تحدثنا في العدد السابق أن داود رجل الله، ولو أنه في بعض الأحيان لم يستشر الرب، إلا أنه كان بصفة عامة يستشير الرب. ولقد ذكرنا أولى المناسبات التي فيها استشار الرب ونشير في هذا العدد إلى المناسبة الثانية
(2) فعاد أيضًا داود وسأل من الربّ، فأجابه الربّ وقال: قم انزل إلى قعيلة فإني أدفع الفلسطينيين ليدك (1صم23: 4) ***
كما ذكرنا، لقد أظهر الرجال الذين مع داود تخوُّفًا في الذِّهاب إلى قعيلة، وأعلنوا احتجاجهم على هذا القرار(1صم23: 3). فما الذي يفعله داود إزاء ذلك؟ هل يصعد ويُحارب الفلسطينيين كما صرَّح الربّ له، متجاهلاً اعتراض الرجال الذين معه، أم يتأثَّر باعتراضهم، لِما فيه من وجهة نظر مقبولة، ويكفّ عن السعي وراء الفلسطينيين ليخلِّص قعيلة؟
في الواقع أنَّه لم يفعل هذا أو ذاك!! رغم أنَّ في كلا الأمرين هناك حيثيات مقبولة ومقنعة،
ففي الحالة الأولى إذا أصرَّ على الذِّهاب ليضرب الفلسطينيين، فهناك ما يُبرِّر موقفه هذا:
أوَّلاً: لقد صرَّح الربّ له بذلك، وعدم صعوده لضرب الفلسطينيين فيه عدم طاعة صريحة لأمر الربّ.
ثانيًّا: أليس هو القائد، ومن سمات القائد أمام تابعيه عدم الظهور بمظهر الرجل المتردِّد المتشكِّك، إذ أنَّه بذلك يٌقلل من احترامهم له، ويُضعف من تأثيره عليهم، فالقائد الناجح الحازم هو الذي عندما يُصدر قرارًا لا يتراجع فيه.
وفي الحالة الثانية إذا سمع لاعتراض رجاله، ولم يذهب لمواجهة الفلسطينيين، فهناك أيضًا ما يُبرِّر هذا الموقف:
أوَّلاً: إنَّ هؤلاء الرجال ضحّوا بالكثير بارتباطهم به، وأليس من حقِّهم عليه أن يستمع إلى اعتراضهم، ويُلبي طلبهم.
ثانيَّا: إن جزء من سلامته وأمنه مرتبط بهؤلاء الرجال، فلماذا يُقحمهم في حربٍ ليست له، قد يخسر فيها بعضٌ منهم، وهم الذين يُحافظون على حياته، ويساعدونه في الهرب من وجه شاول.
ثالثًا: أليس هو المسئول عن سلامتهم وأمنهم، وهم الذين لجأوا إليه طالبين عنده الأمن والحماية(1صم22: 2)، فلماذا يُعرِّض حياة من ائتمنوه على نفوسهم وممتلكاتهم للخطر؟
لكن يا للعجب .. فكما ذكرنا لم يفعل كلا الأمرين، بل ذهب للرب ببساطة الأطفال، وبثقة الرجال، ذهب إليه ، ليسأله مرة ثانية ذات السؤال عينه، ليس لأن إجابة الربّ لم تكن واضحة لديه، وليس لعدم ثقته في ما أجابه به، بل ليُزيد من معه ثقة في أمر الربّ، فينتفي عندهم أيَّة مخاوف أو شكوك، فيذهبون معه ليس ذهاب المُرغَم الخائف، بل ذهاب الطائع المطمئن.
وهكذا تتحقَّق مشيئة الربّ، دون أن يُثير بلبلة أو تشويش في صفوف رجاله.
إنَّنا نرى في عودة داود مرَّة أخرى ليسأل الربّ، رغم إجابة الربّ الواضحة له في المرَّة الأولى، أنَّ هناك ثمة عادة قد تأصَّلت في كيانه، وهو أنه لا يستصعب مطلقًا أن يسأل الربّ في أي أمرٍ كبير أم صغير، وأن دخوله لمحضر الربّ وسؤاله، لم يكن بالأمر الغريب، بل هو معتاد عليه على الدوام، كما أنه لكثرة دخوله أمام الربّ لم يجد تحرُّجًا في أن يُعيد ذات السؤال مرة ثانية، إذ أنَّ هناك علاقة مودة ومحبة تربطه بالرب.