يا لها من كلمةٍ شجيةٍ، تحمل للقلب الكسير كذا للنفس المنحنية، وفرة اقتدار القدير كذا فيض المشاعر الأبوية، فجراح الماضي التي لم تندمل، ومآسي قلبٍ قد مَرِض، من آمالٍ لم تَكتمل، وعيونٌ هاطلةٌ بأنهارِِ دموعٍ، لمضايق الوادي لم تحتمل، يقينًا ستجد في قلب الله الأبوي، قوةً وملاذًا بل وجِدة الأمل. ألم يجد داود في مرتع المشاعر هذه كل كفايتهِ فهتف: «إن أبي وأمي قد تركاني والرب يضمُّني» (مز 27: 10)؟
ليس بمستغربٍ أن نقرأ عن عظمة الله وعن سرمديته، فعن هذا قال أليهو: «هوذا الله عظيمٌ ولا نعرفه، وعددُ سنيه لا يُفحص» (أي 36: 26)؛ وليس بمستغربٍ أن نقرأ عن عمق الله ولا عن عدم محدوديته، وعن هذا تساءل صوفر النعماتي قائلاً: «أإلى عمق الله تتصل، أم إلى نهاية القدير تنتهي» (أي 11: 7)؛ وليس بمستغربٍ أن نقرأ عن سلطان الله بل أيضًا هيبتهِ، وعن هذا قال بلدد الشوحي: «السلطان والهيبة عنده، هو صانع السلام في أعاليه» (أي 25: 2). فأمام جلالٍ مُرهبٍ، قال أحدهم: «أما الرب ففي هيكل قدسه، فاسكتي قدامه يا كل الأرض» (حب 2: 20)، وقال آخر: «اسكت قدام السيد الرب» (صف 1: 7). ولكن ألا يسترعي الانتباه هذا العنوان الرخيم، أقصد أبوة الله؟ الأبوة التي عندما تهيم النفس في أغوارها، لا تقول: «اسكت»، ولكنها تنشد مع مَنْ أنشد:
مثل طفلٍ لأبيه يدنو لا خوف له
بل بأحضان أبيه يشبع
كثيرًا ما نقرأ عن كلمة الأبوة مرتبطة بالله، فنقرأ عن: «أبًا أبديًا» (إش 9: 6)، «أبو المجد» (أف 1: 17)، «أبي الأنوار» (يع 1: 17)… إلخ، ولكن لست عن هذه أكتب، فهذه، وإن كنا نجد فيها كلمة "الأبوة"، ولكنه لا تعكس مشاعرها، فعندما يُقال عن الابن إنه: «أبًا أبديًا»، فهي في الأصل: «أبا الأبدية»، أي أنه أب لكل الدهور، وهو أكبر وأعم وأشمل منها، وهذا يعكس لنا سرمديته. وعندما يكتب عن «إله ربنا يسوع المسيح»، أنه «أبو المجد»، فهو يقصد أنه صاحب المجد، وعندما يُقال عن الله إنه «أبو الأنوار»، يقصد أنه هو خالقها، سواء كان «النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليلِ» (تك 1: 16). ولكنني أكتب عن أُبوةٍ لله، بمعنى أن الله العظيم، عظمة منقطعة النظير، صاحب مناظر الجلال المُرهب الذي «يصعدُ دخانٌ من أنفهِ، ونارٌ من فمهِ تأكل… الذي يطأطئ السماواتِ وينزل، وضبابٌ تحت رِجليه…» (مز 18)، هو في الوقت ذاته أب لنا، بل ويحملُ لنا القلب الأبوي الذي منه ينساب نحوَنا كلُّ أنهارِ الحب التي من شأنها أن تجعلنا نهرع إلى حضنهِ الأبوي، ناهِلين بلا توقف من صفاءِ نهر مشاعرهِ.
رأى الله في القديم، مذلةَ شعب إسرائيل، بل وكالسيد العليم بكل شيء، الذي يراقب بكل دقةٍ كبائر الأمور ودقائقها، رأى وسمِع سياطَ فِرعون، وهي تلهب ظهورَ أحبائهِ، فأرسل موسى إلى فرعون قائلاً: «إسرائيل ابني البكر…، اِطلق ابني ليعبدني، فأبيت أن تطلِقَه، ها أنا أقتل ابنك البكر» (خر 4: 22، 23). وإن كنت يا قارئي تلاحظ كلمة الله بدقة، ترى أن الله قبل أن يقول: "اِطلق ابني"، قال: "إسرائيل ابني البكر". ويُخال إليَّ أن أبوةَ اللهِ الحانية، عندما رأت مذلة شعبه عبَّرت عن نفسها، كأبٍ رأى ضيق ابنه، فشعر وكأن حشاه قد تمزق بداخله، فراحَ يصرخ: "يا ابني"!!! ألا يعبر هذا عن مشاعر الأبوة في عمقها؟ لم تكن مشاعر الأبوة هذه مخفاة عن قديسي العهد القديم، وهنا أقتبس من الوحي المقدس اقتباسين وردًا في نبوة إشعياء:
1-«تطلَّع من السماوات، وانظر من مسكن قدسِك ومجدك. أين غيرتُك وجبروتَكَ. زفير أحشائِكَ ومراحمِكَ، نحوي امتنعت، فإنك أنت أبونا، وإن لم يعرفنا إبراهيم، وإن لم يدرِنا إسرائيل: أنت يا ربُّ أبونا. ولِّينا منذ الأبد اسمَك» (إش 63: 15، 16).
2- «وليس مَن يدعو باسمِكَ أو ينتبه ليتمسَّكَ بك، لأنك حجبتَ وجهَك عنا، وأذبتنا بسبب آثامنا. والآن ياربُّ أنت أبونا، نحن الطين، وأنت جابلنا وكلنا عمل يديك» (إش 64: 7، 8).
في الاقتباس الأول، نستطيع أن نُطبِّق بعضًا من هذه الكلمات ولا أقولُ كلها، على اختبارات المؤمنين في العصور المختلفة، ولكنها تنطبق تمامًا على المتألمين من الشعب الأرضي في أسبوع الضيقة. ولو رجعنا في هذا الإصحاح، سنجد الآية الجميلة: «في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرتهِ خلَّصهم، بمحبتهِ ورأفتهِ هو فكهم، ورفعهم، وحملهم كلَّ الأيام القديمة» (إش 63: 9) ونستطيع أن نرى تسلسلاً منطقيًا بديعًا، يجمع هذه الآيات معًا: فلقد وصل هذا الشعب أن قلب الله الأبوي، بوفرة، جعلَه يتضايق لهم، ومعهم في كل ضيقهم، وقدرة ذراعيهِ تدخلت لصالحهم، «ففكهم ورفعهم، وحملهم كل الأيام القديمة»، وهذا سيجعلهم يعودون فيبحثون في ضيقهم المستقبلي عن مشاعر الأبوة هذه، قائلين: «زفير أحشائِكَ ومراحمِك نحوي امتنعت» ثم يستطردون: «فإنكَ أنت يا رب أبونا، وإن لم يعرفنا إبراهيم، وإن لم يدرنا إسرائيل». ماذا تعني هذه الكلمات؟ كلنا نعلم أن يعقوب هو أبو الأسباط، وإبراهيم هو الأب أو الجد الأكبر لهذا الشعب، ولكن أثناء ضيقة الأمة، أين سيكون إبراهيم ويعقوب؟ سوف لا يكونان بالجسد على الأرض معهم، لذلك سيقول الشعب في معمعته: «أين إبراهيم، وأين يعقوب؟»، هذه لغة الافتقاد للأبوة، الذي سيجعلهم يلوذون بقلب الله الأبوي، دائم الوجود: «فإنك أنت يارب أبونا، وإن لم يعرفنا إبراهيم، وإن لم يدرِنا إسرائيل» فأقول تلخيصًا: إن أبوة إبراهيم كأبوة يعقوب، ليست دائمة الوجود، أما أبوة الله، وإن غابت عن أعينهم بسبب رذيلتهم، لكنها بقوتها ستعود.
أما في الاقتباس الثاني، فنحن لا نقرأ عن عدم معرفة، ودراية إبراهيم ويعقوب بأحوالهم، لكننا نقرأ من ناحية رعونتهم وخيبتهم في الإمساك بما هو غالٍ وثمين: «وليس مَن يدعو باسمك، أو ينتبه ليتمسك بك»، ولكن من الناحية الأخرى نقرأ عن قلب الله الأبوي، دائم الوجود، الذي سيظل لنا رغم عدم استحقاقنا: «والآن يارب أنت أبونا».
يا نفسي، هل تشعرين أن إبراهيم لا يدري بكِ؟ أقصد أن أبويكِ الأرضيين ليسا في معونتِكِ؟ لا أقصد تقصيرًا من جانبهما، ولكن قد يكون قصورًا أو عجزًا، أو لعدم بقائهما، فغدوتِ خارج الأحضان؟… إطرَبي… إن أبوة الله لا تزول.
ظل هذا المفهوم الراقي، أقصد أبوة الله، بكل مناظر حنوِّها، تملأ صفحات العهد القديم، ألم يقل عن شعبه حتى في عصيانه: «ربيت بنين…» (إش 1: 2)، «هو ابنٌ غير حكيم» (هو 13: 13)… إلخ. ألم يحتسبها بولس على رأس امتيازاتهم: «الذين هم إسرائيليون، ولهم التبني والمجد والعهود .... » (رو 9: 4)؟ ولكن مع كل روعة ما سبق، أستلفت نظرك يا قارئي، أن مفهوم الأبوة في العهد القديم، لم يكن واضحًا كما لدينا الآن في تدبيرنا الحالي، فلم يكن لقديسي العهد القديم، التمييز الواضح، المعلن لنا بالوحي، بين أقانيم اللاهوت، المجتمعة معًا دون امتزاج، والمتميزة الواحد عن الآخر دون انفصال، كذا لم يكن امتياز سكنى الروح القدس وهو «روح التبني الذي به نصرخ يا أَبا الآب» (رو 8: 15) من نصيبهم، كما لنا الآن في تدبير النعمة
ولكن ماذا عسانا أن نفعل أمام نور إعلان تدبير النعمة، وسمو ما أعلنه لنا المسيح، إلا أننا بقلوبٍ ساجدةٍ في دواخلنا، وبرُكبٍ منحنية لدى أبي ربنا يسوع المسيح، وبعمل الروح القدس فينا، نُقدِّم سجودًا طويلاً إلى أن نقدمه كما وجب. لقد جاء الكلمة الأزلي متجسِّدًا، وأخبرنا كثيرًا عن قلب الآب، فأخبرنا أن الله أبانا يعلم، يُجازي، يُسَر بأن يُعطي، يهب… بل هو نفسه يحب!
يعلم: «لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه» (مت 5: 8).
يُجازي: «… فأبوك الذي يرى في الخفاء، يُجازيك علانية» (مت 6: 6).
يُسر بأن يُعطي: «لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سُرَّ بأن يُعطيكم الملكوت» (لو 12: 13)
يهب: «… فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات، يهب خيرات للذين يسألونه» (مت 7: 11). ولكن مهلاً يا صديقي ماذا يقصد بهذه الخيرات؟ ألم يستوضحها لنا الوحي في مكان آخر: «فكم بالحري الآب الذي من السماء، يُعطي الروح القدس للذين يسألونه» (لو 11: 13)، ولقد كان يقصد به نزول الروح القدس في يوم الخمسين وسكناه في مؤمني تدبير النعمة وهو«روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب» (رو 8: 15)
يكرم: «… وإن كان أحدٌ يخدُمُني يكرمه الآب» (يو 12: 26)
وإن كان كل ما سبق، قصد به المسيح أن يعلن لنا عن قلب ومعاملات الله أبينا، فماذا نقول عن صفوةِ وزُبَدِ الإعلانات، فلقد أخبرنا أيضًا أنه يفعل كل هذا لأنه يحب: «ولست أقول لكم، إني أسأل الآب من أجلكم، لأن الآب نفسه يحبكم» (يو 16: 26، 27).
والآن يا قارئي، بعد كلِّ هذا التجوال والتطواف في رِحاب الكلمة الغنية، لقد شَبِعَت قلوبُنا، ليس فقط من خيرات عميمة، أغدق بها الله على كونِهِ وخليقتهِ الصامتة، بل من امتيازاتٍ خاصة، وسعادةٍ غامرة، قصد الله أن يغنينا بها، أقصد: أبوة الآب. وإن كنا قد عرفنا علم الآب، ومجازاته وكرم وهبات، بل ومحبته لنا، ولكن قبل ختام حديثنا، ويتعذَّر عليَّ أن أختمه دون أن أُذكِرك، أن هذه الأبوة، قُصِدَت قبل أن يكون هناك زمان، وستظل لنا حتى بعد أن تنطوي الأزمان، ألم يُعْلَن لنا بالوحي: «إذ سبق فعيننا للتبني، بيسوعَ المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئتهِ، لمدحِ مجدِ نعمتهِ، التي أنعم بها علينا في المحبوب» (أفسس 1: 5، 6)؟ وهذه لمحة مما قُصِدَ من نحونا قبل الزمان، ولكن، اسمع الوعد للغالبين، أي المؤمنين الحقيقيين، حتى في يوم الدهور: «مَنْ يغلب يرثُ كلَّ شيءٍ، وأكون له إلهًا، وهو يكون لي ابنًا» (رؤ 21: 7).
بطرس نبيل