«فدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً:
لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي.
وَأَشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ إِذْ عَبَرَ فَنُوئِيلَ
وَهُوَ يَخْمَعُ عَلَى فَخْذِهِ» (تكوين32: 30، 31)
كثيرون قرأوا قصة “جوني إريكسون تادا” التي كانت بطلة رياضية صغيرة وجميلة ومشهورة، ومؤمنة أيضًا. ماذا كانت تطلب أكثر من ذلك؟ لكن حياة “جوني” كانت أبعد جدًا عما خطط الله لها. كتبت في الكتاب الذي يحكي قصة حياتها أن حياتها وهي مراهقة كانت تدور حول ذاتها ورغباتها الشخصية فقط. بعد تخرجها من المدرسة الثانوية شعرت أن الأمور ليست على ما يرام بينها وبين الله فصلت أن يعمل شيئًا ليقلب حياتها رأسًا على عقب، وليستخدمها لمجد اسمه.
أجاب الله صلاة “جوني” بطريقة غريبة جدًا، فقد سمح لها بأن يُكسر عنقها في حادث غطس، وبالتالي تفقد الإحساس بذراعيها ورجليها. كيف يسمح الله بمثل تلك المأساة؟ صارعت “جوني” مع هذا السؤال لعدة شهور عقب الحادث. ثم بدأت تدرك تدريجيًا أن الله أراد فعلاً أن يُقربها إليه، ويُبارك حياتها من خلال تلك التجربة الأليمة. في الواقع كان الله يكسر “جوني” القديمة حتى تصبح “جوني” الجديدة في المسيح مصدر بركة للآخرين.
واليوم علاقة “جوني” الرائعة بالله تشع من كرسيها المتحرك، لملايين الناس من خلال رسوماتها وكتاباتها، وأحاديثها وبرامجها الإذاعية اليومية، ومؤسستها المُخصَّصة لمساعدة المُعوَّقين. وبعدما شبعت ونضجت تمامًا في المسيح تُصرَّح “جوني” بأنها ما كان لها أن تحقق ذلك بطريقة أخرى. والآن توقع كل صورة ترسمها (بمهارة غير معقولة وهي مُمسكة بطرف القلم بفمها) هكذا: “جوني ... حمدًا للرب”. توقيعها هذا يُعدّ شهادة بأن البركة ممكن أن تأتي من الكسر.
الكسر
الكسر قبل البركة مبدأ كتابي. والله يستخدم وسائل مختلفة في الكسر في حياة كل واحد منا. ووسائله تلك ليست بالضرورة وسائل جسدية، فهي تختلف حسب نقاط ضعف أو قوة كل مؤمن؛ فقدان مفاجئ للوظيفة، أو تحمل مسؤولية غير مرغوب فيها قد يكون جزءًا من عملية الكسر. مبدأ “الكسر قبل البركة” مبدأ تعلمه يعقوب في تكوين32: 24-31 من خلال موقف ما في حياته.
وسنعطي لمحة صغيرة عن هذا الجزء من كلمة الله لمساعدتنا على الفهم. يعقوب كان ابن إسحاق، وحفيد إبراهيم أبي المؤمنين. وتعلَّم يعقوب من صغره أن يؤمن بإله آبائه، لكن لا نستطيع أن نصفه بأنه كان ملتزمًا بهذا الإيمان التزامًا كاملاً. ففي الحقيقة ما نفهمه من الكتاب المقدس عن يعقوب أنه كان شابًا أنانيًا، ودائمًا كان يسعى ليكون الأول. وهو ما زال فتى يافعًا غش أخاه عيسو وسرق منه البكورية، وهي الحقوق والامتيازات التي كان عيسو سيرثها بصفته الابن البكر (تك25: 27-34)، ثم بعد عدة سنوات خدع أباه المسن ليحصل على البركة الأبوية التي هي أيضًا من حق الابن البكر عيسو (تكوين27).غضب عيسو وصمم أن يقتل يعقوب بعد موت أبيهما إسحاق. بما أن يعقوب لا يقوى على منافسة عيسو في القتال (تك25: 27)، ترك البيت وهرب.
يعقوب المخادع والماكر والغشاش يهرب! لكن الله لم ينتهِ من ذلك الهارب. كان يجب على يعقوب أن يتعلم بعض الدروس لكن في النهاية كان سيُصبح رجل الإيمان الذي يريده الله (عب11: 21). الله لا يفقد الأمل أبدًا في واحد من أولاده. لنتأكد أنه رغم طرقنا الأنانية “أنا أولاً” فالرب يعمل من وراء الستار، يُهذب قلوبنا المتكبرة باستمرار، يريد أن يكسرنا ويهيئنا للبركة (مز51: 17؛ في1: 6).هرب يعقوب بعيدًا وفصلت مئات الأميال بينه وبين عيسو. ذهب إلى أقارب أمه، وعاش هناك لمدة 20 سنة، تزوج وأصبحت له عائلة كبيرة (صار أولاده فيما بعد رؤساء أسباط إسرائيل الاثنى عشر)، وخلال العشرين السنة حصد يعقوب ما زرع.
علَّمه الله وهذبه في تلك البلاد البعيدة.لم تكن مجرد صدفة أن يتعلَّم يعقوب احترام حقوق الابن البكر بإجباره على الزواج من ليئة (تكوين29). لم تكن مجرد صدفة أن يكون لابان حموه مخادعًا وأنانيًا مثله. كم من مرات حاول كل منهما خداع الآخر والتفوق عليه (تك28-31)، لكن الله استخدم كل هذه الظروف ليكسر يعقوب ويهيئه للبركة. يضعنا الله أحيانًا مع ناس تُضايقنا، أو في ظروف قاسية، ولكنها وسيلة من وسائله لتخليصنا من عيوبنا، أنت لا تُنعِّم لوح الخشب الخشن بقطعة قطن، بل تستخدم كاشطًا له أطراف حادة.في تكوين 32 رجع يعقوب أخيرًا لبيته. عرف وهو في الطريق أن عيسو كان يخطط للقائه وأربع مئة رجل معه، فخاف وصلى لله لينقذ حياته. قسم القوم الذين معه إلى قسمين لضمان سلامتهما، وأرسل أغلبهم قدامه بهدايا ليُليِّن قلب عيسو، حتى إنه وضع أسرته أمامه كجزء من خطة الخداع. ربما خطط يعقوب - الذي كان لا يزال ماكرًا - للهرب لينجو بحياته، لو رأى عيسو يرفض هداياه، أو يقسو على أسرته.نقطة التحولبقى يعقوب وحده تلك الليلة، جاءه إنسان وبدأ يُصارعه.
لا نعرف ماذا قيل وقتها، أو كيف بدأ الصراع، لكننا نعرف أن خصم يعقوب لم يكن إنسانًا عاديًا. هوشع12: 4 يُشير إلى أن الغريب كان ملاك الله، وتكوين32: 30 يُعلن لنا أن ذلك الزائر السماوي كان ابن الله قبل التجسد، وقد أخذ شكل إنسان بصفة مؤقتة (تكوين 18). لقد صارع الله يعقوب!كان يعقوب قد تعلم دروسًا كثيرة بالفعل قبل ذلك، لكن كأي واحد منا ما زال لديه الكثير ليتعلَّمه.
لم يكن باستطاعته أن يمضي قُدمًا في علاقته مع الله حتى يتخلص تمامًا من طرقه الأنانية المخادعة. لذا لاقاه الله وهو وحده وصارعه وجهًا لوجه.
يا له من درس لنا! هل يصارعك الله بسبب جوانب في حياتك تحتاج للكسر؟ ماذا عن خضوعك للسلطة؟ ماذا عن أولوياتك؟ ماذا عن إرادة الله في حياتك؟لم تنته مباراة المصارعة في عدة دقائق بل استمرت طوال الليل. الله يستطيع بسهولة هزيمتنا لكنه لا يحطمنا أو يغتصب إرادتنا، بل بدلاً من ذلك يستمر بكل صبر في مصارعتنا ليكسرنا.
وفي الفجر تصرف الله تصرفًا من الواضح أنه سبب ألمًا في حُق فخذ يعقوب. لم تكن مسكة غير قانونية، بل لمسة من الله في منطقة حساسة. هل لمسك الله بهذه الطريقة من قبل؟ “لمسة الله” قد تكون مؤلمة في البداية، لكنها جزء من عملية الكسر التي تقود إلى بركات عظيمة لحياتك.لم يقو يعقوب على استكمال المصارعة بل كل ما عمله أنه تشبث بالله. أدرك أخيرًا ضعفه وقلة حيلته وحاجته للاتكال على الله. لا يستطيع الآن أن يجري حتى مِن عيسو، كل أمله هو أن يتعلق بالله، ويطلب منه أن يباركه. يا لها من نقطة تحول فاصلة في حياة يعقوب! ينبغي لكل واحد منا أن يصل لتلك النقطة. أحيانًا تكون نقطة قوتنا الطبيعية هي النقطة التي يجب أن “يلمسها” الله ليعلمنا أن نتكل عليه. يقول الرب: «قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ» (2 كو12: 9).البركـةنقرأ أن الله بعد ذلك سأله عن اسمه، لماذا؟ قبل أن ينال يعقوب البركة لا بد له أن يعترف بحقيقته: “القابض” أو “المتعقب” وهذا هو معنى اسم يعقوب، وكان اسمًا مناسبًا لحياته التي اتسمت بالمكر والخداع ليحصل على ما يريده من الآخرين. وبذكره اسمه لله اعترف يعقوب صراحة بأخطائه.
الاعتراف بخطايانا لله جزء من عملية الكسر. قبل أن يملأ الله حياتنا بالبركات يجب أن نعترف بأخطائنا الماضية؛ لا بد أن نتضع. وصمة العار المتعلقة بالاسم القديم قد زالت وأُعطيَ ليعقوب اسمًا جديدًا؛ “إسرائيل”. هناك بعض التساؤلات حول المعنى الدقيق لاسم “إسرائيل” لكن من تكوين 32: 28 ومن هوشع 12: 3، 4 يبدو أنه يعني “مَن يجاهد مع الله”. يا له من تغيير كبير من “القابض المتعقب” إلى “من يجاهد مع الله”. لنلاحظ أنه يُفهم من هذا العدد أنه انتصر مع الله. هذا لا يعني بالطبع أن يعقوب كسب المصارعة، لكنه شعر بهزيمته، وتعلق بمصدر رجائه الوحيد.
الكسر حقق معجزة في حياة يعقوب، وما زال له التأثير نفسه في حياة المؤمنين اليوم.حاول يعقوب أن يدفع الغريب للإعلان عن نفسه بالكشف عن اسمه، لكن لم ينجح. ما زال أمام يعقوب طريق طويل للتعلّم، قبل أن يُظهر له الرب نفسه، كما فعل مع جده إبراهيم (اقرأ عن هذه المرحلة مِن حياة يعقوب كمؤمن في تكوين 35: 1-15). الكسر جلب البركة وأدرك يعقوب أن الله لمس حياته (تك32: 29-30).المشهد الذي نرى فيه يعقوب في تكوين32: 30، 31 مشهد جميل لمؤمن ينمو ويجتاز مرحلة الكسر وينتصر. «فدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهاً لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي.
وَأَشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ إِذْ عَبَرَ فَنُوئِيلَ وَهُوَ يَخْمَعُ عَلَى فَخْذِهِ» (تكوين32: 30، 31). تشرق الشمس على مَن يصارع طوال الليل. صحيح أنه يُحرز تقدمًا، لكن العرج الذي لحق به - كعاهة مستديمة - سيصلح كتذكار صغير له. إننا نرى في يعقوب مؤمنًا كُسر، ثم نال بركة عظيمة.