يأخذنا كل من سفري عزرا ونحميا إلى زمن جميل للصحوة الروحية، عندما عادت بقية من شعب الرب من السبي البابلي إلى الأرض التي وعد الله أن يُعطيها لنسل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فعادوا إلى أورشليم؛ الموضع الذي اختاره الرب ليحل اسمه فيه، ليستعيدوا عبادة الهيكل، وليُعيدوا بناء المدينة.
إن الترتيب الذي تم لَهو في غاية العجب، لأنه من وجهة النظر البشرية كان من المنطقي أن يبدأ العمل من الخارج، أي من أسوار المدينة، ثم يُعاد بناء الهيكل، لكنهم عملوا العكس تمامًا: لقد بدأوا من الداخل من مركز العبادة، وأعادوا بناء المذبح على أساسه، ثم أرسوا أساس الهيكل الذى تم بفضل عمل النبيين حجى وزكريا، بعد طول إعاقة ومقاومة كثيرة. وأخيرًا فى أيام نحميا، بدأ العمل في الأسوار وأبواب المدينة، ورأى نحميا مجهوداته وقد كُللت بالنجاح، عند تدشين أسوار أورشليم، بالموسيقى والغناء (نح ١٢).
إلا أن هناك سمة هامة أخرى لهذا الزمن من العودة والصحوة؛ ألا وهي تجديد الاشتياق لكلمة الله، حيث أُعطي لكلمة الله مكانها اللائق بها، فوضع نورها على المنارة ثانية. فنرى في نحميا ٨ شعبًا مجتمعًا حول الكلمة، مُستمعًا بشغف إلى رسالتها. فلم يكن بينهم مُتغيب، بل اجتمع الكل كرجل واحد، واستمعوا لقراءة الشريعة لساعات طويلة «وَكَانَتْ آذَانُ كُلِّ الشَّعْبِ نَحْوَ سِفْرِ الشَّرِيعَةِ» (نح٨: ٣). فكانت عودة البقية إلى أورشليم هي في ذات الوقت عودة إلى كلمة الله وإرادته، فتنبه الشعب عند سماع دعوة البوق إلى كلمة الله.
لقد لعب عزرا الكاتب دورًا هامًا فى كل هذا «لأَنَّ عَزْرَا هَيَّأَ قَلْبَهُ لِطَلَبِ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَلِيُعَلِّمَ إِسْرَائِيلَ فَرِيضَةً وَقَضَاءً» (عز٧: ١٠)، فتقدَّم إلى المقدمة ليضع كلمة الله أمام شعب الله، لتستحوذ على جُلِّ اهتمامهم، وتؤثر على قلوبهم بجملتها.
ومن المهم أيضًا التنويه على المكان والزمان لاجتماع الشعب لسماع كلمة الله، حيث كانت هذه الظروف في توافق تام مع القصد من الاجتماع، فجرى في «السَّاحَةِ الَّتِي أَمَامَ بَابِ الْمَاءِ»، الذي يتحدث عن العمل المطهِّر لكلمة الله (نح ٨: ١؛ يو ١٥: ٣؛ أف ٥: ٢٦). والباب هو المكان الذي يُجرَى فيه العدل والقضاء، وتُقطع فيه العهود.
أتكلم رمزيًا: إن الشعب قد وضع نفسه تحت سلطان الكلمة، وأخضعوا نفوسهم إلى غسل الماء بالكلمة. كما أنهم اجتمعوا أَمَامَ بَابِ الْمَاءِ «فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابعِ» (ع١، ٢). وكان هذا يومًا هامًا فى دورة الأعياد السنوية، لأنه يحدد بداية سلسلة الأعياد الأخيرة بعد جمع الحصاد. في ذلك اليوم كانوا يحتفلون بعيد الأبواق، الذي يتبعه عيد الكفارة في اليوم العاشر، ثم عيد المظال من اليوم الخامس عشر إلى الثاني والعشرين من نفس الشهر. وحسب لاويين ٢٣: ٢٣-٢٥ يكون هذا اليوم الأول من الشهر الجديد تذكار هتاف البوق «وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلاً: فِي الشَّهْرِ السَّابعِ، فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ يَكُونُ لَكُمْ عُطْلَةٌ، تَذْكَارُ هُتَافِ الْبُوقِ، مَحْفَلٌ مُقَدَّسٌ. عَمَلاً مَا مِنَ الشُّغْلِ لاَ تَعْمَلُوا، لكِنْ تُقَرِّبُونَ وَقُودًا لِلرَّبِّ». وبتطبيق ذلك مباشرةً على نفوسنا يُمكننا القول أن بوق الكلمة سُمع ثانيةً، مُحدِثًا صحوة روحية وسط البقية من المؤمنين المُخلصين الذين لهم آذن لسماع ما يقوله الروح للكنيسة (رؤ٢؛ ٣). لقد كان اليوم الأول من الشهر السابع بداية جديدة، متبوعة بنور متزايد، فى وقت تقترب طرق الله إلى إتمامها (الرقم سبعة يتكلم عن الكمال).
في حين لم يُذكر يوم الكفارة بالتحديد فى نحميا ٨ إلا أن عيد المظال قد ذُكر وحفظه شعب الله سبعة أيام حسب الوصية التي قُرئت عليهم في اليوم الثاني (ع١٣-١٨). وكان هذا هو آخر أعياد الرب السبعة، وكان مناسبة للشكر والفرح، لسبب كل البركات التي نالوها في أرض الموعد، وكذلك تذكارًا لصلاح الرب في الماضي، وللفداء من مصر (خر٢٣: ١٦؛ لا ٢٣: ٤٣؛ تث ١٦: ١٥).
في هذا اليوم الأول من الشهر السابع أخذت كلمة الله مكانًا بارزًا وسط شعب الله، وصنعوا منبرًا من خشب لعزرا وأعوانه، ووقف كل الشعب احترامًا عندما فُتح سفر الشريعة (ع٥). واشترك الجميع فى هذا التصرف، ثم انحنوا باتضاع «وَخَرُّوا وَسَجَدُوا لِلرَّبِّ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى الأَرْضِ» (ع٦). ياله من مشهد مثير للإعجاب! فهذا الاحترام والتقدير لفتح كلمة الله، هو ذو معانٍ كثيرة لنا نحن أيضًا. إننا نرى فى أعوان عزرا صورة للمواهب المتعددة التي منحها الرب للكنيسة: الرعاة والمعلمين الذين يشرحون الكلمة (ع٤، ٧). وخدمة كلمة الله هي خدمة اللاويين الحقيقيين، ومن تعدد الأسماء المذكورة فى تلك الأعداد نتعلَّم أن الله يُقدِّر عمل كل واحد منهم.
هناك نقطة أخرى أود لفت الانتباه إليها، ألا وهي وقع كلمة الله على مَن سمعوها؛ لأنه كنتيجة لسماعها صاروا فاعلين لها بحق، فمن ناحية اتضعوا لأنهم علموا عدم أمانتهم وبُعدهم عن الله، فبكوا وناحوا عند سماع سفر الشريعة «لأَنَّ جَمِيعَ الشَّعْبِ بَكَوْا حِينَ سَمِعُوا كَلاَمَ الشَّرِيعَةِ» (ع٩). ومن الناحية الأخرى فرحوا فى الرب من أجل ما كان مستمرًا في منحه للبقية من شعبه. فكانت هناك بهجة فى طاعة الشريعة، كلمة الله المُعلنة (ع١٠، ١٢، ١٧). من هذه الوجهة يحمل هذا الأصحاح تشابهًا مدهشًا مع عزرا ٣، حيث نجد كل من هتاف الفرح والبكاء بصوت عظيم، عند وضع أساس الهيكل الجديد.
ألا تحوي كلمة الله دائماً هذين التأثيرين؟ فمن ناحية نحن نحتاج لأن نُوبَّخ، ومن الناحية الأخرى نحتاج لأن نتعزى. من ناحية نحن بحاجة لأن نتضع، ومن الناحية الأخرى لأن نتشجع ونُبنى فى إيماننا «لأَنَّ فَرَحَ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ» (ع١٠). إن كلمة الله كالعسل في حلاوتها لأفواهنا، لكنها تٌنشئ فى قلوبنا ندمًا مُرًا وحزنًا مقدسًا (حز٢: ٨؛ رؤ١٠: ٩، ١٠).
إن الشغف بكلمة الله لم يكن أمرًا مؤقتًا. ويوم واحد لدراسة الكتاب لم يكن كافيًا! ففي اليوم التالي كان هناك اجتماعًا ثانيًا (ع١٣)، فيه فتشوا الكتب، ووجدوا التعليمات الخاصة بعيد المظال، وفي الحال تصرفوا حسبما قرأوا، وبدأوا في ترتيبات حفظ هذا العيد. وكما سبق وذكرنا لم يكن ذِكر لعيد الكفارة هنا، لكن البقية من إسرائيل أظهرت كل استعداد للاتضاع كما هو موصوف لهذا اليوم (لا٢٣: ٢٧-٣٢)، وبالتحديد في اليوم الأول من الشهر السابع (ع٩). أما بالنسبة لإسرائيل فإن تحقيق هذا الحدث العظيم هو في عِداد المستقبل، لأن يوم الكفارة العظيم سيأتي عندما يعود الرب من السماء، عندما ينظر إليه شعبه الذي طعنه وينوح عليه (زك١٢: ١٠)، بعد ذلك سيأتي عيد المظال العظيم: فرح وابتهاج ألفى بسبب كل البركات التي أعدها الله لشعبه.
لقد أدى الاجتماع أمام باب الماء إلى الاحتفال بعيد المظال، في أورشليم وفى أماكن أخرى أيضًا، فإن دعوة البوق لسماع كلمة الله، لها نتائج رائعة، واستمر لها المكان المركزي: «وَكَانَ يُقْرَأُ فِي سِفْرِ شَرِيعَةِ اللهِ يَوْمًا فَيَوْمًا مِنَ الْيَوْمِ الأَوَّلِ إِلَى الْيَوْمِ الأَخِيرِ. وَعَمِلُوا عِيدًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ اعْتِكَافٌ حَسَبَ الْمَرْسُومِ» (ع١٨).
يا ليت الرب يمنحنا هذه الرغبة فى سماع كلمته حتى تكون صلاتنا: “يا ليتني استمع إلى كلامك دائمًا!” جسديًا يمكن أن نكون فى المكان الذى بحسب فكر الله، منفصلين عن أصنام بابل، ويمكن أن نشترك على مائدة الرب، ونجتمع إلى اسمه وحده، اعترافًا منا بسلطانه وبحرية الروح. وربما نحاول إعادة بناء بيت الله ومدينة الله هيكل الله الحي، حتى يرى الناس الشكل الذي يجب على الكنيسة أن تكون عليه. لكن هل سيعود كل هذا علينا بفائدة، إن كنا في ذات الوقت ليس لدينا هذا الشوق الجارف لسماع كلمة الله والتصرف بموجبها؟ لأن هذا هو ما يميز الصحوة الروحية الحقيقية.