يُعطينا الكتاب المقدس - في سفر يشوع - صورة شخصية بديعة ليشوع الشيخ، ولبني إسرائيل في أرض الموعد. كانوا في كنعان، وبالتحديد في شكيم، عندما جُمعوا ليسمعوا الكلمات الأخيرة ليشوع خادم الله وقائدهم «وَجَمَعَ يَشُوعُ جَمِيعَ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ إِلَى شَكِيمَ. وَدَعَا شُيُوخَ إِسْرَائِيلَ وَرُؤَسَاءَهُمْ وَقُضَاتَهُمْ وَعُرَفَاءَهُمْ فَمَثَلُوا أَمَامَ الرَّبِّ» (يش24: 1). وأخذ يشوع يُذكّرهم بتاريخهم وأمانة الله معهم. وفي وسط خطابه قال: «فَالآنَ اخْشُوا الرَّبَّ وَاعْبُدُوهُ بِكَمَالٍ وَأَمَانَةٍ, وَانْزِعُوا الآلِهَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ آبَاؤُكُمْ فِي عَبْرِ النَّهْرِ وَفِي مِصْرَ، وَاعْبُدُوا الرَّبَّ. وَإِنْ سَاءَ فِي أَعْيُنِكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا الرَّبَّ، فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمُ الْيَوْمَ مَنْ تَعْبُدُونَ ... وَأَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ» (يش24: 14، 15).
كان يشوع مؤثرًا وحازمًا في قوله. ولقد اقتُبس يشوع 24: 15 على لوحات حائطية علت حوائط ملايين البيوت، وردده ملايين المسيحيين على مَرِّ القرون، حيث إنه مشجع «أَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ». والسؤال هو كيف وصل يشوع إلى هذا المستوى؟ والجواب هو أنه صعد إلى هذا العلو ببطء وبثبات، إذ كان يشوع أمينًا للرب منذ حداثته. وآباؤنا الروحيين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه هناك بالصدفة بل بالتدريب. ويسجل لنا هذا الأصحاح عينه موت يشوع وهو «ابْنَ مِئَةٍ وَعَشَرِ سِنِينَ» (يش24: 29). ربما نستطيع أن نكون مؤثرين وحازمين في أمور الله، في شيخوختنا، كيشوع، إن تدرَّبنا على بعض المبادئ التي تدرب عليها هو في شبابه:
يشوع يغلب عماليق
لقد خلَّص الرب بِقوَّته إسرائيل مِن يد المصريين، ونظر إسرائيل المصريين أمواتًا على شاطئ البحر. وبمجرد ما بدأت رحلة شعب الله إلى أرض الموعد كنعان، بدأوا في التذمر. لقد كان احتياجهم للطعام والماء مشروعًا، أما تذمرهم فلم يكن كذلك، لأنهم كانوا قد اختبروا قوة الله لتوهم، لكنهم سرعان ما حوَّلوا أعينهم عن الله إلى ظروفهم.
وهكذا يفعل المسيحيون اليوم؛ فنحن نُضَخِّم مشاكلنا، ونُقلّل من شأن ربنا! لقد منحهم الله في نعمته المَنّ ليأكلوا، والماء ليشربوا (خر16: 1 - 17: 7)، وواصل إسرائيل رحلته مختبرًا كلاً مِن قوة الله العظيمة، وجُوده السخي، لكن ظهرت مشكلة أخرى: وهي عماليق (خر17: 8-15). وأول ما ذُكر عن يشوع الذي معنى اسمه “يهوه مُخلّص”، كان بالارتباط بهذه الحادثة إذ أوصاه موسى بانتخاب بعض الرجال لمحاربة عماليق. وبينما كان يشوع ورجاله يُحاربونهم في الوادي، وقف موسى على الجبل رافعًا يديه، وطالما كانت يد موسى مرفوعة غلب إسرائيل، وإذا خفض يده كان عماليق يَغْلِب. وفى النهاية احتاج موسى مساعدة هارون وحور ليدعما يديه، وانتصر إسرائيل بقيادة يشوع على عماليق (خر17: 8-13).
هذا هو الدرس الأول الذي علينا أن نتعلَّمه من تجربة يشوع في شبابه: يُمكننا أن نغلب عماليق لكننا بحاجة إلى معونة. وعماليق صورة للجسد، وبالرغم من أن المؤمنين ليسوا بعد في الجسد إلا أن الجسد لا يزال فيهم (رو7: 13-25)، لأننا ورثنا الطبيعة الآدمية من آدم، التي تُدعى أيضًا طبيعة الخطية أو الجسد.
لقد قال الرب يسوع لنيقوديموس: «يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ»، وقبل ذلك قال: «اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ». وإذ يعمل الله في قلوبنا ويغيرنا نحصل على طبيعة إلهية، أي نُولَد من الروح (يو3: 6-8؛ 1بط1: 23)، إلا أننا لا نزال نتعامل مع الجسد (غل5: 16-26).
لقد استطاع الشاب يشوع أن يهزم عماليق، ولاحظ ما يرد في خروج 17: 8 «وَأَتَى عَمَالِيقُ وَحَارَبَ إِسْرَائِيلَ فِي رَفِيدِيمَ». إن الجسد يهاجمنا حتى وإن كنا مُخلَّصين، فهناك عدو بداخلنا! لكننا كيشوع علينا أن نهزمه. كان موسى رمزًا للمسيح كاهننا العظيم في السماء، وهو رافع يديه لمعونتنا (عب4: 14-16). وبينما تقصر كل الرموز في الكتاب المقدس، لكن يبقى المسيح هو رئيس الكهنة الأعظم، الذي لا يكلّ ولا يعيا، والذي لا يحتاج إلى من يعينه لكي يرفع يديه! فهو هناك يُعيننا لنغلب عماليقنا.
لقد خاض يشوع ورجاله حربًا فعلية، واحتاجوا إلى مساعدة موسى. وكيف نخوض نحن صراعًا مع الجسد اليوم؟ أولاً: علينا أن ندرك أن الجسد دائمًا موجود فينا، وأنه يطل برأسه، ويظهر حتى في أفكارنا، وعلينا أن نحكم عليه مستخدمين كلمة الله كمقياس لنا؛ علينا أن نحاربه داخليًا. ثانيًا: علينا أن ننتصر عليه بقراءة كلمة الله وتطبيقها على حياتنا. ثالثًا: علينا أن نصلي. هذه الممارسات يجب أن تبدأ فور الخلاص، ولا نكف عنها إلى أن يأخذنا الرب إلى بيته.
وأخيرًا لاحظ ما يقوله خروج 17: 16 «لِلرَّبِّ حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ». إن الحرب مع الجسد دائمة لا توجد فيها هدنة، ولكي نصير مُحددين كيشوع في شيخوخته، علينا أن نكون متيقظين كيشوع في شبابنا.
يشوع ... خَادِم مُوسَى
في خروج 24 يُدعى يشوع: “خَادِمِ مُوسَى” حيث قال الرب لموسى أن يصعد جبل سيناء ليأخذ الشريعة والوصايا العشر. وتقول الآية 13 «فَقَامَ مُوسَى وَيَشُوعُ خَادِمُهُ. وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى جَبَلِ اللهِ». لقد سُمح ليشوع أن يتقدم أكثر من هارون وحور والسبعين شيخًا، لكن موسى وحده هو مَنْ استطاع أن يدخل إلى محضر الرب. لقد بارك الرب يشوع كخادم موسى بتدريب روحي خاص. وبلا شك أنه تأثر بحياة موسى، وكالآخرين شاهد يشوع كل انتصارات وإخفاقات موسى، ورأى كيف استخدمه الرب، وكيف أخفق عندما تصرف بالجسد.
ولكي نصير ناضجين روحيًا، وتكون مشاعرنا صادقة للرب في شيخوختنا، نحتاج إلى التدريب الروحي الذي تلقاه يشوع؛ نحتاج إلى موسى. لقد منح الرب يشوع لموسى، وموسى ليشوع. هناك الكثير لنجنيه من لقب «خَادِمِ مُوسَى» (يش1: 1). ربما تضمنت مهمة يشوع مساعدة موسى في بعض احتياجاته الشخصية، وربما ساعده أيضًا في بعض المهام الروحية، لكن حتى وإن لم تُعزَ ليشوع أية مهام روحية، إلا أنه تعلَّم دروسًا لا تُقدَّر بثمن من وجوده في صحبة موسى خادم الرب.
ونحن المؤمنون نتعلَّم أفضل دروسنا من الله بطرق متعددة؛ مِن دراسة الكتاب المقدس، ومن الوعظ ومن التعليم، ومن الخدمة المكتوبة، ومن الصلاة، إلا أن الرب أحيانًا يمنحنا إخوة أو أخوات متقدمين، يكونون بمثابة موسى لنا، يُمكننا التدريب تحت إرشادهم، إلا أنه تدريب ليس لوظيفة محددة مثل يشوع، بل لتلمذتنا لنصير مؤمنين ناضجين. فيجب علينا أن نشكر الله على المُرشدين، ونتعلَّم منهم. ومثال على جهل يشوع، وفطنة موسى يتضح من خروج 32: 15-20 حينما صرف الرب موسى لينزل من جبل سيناء لأن الشعب كان يُخطئ، فظن يشوع أنه سمع صوت قتال، أما موسى فعلم أنه صوت غناء. كما يعطينا تيطس 2 بعض التحريضات المفيدة؛ فمن ينطبق عليه شروط المؤمنين الشيوخ يُمكنه أن يكون كموسى بالنسبة للأحداث.
يشوع بالقرب من الخيمة
«وَأَخَذَ مُوسَى الْخَيْمَةَ وَنَصَبَهَا لَهُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ، بَعِيدًا عَنِ الْمَحَلَّةِ، وَدَعَاهَا خَيْمَةَ الاجْتِمَاعِ ... وَيُكَلِّمُ الرَّبُّ مُوسَى وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ. وَإِذَا رَجَعَ مُوسَى إِلَى الْمَحَلَّةِ كَانَ خَادِمُهُ يَشُوعُ بْنُ نُونَ الْغُلاَمُ، لاَ يَبْرَحُ مِنْ دَاخِلِ الْخَيْمَةِ» (خر33: 7، 11). إن الدرس الأخير من يشوع يجعلنا شغوفين للعيشة للرب وخدمته في سنينا المتقدمة.
كان إسرائيل قد ارتكب خطية عظيمة بعبادة العجل الذهبي، فأخذ موسى الخيمة إلى خارج المحلة، ودعاها خيمة الاجتماع، مُقيمًا بذلك مكانًا منعزلاً عن الخطية والزيغان، حتى يتسنى للرب أن يتقابل معه. فكان موسى يرجع إلى المحلة ليتعامل مع الشعب، أما يشوع فلم يبرح من داخل الخيمة. هنا يكمن السر: فكيشوع علينا ألا نبرح من محضر الرب. في هذا الجزء نجد معلومات أكثر عن يشوع، فبالرغم من كونه غلامًا، إلا أنه أراد المكوث في محضر الرب حيث تكلَّم الرب. لقد أراد أن يكون حيث تُعطى الإرشادات والتوجيهات الإلهية، وفي الوقت نفسه أراد أن يكون بعيدًا عن الخطية والعصيان. لقد مارس يشوع التدريب على أن يكون دائمًا في محضر الرب.
هذه الحقيقة يقرها مزمور 91: 1 بوضوح «اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ، فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ». يمكننا قول الكثير في فشل المسيحية وإخفاق الكنائس المحلية، لكن كمؤمنين أفرادًا يُمكننا أن نكون كيشوع ولا نبرح من محضر الرب. كيف يُمكننا فعل هذا؟ يقدم لنا 1ملوك 17: 1 هذه الفكرة الجميلة «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي وَقَفْتُ أَمَامَهُ». إننا دائمًا في محضره، ونحتاج أن نمارس ذلك بوعي. ولا بد أن يكون هناك انفصال عن الشر، غير أن الانفصال ليس معناه العزلة. نحن نحتاج لأن نُطَوِّر علاقتنا الشخصية بالرب من خلال قراءة كلمته والتأمل فيها، والصلاة، ونحتاج أيضًا أن نُطيعه ونسمع صوته، وأن نجتمع مع شعبه. كان يشوع في الخيمة بعيدًا عن الشر الذي في المحلة، ولم يكن يبرح من محضر الرب.
تعبير يشوع الصادق
إن تلك المقولة التي تزين ملايين البيوت حول العالم اليوم، لم تكن مجرد شعارًا ليشوع بل كانت طريقة حياته فكان تقريره «أَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ» (يش24: 15)، هو ملخص حياة عاشها لله. ونحن نعلم أنه خدم حسنًا خلفًا لموسى، واستُخدم بجدارة ليأتي بإسرائيل إلى كنعان، واستُخدم في طرد الأعداء ليملك إسرائيل ميراثه، كما استُخدم ليُقَسِّم الأرض على الأسباط الإثني عشر.
وقبل أن نقول «أَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ» دعونا نتذكر هذا: أن يشوع هزم قوة عماليق، وخدَم وتعلَّم كخادم موسى، وَتَدَرَّب على الوجود في محضر الرب، قبل أن يُعطي هذا التقرير. أتكلَّم روحيًا: علينا أن نفعل كذلك!
آل ستيوارت