّدت المشكلة أكثر. ففي هذه الحالة قد يصل الظن بالبعض أنَّ أمور الزمان متروكة للصدف العشوائيَّة، فأنْ تكون صالحًا ليس معناه أنَّك تسعد ولا معناه أنْ تشقى، وأنْ تكون شريرًا ليس معناه أنْ تُعاقب ولا معناه أن تُكافأ. وبهذا تُصبح الحياة كلها مأساة أو ملهاة، وهذا يصيب إيماننا بالله في مقتل. المشكلة باقية في كل الأحوال: هناك بعض الأشرار ناجحون، وبعضهم نجاحهم لافت للنظر. وهناك بعض الأتقياء مطحونون، بعضهم أصابته البلوى المحرقة، وبعضهم تجربته قاسية، تنوء بحملها الجبال! وفي سفر المزامير نجد أنَّ هناك مزامير كثيرة تناولت هذه المشكلة وحاولت الإجابة عن تلك الحيرة، من أشهرها مزمور 37 لداود، ومزمور 49 لبني قورح. وهكذا فإنَّ الكتَّاب الأساسيِّين لسفر المزامير تحدَّثوا عن هذه المشكلة. في مزمور 49 تحدَّث الوحي عن المشكلة في أسلوب تعليمي. وأمَّا مزمور 37، والذي كتبه داود في شيخوخته (ع 25)، فقد كُتب بأسلوب اختباري، ويعتقد البعض أنَّ داود إذ عَلِم بقصَّة مزمور 73 من صديقه آساف، فقد كتب في أُخريات أيَّامه يُحذِّر الأتقياء من السقوط في فخ النجاح الظاهري للأشرار. وبكلِّ يقين نحتاج كلنا إلى هذا التحذير عينه. والفكرة في هذين المزمورين (37؛ 73) متشابهة إلى حدٍّ كبير، لكن في مزمور 37 نجد الحل في كلمة: “انتظر” ؛ بينما الحل في مزمور73 في كلمة: “تأمَّل”. النفس في مزمور 37 مستقرَّة، والدرس نتعلَّمه إيجابيًّا؛ أمَّا في مزمورنا فصراع الإيمان واضح، والدرس نتعلَّمه سلبيًّا. كأنَّ الوحي يقول لنا في مزمور 37 «تحتاجون إلى الصبر» (عب10: 36)، «فإن العقب لإنسان السلامة» (مز37: 37). بينما في مزمور 73 يُعلِّمنا الروح القدس أنْ لا نُخدع ببريق السطح اللاَّمع، بل أنْ نتأمَّل ما يخفيه تحته! وكلا الأمرين يتطلَّب الإيمان (عب11: 1). ولأنَّ الإيمان ”هو الثقة بما يُرجى“، فانتظر؛ ولأنَّه هو “الإيقان بأمور لا تُرى” ، فتأمَّل! في مزمور 37 نجد النعمة التي حفظت الفكر من الشرود، وأمَّا هنا في مزمور 73 فنجد النعمة التي حفظت من الضياع وأرجعت من الشرود، وذلك بعد أن غار آساف من المستكبرين، وعانى نتيجة لذلك ما عانى. ولأن الله يعلم أن هذه المشكلة قد تثار في ذهن أي شخص يرى أمور العالم المعكوسة، فقد سجل لنا مرارًا هذه المشكلة، وأعطانا مفاتيح حل هذه الأحجية. ولعل هذا المزمور هو أوضح تلك الفصول التي تُحدثنا عنها، إذ تسجل اختبار أحد رجال الله بالوحي، ليجيب عن الحيرة التي قد تظهر عند أي واحد منا. وعلينا أنْ نعترف أنَّ هذه المشكلة عويصة ومتعِبة حتَّى بالنسبة لنا نحن الذين صار نصيبنا في المسيح ورجاؤنا سماويًّا، فكم بالحري بالنسبة لآساف، وهو من الشعب الأرضي، الذي كان موعودًا بالبركات الزمنيَّة. وعلينا أنْ نعترف أيضًا أنَّ الإجابة الكاملة عن هذا اللغز تنتظر وقفتنا أمام كرسي المسيح، عندما سنعرف كما عُرفنا، لكن حمدًا لله فهو لم يتركنا حتَّى ذلك الوقت نجتاز في دياجير التخبُّط، بل قدَّم لنا الترياق الشافي من الارتباك والحيرة. تقسيم الفصل: يتكوَّن هذا المزمور العظيم من 28 آية، ويمكن تقسيمها تقسيمًا مبدئيًّا إلى قسمين: 14 آية؛ ثم 14 آية القسم الأوَّل يُمثِّل المشكلة مع آساف بخصوص نجاح الأشرار. والقسم الثاني يتضمَّن حل المشكلة والنتائج المُتَحصَّل عليها. وإنْ أردنا تقسيمًا أدق من ذلك، فيمكن القول إنَّ في المزمور مُقدِّمة وخاتمة، كل منها يحتوي على آيتين؛ في المقدمة يُمهِّد للحديث عن معاناته، وفي الخاتمة يُعطينا خلاصة ما خرج به من دروس. ثم قسمين كبيرين يتكوَّن كل منهما من 12 آية. القسم الأوَّل يحتوي على معركة الإيمان، والقسم الثاني يحتوي على نصرة الإيمان. ويمكن أيضًا إضافة تقسيم آخر لهذا التقسيم، وهو اعتبار الأربعة الأعداد المتوسطة في المزمور تُمثِّل مفترق الطرق بالنسبة للنَّبي، فيكون تقسيم المزمور كالآتي: تقسيم عام ع1-14 معاناة الإيمان ع15-28 نصرة الإيمان تقسيم تفصيلي ع1، 2: مُقدِّمة للمزمور ع3-12 عشر آيات تتحدَّث عن قلب المشكلة: نجاح الأشرار ومعاناة الأبرار. ع13-16 أربع آيات تُمثِّل النَّبي في مفترق الطرق، أو النَّبي بين المشكلة وحلَّها. ع17- 26 عشر آيات تتحدَّث عن حل المشكلة، أو بالحري نصرة الإيمان. ويبدأ هذا القسم بالآية المفتاحيَّة في المزمور (ع17). ع27، 28: خاتمة المزمور الخلاصة هذا المزمور يُحدِّثنا عن: “أحجية وتفسيرها”. والأحجية هي نجاح الأشرار، ويُصوِّر النَّبي في الأعداد 3- 12 قسوة التجربة التي يتعرَّض لها التَّقي نظرًا للتباين بين حال كل من الأشرار والأبرار؛ والألم الذي صاحب هذا الاختبار، نظرًا لحيرة الذهن (ع13-16). ثم يصوِّر في الأعداد (17-26) كيف أُنقذ من تلك التجربة القاسية، ونجح بامتيار في الامتحان، عندما دخل إلى مقادس الله. ثم يُقدِّم أخيرًا الدروس المستفادة من تلك التجربة المريرة (ع27، 28).
يوسف رياض