«وَكَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ، وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ. فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ لِسَبَبِ اسْتِعْدَادِ الْيَهُودِ، لأَنَّ الْقَبْرَ كَانَ قَرِيبًا» (يو١٩: ٤١، ٤٢)
إنه بستان! كلنا نُحب البساتين؛ فهي تعني بالنسبة لنا نور الشمس الساطع، أو الظل المريح. تعني الجمال وعبير الأزهار وألوان الرياحين والورود. تعني تغريد الطيور، وفرح وبهجة الحياة. ولكن يوجد في البستان قبر! هذا أمر مختلف تمامًا. وعلى ذكر القبر فهذا يُثير فينا خوفًا من عدو غير مرئي، وقشعريرة البرد الزمهرير، وصمت الموسيقى، وذبول الحياة فينا. فنحن نُحب البستان، ولكن ليس القبر. وماذا يعني القبر؟ إذا أجابك قلبك بصدد كنه القبر، فلا بد أنك تعلم. وإن لم يُخبرك قلبك، فأنت لا تعلم. ولكن هب أن قلبك استطاع أن يُخبرك بحسب حدود قدرته عن كل ما يعنيه الموت وما يتضمنه من هزيمة وضعة، ومن إحباط وخسارة، ومن حزن ودموع. هذا ما يعنيه تعبير «وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ». ومع ذلك تظل حقيقة الموت كاملة غير معلومة إلا لدى الله وحده، الذي يعرفها، ويُخبرنا إياها بطريقته الخاصة.
ولكن لماذا يحشر الموت نفسه في مشهد مثل مشهد البستان؟ ألا يُمكن أن نتمتع ببستان دون قبر؟ ألا يُمكن أن نبتهج في بستان بلا قبر يُلقي ظلاله المظلمة الكئيبة علينا؟ كلا! لا يمكن. فهما يسيران جنبًا إلى جنب في كلمة الله، وذلك لغرض وحكمة إلهية. ولا يمكن أن ينفصلا في هذه الحياة الدنيا. البستان أولاً ثم القبر. هذه هي القصة كاملة. وكثيرون هم الذين سمعوها وتعلموها بفزع مرير، ورأوا كيف أن البستان سريعًا ما يذوي ويذبل ويذهب جماله. ومن الناحية الأخرى نجد القبر ينشر ظلاله وعتمته، ويطل برأسه القبيح، إلى أن ينتهي المطاف، وتحط الرحلة رحالها، وتضمحل الأرض والسماء إلى الزوال.
ولكن لاحظ الترتيب: فليس قبر ثم بعد بستان، بل «وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ». فمن عادة الإنسان المتحضر أن يغرس بستانًا حول قبره، ذلك لزوم اللياقة. كما لو أنك تجد القلب يصرخ طالبًا رداء يستره من عري الموت، ثم تجده ينتقي زهورًا لتزهر وتنشر شذاها كما لو كانت تقدمة وثناء. وربما يكون ذلك تحدٍ سافر للقبر. ولكن لا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الأمر يتضمن جمالاً ينتهي إلى الفساد، وفرح يُفضي إلى حزن، ونهارًا يتحول إلى ليل، وتُختم الحياة بالموت «وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ».
ولكن لماذا؟ فقد حدث مرة أن غرس الله جنة «وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلَهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ. وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلَهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ» (تك٢: ٨-١٠). ولم يكن هناك قبر! ولكن الحيَّة القديمة، إبليس الشيطان، نفذت إلى داخل طيات هذه الحياة، وأمال أذن حواء امرأة آدم، وأشعل طموحات الإنسان الذي ظن أن خدعة الشيطان كانت أفضل من حق الله. وبأيدي، هي صنيعة الله، فُتحت البوابة على مصراعيها للمُخرِب: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رو٥: ١٢). ومنذ ذلك الوقت أمسى القبر على رمية حجر منا. ومهما تكن عظيمة الوعود والآمال والطموحات تلك التي تذخر بها الجنة (البستان)، فالقبر هناك، لأن الخطية هناك، وبالخطية الموت. وسيظل الموت رابضًا ما دامت الخطية. هذا عن: لماذا؟
وجدير بالملاحظة أن الله رسم لآدم عمله في الجنة. فلم يكن آدم نتاج دودة تتلوى عبر مستنقع من الوحل، أو التطور لقرد مهذار في غابة بكر، كما يُحاول العلماء أن يُعلّمونا؛ أناس اكتسبوا مهارات رائعة في مجالاتهم، ولكنهم حمقى عميان، يُحاربون ترتيب الله للأمور. ولكن في جنة، حيث مشهد الجمال والمسرات، ثمرة تخطيط وغرس يد الله، في هذه الجنة وقف آدم منتصبًا، لأن الله صنع الإنسان مستقيمًا؛ مخلوقًا على صورة الله وشبهه. ولم يكن ينقصه شيء، وله أن يتمتع بالجمال الآسر المُحيط به، ليُتمّم فرحه. ولم يكن ثمة قبر هناك ليُحزنه. ولا بد أنه كان ملآنًا ومغمورًا بفيض كرم الله، حتى إن المُجرِّب كان – حتمًا – مرتبكًا عندما اقترب ليُجرِّب حواء. فالموقف الطبيعي أن يكون الإنسان مفعمًا بالشعور بالشكر والامتنان لله. ولكن لم يكن الأمر كذلك، فلم يقنع الإنسان بميراثه المجيد، بل اشتهى ما نهاه الله عنه. وعن طريق هذه الرغبة الجامحة سقط. وهكذا اجتاز الموت عليه. وحيث أنه لا يوجد قبر في البستان الذي يحوي شجرة الحياة، فقد طُرد منه إذ صار إنسانًا خاطئًا مائتًا، لا ينتظره على الأرض سوى الموت والقبر. هذه قصة الإنسان المختصرة في جنة الله، حيث لا يوجد قبر.
لقد عمل الإنسان هذه الجنة الأرضية، وتعلَّق بالأشياء الجميلة البديعة المُحيطة به، وبذل أقصى ما بوسعه ليُحافظ عليها. ولكن إذا كانت جنة الله لم تُشبعه، فمن المحقق أن تلك التي عملها لن تُشبعه. وفي بستانه دائمًا يوجد قبر، يسخر من أفخر اجتهاده ليُعمر جنته. ولكن هل لا يوجد رجاء؟ هل سينتصر القبر إلى الأبد؟ دعونا نرى:
وبين كتبة العهد الجديد، فإن يوحنا هو الوحيد الذي يتكلَّم عن بستان. فهو معني في إنجيله بإبراز إما الجمال التام، أو القبح والعري، لما يسجل من أحداث. وهكذا نجده يتحدث عن بستان، ومعه صليب وقبر. وأعترف أنني في البداءة اندهشت بوصف يوحنا لبستان فيه قبر. ولكن لنتذكر أن الغرض الرئيسي لإنجيل يوحنا هو استحضار الحقيقة العظيمة أن الله جاء في الجسد. وفيه نتعلَّم أن «الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا ... مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (يو١: ١٤). وهل كان من الممكن عند مجيئه ألا يختبر أعمق أعواز الإنسان؟ إنه يدخل بستان به قبر مستعار، بعد أن خانه يهوذا، وحُكِمَ عليه بالصلب، ثم قُبِرَ؟ ولم يُوجد لدى الإنسان ما يُقدمه إليه أفضل من ذلك «كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ» (يو١: ١٠). وعندما رآه العالم أبغضه بلا سبب.
وعلى نطاق الكون كله، كانت قُبلة الخائن أحط عمل صُنع تحت السماوات على الإطلاق. وصار اسم “يهوذا” مرادفًا للضعة والخسة. ولكن ماذا عن الذين أعطوه المال، ورشوه ليُسلم سَيِّده إليهم؛ إلى أياديهم المُلوَّثة بالدم؟ إنهم رؤساء الكهنة، معلمو الأخلاق والدين والشريعة. المفترض أن أفضل ما يمكن زرعه هو بين أيديهم. كان عليهم أن يدرئوا شهوة طمع يهوذا من محضرهم بازدراء، عندما جاءهم يعرض عليهم صفقته. ولكنهم لم يفعلوا. كانوا يُمنون النفس بالقبض على يسوع، وقتله. فلم يكن له مكان بينهم أو معهم. وكانوا مسرورين لوجود الخائن شريكًا لهم في جريمتهم، لأنهم كانوا مثله وضعاء. وهكذا أُسلِمَ رب المجد في بستان، لا في برية مقفرة حيث الوحوش، وحيث صام أربعين يومًا قبل أن يُجرَّب من الشيطان، ويهزم إبليس. نعم، أُسلِمَ رب المجد في بستان؛ أي في بقعة مزروعة خضراء، ثمرة تعب الإنسان، وحيث اعتاد أن يذهب الرب يسوع مع تلاميذه للصلاة. كان له أن يختلي بأبيه هناك. أما الآن فالموت يقترب، حيث شق خلوته بوقاحة الجنود المدججين بالسلاح، يقودهم الخائن.
ولكن هذا ليس إلا مبتدأ الغدر والخسة والقسوة التي تعيَّن على الرب يسوع أن يواجهها. فمن بمقدوره أن يصف الطريق الذي ارتاده من البستان إلى بيت رئيس الكهنة، ثم من هناك إلى بلاط بيلاطس، يسخر منه اليهود والأمم، مضروبًا، مستهدفًا للبصق، مجلودًا، مُكللاً بالأشواك، ثم حُكم عليه بالموت، حتى وصل في نهاية المطاف – حاملاً صليبه – إلى بستان أيضًا؟! ترى هل هو ذات البستان؟ فقد لا يكون بستان الصليب هو البستان الذي سلَّم فيه يهوذا الخائن الرب. ولكننا نعلم بوجود بستان، حسبما ورد في الكتاب: «وَكَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ».
سُمِرَ ابن الله على صليب مرتفع، فوق كل غرس وشجرة في البستان، وفي محضره نجثو ونركع، نُخبئ رؤوسنا خجلاً من خطية الإنسان، وتجثو قلوبنا تعبدًا لمحبة الله. فخطية الإنسان ومحبة الله التقيا في صليب المسيح، الذي كان البرهان والمقياس لكليهما.
ربما يبدو لنا لوهلة أن الله اتخذ إجراءً صارمًا تجاه الإنسان، عندما طرده وامرأته من جنة عدن، لمجرد عصيانه لوصية واحدة. ولكن الجلجثة توضح ما ينطوي عليه هذا العصيان. لقد كانت ضربة موجهة ضد جلال الله وسموه بالذات، وتمرد ضد عرشه، وتحد لسلطانه، وأخيرًا وليس آخر، رفضًا للإيمان بصلاحه ومحبته. ومنذ وقت السقوط إلى اليوم كان الغرض الرئيسي للإنسان أن يعمل بقوته الخاصة، ليستقل عن الله، وليحصد مسراته وملذاته في بعده عن الله. وا أسفاه! كان يرعى ويُصقل طبيعة خاطئة. وكان الاختبار النهائي عندما جاء ابن الله إلى العالم متجسدًا، حينئذٍ ظهر أي نوع من الثمر أنتجت جنة الإنسان. حينئذٍ ظهر بوضوح أن كراهية الإنسان لله كامنة في جذر طبيعته، كراهيته مُحْرِقَةٌ غيرُ مُبررة، حتى أن كل النعمة التي كانت في الرب يسوع، فشلت في إطفائها. ولم تكن لتكتفي بغير قتل الكلمة الذي صار جسدًا. وهذه الجريمة كانت فريدة وعجيبة في نوعها، ليس فقط لسبب الآلام الجسدية الفائقة المُبرحة التي تحملها الرب يسوع كغرض لبغضتهم، ولكن أيضًا بسبب رقة رده على تلك الآلام الذي أظهر كمال شخصه، عبر كل العصور. وهكذا أُحصيَّ مع أثمة، وسُخِر منه، واستُهزئ به مِن قِبَل مُعذبيه، فتحمل الألم والعار، ومات موت المجرمين. لم يحدث ذلك في أرض ناشفة غير مزروعة. لم يحدث في برية مهجورة حيث يعيش أناس متوحشون قاموا بهذه الجريمة في جهلهم. كلا! بل إن «عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ» هم مَن «صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ» (١كو٢: ٨)، «وَكَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ».
ولو كانت ذروة الخطايا هي الجانب الوحيد في صليب المسيح، فلن يكون ثمة رجاء لنا. ولكن محبة الله كانت هناك، بل وكانت أقوى وأعظم من خطية الإنسان. فإذا كان جانب الصليب المُظلم هو ظلام كراهية الإنسان، فإن جانب الصليب المُضيء هو مجد محبة الله. وهو يوصينا بهذه المحبة، لأن «اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رو٥: ٨)، «فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (١يو٤: ١٠). وعندما عُلِقَ الرب يسوع على الصليب، كان هناك خبز الحياة الذي إذا أكله إنسان، يحيا إلى الأبد.
وهذا الصليب الذي كان - مِن جانب الإنسان - دليل على محض كراهية وقتل، صار طريقًا جديدًا حيًا يدخل من خلاله الخاطئ إلى البركة الأبدية. إنه الباب إلى الفردوس السماوي، حيث لا موت يُلقي بظلاله. وهكذا «حَيْثُ كَثُرَتِ الْخَطِيَّةُ ازْدَادَتِ النِّعْمَةُ جِدًّا» (رو٥: ٢٠).
وها حقد الإنسان يتتبع الرب حتى بعد الموت، إذ «جُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ»، أو “جَعْلُوا (عَيَّنوا) مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ” (القراءة الصحيحة لإشعياء ٥٣: ٩). لقد أعدوا حفرة مريعة قاسية، قرب الصليب، ليلقوا فيها جسده مع اللصين اللذين ماتا هناك، ولكن الله أبطل المؤامرة، وهكذا تمَّ المكتوب «وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ» (إش٥٣: ٩)، «وَكَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ، وَفِي الْبُسْتَانِ قَبْرٌ جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ. فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ» (يو١٩: ٤١، ٤٢).
كان قبرًا جديدًا ... أود أن أشدد على ذلك. لم يكن قبله قبر مثله، إذا حكمنا بمقتضى مَن وُضع فيه، وبما قد خرج منه. وإلى هذه الساعة يظل القبر على قمة الأشياء التي لا تَشْبَع. لم يَقُل أبدًا: “يكفي”، باستثناء واحد؛ عندما جثا أمام سلطان الرب الحيّ. لقد أمسك فريسته بقوة واهية ضعيفة. فثمة ارتباط طبيعي بين القبر وبين محتواه. لأن الله قال لآدم: «لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ» (تك٣: ١٩). ولكن القبر الذي نحن بصدده جديد، وليس له تلك العلاقة. فموت المسيح كان اختياريًا. لقد مات من أجل قطيعه. لم يأخذ أحد حياة المسيح منه. لقد ووضعها من ذاته. كان له السلطان أن يضعها من ذاته، ثم يأخذها ثانية. كان قدوس الله، ولم يكن ممكنًا أن يرى فسادًا. لم يكن للموت سلطان عليه. ولم يستطع القبر أن يُمسكه. لم يحدث أن قبرًا احتوى وديعة كريمة مثل تلك مِن قبل، وعلى مدى تاريخه. وهكذا انتصر القبر سالفًا دائمًا. وأما الآن فقد داسه الشخص الذي كسر شوكته وقوته، إلى الأبد.
ويبدو أنه كان لليهود رغبة جامحة ليتخلصوا من جسد يسوع، لأنهم التمسوا من بيلاطس أن يُرفع جسده مع حسدي اللّصين. ويبدو أن بيلاطس قد تنفس الصعداء عندما طلب إليه يوسف الرامي جسد يسوع، لأنه أسلمه إياه على الفور. وفرح العالم عندما أُغلِقَ القبر على يسوع. ولكن يا لها من بذرة تلك التي زُرعت في القبر الذي في البستان، والتي ارتوت بدموع ومراثي يوسف والنسوة!! وكم كان رائعًا إيناع النبتة التي أنبتتها تلك البذرة، في صباح يوم القيامة. آه، كان ذلك يوم النصرة، وبداءة الخليقة الجديدة.
كان البستان هو مشهد غدر الإنسان وعاره؛ شاهد على سيادة الشيطان الطولى على الإنسان، وإلى أي مدى وصل الشيطان في استعباده للبشر، فضلاً عن قوة القبر. وتبدل المشهد فأصبح هذا المنظر مُعبّرًا عن نصرة الله. وأخلى الحزن مكانه للفرح، وتبددت غياهب ظلمة الليل أمام إشراقة نور الصباح، وحلت الحياة عوضًا عن الموت. لأنه كما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، هكذا بإنسان واحد انتصرت القيامة على الموت. وعبَّر الملاك عن فرح السماء بقوله: «لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ لَيْسَ هُوَ هَهُنَا، لَكِنَّهُ قَامَ!» (لو٢٤: ٥، ٦)، «لَيْسَ هُوَ هَهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعًا فِيهِ. وَاذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ: إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ» (مت٢٨: ٦، ٧). أخيرًا قبر فارغ! وأضحى لكل مؤمن بالمسيح أن ينتصر عليه «وَلَكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ إِذِ الْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ بِإِنْسَانٍ أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ. لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ. وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ: الْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ، ثُمَّ الَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ» (١كو١٥: ٢٠-٢٣).
إن إيمان المؤمن يربطه بنصرة المسيح. والقبر الجديد الفارغ الذي في البستان قد غيَّر الحال معه تمامًا، إذ صار يمتلك حياة في المسيح المُقام، حتى إن الموت لا يستطيع أن ينال منه. وأصبحت آمال وأفراح المؤمن لا تستقر في بستان، حيث الجمال الذي أفسده وشوَّهه القبر. ولكن المؤمن يتطلع إلى الوقت الذي فيه «يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ الَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ اللهِ» (رؤ٢: ٧). وإذ رقد بيسوع، يكون على رجاء أكيد بأن جسده المزروع في فساد، سيُقام في عدم فساد، والمزروع في هوان، سيُقام في مجد، والمزروع في ضعف، سيُقام في قوة (١كو١٥: ٤٢، ٤٣). ولكن في حين أن هذا الرجاء المجيد أكيد للمسيحي إذا رقد، فليس مؤكدًا له أن يموت: «لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلَكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ. لأَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهَذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ. وَمَتَى لَبِسَ هَذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ، وَلَبِسَ هَذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ: ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ. أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ، وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ. وَلَكِنْ شُكْرًا لِلَّهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (١كو١٥: ٥١-٥٧).
يا له من نور لهذا العالم الذي لا يقدر الموت أن يدخله؛ ذلك الذي يسطع في قلب المؤمن ليُمكنه أن يُدير ظهره للعالم، ويمسك بالحياة الأبدية. وإذا حدث وأحس المؤمن بوجود الموت حواليه، فإن ذلك لا يُسبب له أدنى إحساس بالخوف، حيث إن الرب قد مات وقام. قد يتألم، ولكن ليس مثل الذين بلا رجاء، ورجاؤه لا يخزي. إنه مرساة مؤتمنة وثابتة تلك التي تحفظ نفسه في وسط عواصف وضغوط الحياة. أقول ذلك إذ ننتقل من صورة البستان ذي القبر، إلى مشهد بحر ثائر يضج بالعواصف؛ مشهد هذا العالم الذي نعبره. ولكن يا للرجاء المبارك! «لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء ِوَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ. لِذَلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهَذَا الْكَلاَمِ» (١تس٤: ١٦-١٨).
ج. ت. ماوسون