هب حبقوق بتساؤلاته وبحيرته، وصعد على المرصد، صارخًا للرب لكي يُريح قلبه ويُهدئ انزعاج أفكاره، سواء من جهة سطوة الأشرار حوله، أو من جهة الأوضاع المنقلبة والمنفلتة.
وهيهات أن يتغافل الرب عن قلق قديسيه، فحالما صعد حبقوق على مرصده، وانتصب على الحصن، نجده يقول مهللاً: «فَأَجَابَنِي الرَّبُّ» (حب٢: ٢). وهذا ما نحتاجه فى هذه الأيام؛ أن نبتعد عن ضوضاء العالم، وآراءه واستنتاجاته الخاطئة، ونصعد على مرصد الشركة، ونُهدئ نفوسنا في الحصن أمام الرب، فنري مناظره وإعلاناته، بل ونستمتع بإجاباته المُهدئه لحيرتنا.
وتعالوا بنا - أيها الأحباء - نستمع إلى تلك الإجابات الرائعة التى أعطاها الرب لحبقوق:
أولاً: «اكْتُبِ الرُّؤْيَا وَانْقُشْهَا عَلَى الأَلْوَاحِ لِكَيْ يَرْكُضَ قَارِئُهَا» (حب٢: ٢):
١- «اكْتُبِ الرُّؤْيَا وَانْقُشْهَا عَلَى الأَلْوَاحِ»: هناك رؤيا يا حبقوق أي نبوة (حب١: ١)، فالرب أكد له أنه سيأتي لراحة شعبه، وللقضاء على الأشرار «أَبْصَرَتْكَ فَفَزِعَتِ الْجِبَالُ. سَيْلُ الْمِيَاهِ طَمَا. أَعْطَتِ اللُّجَّةُ صَوْتَهَا. رَفَعَتْ يَدَيْهَا إِلَى الْعَلاَءِ» (حب٣: ١٠).
والنبوة غالبًا يعطيها الرب كنور فى زمن الخراب، تنعش وتشجع الأتقياء، كتلك التى أعطاها الرب فى أيام إشعياء حيث نقرأ عن حاله من الظلام والخراب «وَيَنْظُرُونَ إِلَى الأَرْضِ وَإِذَا شِدَّةٌ وَظُلْمَةٌ، قَتَامُ الضِّيقِ، وَإِلَى الظَّلاَمِ هُمْ مَطْرُودُونَ» (إش٨: ٢٢)، لكن يأتى نور النبوه الحلو مشجعًا «اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ» (إش٩: ٢).
٢- «لِكَيْ يَرْكُضَ قَارِئُهَا»: وكل من يقرأ النبوه يا حبقوق يجري مُتشددًا، ويركُض مُخبرًا الآخرين. وهذا ما حدث مع تلميذي عمواس؛ فعندما فسر لهما الرب النبوات «ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ»، تغيرت عبوستهما وانفتحت أعينهما، وركضوا لكي يخبروا الآخرين (لو٢٤: ١٣-٣٥).
وكأن الأجابه الأولى من الرب لكل تقي متحير ومتسائل: ضع قلبك على الكلمه النبوية وهى أثبت لأنها صادقة منعشة، ولا تعتمد على الآراء البشرية الكاذبة المزعجة.
ثانيًا: «لأَنَّ الرُّؤْيَا بَعْدُ إِلَى الْمِيعَادِ، وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ» (حب٢: ٣):
الله عنده ميعاد لتحقيق أموره العظيمة يا حبقوق «لاَ يَتَبَاطَأُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ التَّبَاطُؤَ، لَكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا» (٢بط٣: ٩)؛ فهو – تبارك اسمه - عنده خطة ولديه توقيت. قد يبدو للمتألم أن الرب نسى قضيته، كما نُسيَّ يوسف داخل سجن مصر، لكن الرب لم ينساه بل «إِلَى وَقْتِ مَجِيءِ كَلِمَتِهِ ... أَرْسَلَ الْمَلِكُ فَحَلَّهُ. أَرْسَلَ سُلْطَانُ الشَّعْبِ فَأَطْلَقَهُ» (مز١٠٥: ١٩، ٢٠).
وهذا ما يستعرضه أمامنا الوحي في كل الكلمة النبوية عن أعظم مشروع لله، فلقد أرسل ابنه في ملء الزمان، وتمت النبوات عن ولادته، ولا بد أن يُكمل كل أجزاء المُخطط الإلهي في ميعاده يوم أن «يَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ» (أف١: ٩)، وتصير في الميعاد «مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (رؤ١١: ١٥).
فالإجابة الثانية للحائر: إنه الميعاد الإلهي الذي لا يتأخر «أَنَا الرَّبُّ فِي وَقْتِهِ أُسْرِعُ بِهِ» (إش٦٠: ٢٢).
ثالثًا: «إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ» (حب٢: ٣):
كان تساؤل حبقوق: «حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟» (حب١: ٢)، وهو سؤال الكثيرين ولاسيما من المتضايقين الذين طال بهم وقت الألم. وهنا نجد إجابة شافية أخري من الرب فى كلمتين:
١- «إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا»: وكأن الرب يقول لحبقوق: «انْتَظِرِ الرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ، وَانْتَظِرِ الرَّبَّ» (مز٢٧: ١٤)، ستتحقق النبوات ويأتي زمان البركة والقضاء على الأشرار. صحيح قد يبدو الانتظار صعبًا طويلاً، لكن علينا أن ندرك أن انتظارنا للرب أمر مشجع جدًا، قال عنه داود: «إِنَّمَا للهِ انْتَظِرِي يَا نَفْسِي، لأَنَّ مِنْ قِبَلِهِ رَجَائِي» (مز٦٢: ٥). إنه انتظار مضمون النتائج «اِنْتِظَارًا انْتَظَرْتُ الرَّبَّ، فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي» (مز٤٠: ١).
٢- «سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ»: ما أروع هذا التأكيد المضاعف «سَتَأْتِي إِتْيَانًا»! فهل يقول الرب ولا يفعل، وهل يتكلم ولا يفي؟! إن الرب يؤكد لنا باستمرار في كلمته: «لاَ أَنْقُضُ عَهْدِي، وَلاَ أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيّ» (مز٨٩: ٣٤).
ما أحوجنا أن نهدأ ونحن نستمع لهذه الإجابة الثالثة «لِنَعْرِفْ فَلْنَتَتَبَّعْ لِنَعْرِفَ الرَّبَّ. خُرُوجُهُ يَقِينٌ كَالْفَجْرِ» (هو٦: ٣).
رابعًا: «وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا» (حب٢: ٤):
فما الذي يجعل التقي وسط الحيرة ينتظر، ويفهم، ويصبر، حتى ولو لم يرَ قبسٌ من نور صغير في الأفق وسط ظلام الليل؟! إنه الإيمان. وهذا ما قاله الرب لحبقوق: «هُوَذَا مُنْتَفِخَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ نَفْسُهُ فِيهِ. وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا» (حب٢: ٤). صحيح أن الشرير في كبريائه وفساده يتطاول حتى على الله قائلاً: «كَيْفَ يَعْلَمُ اللهُ؟ وَهَلْ عِنْدَ الْعَلِيِّ مَعْرِفَةٌ؟» (مز٧٣: ١١)، لكن التقي ينتظر الرب بالإيمان، واثقًا به، منتظرًا له، فيحيا هادئًا.
هذه الآية: «وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا»، اُقتُبست ٣ مرات فى العهد الجديد لتؤكد أن الإيمان هو الوسيلة الوحيدة - ليس فقط للتبرير - بل أيضًا الوسيلة الوحيدة التي بها يحيا البار، والتي بها يحتمل المشقات والتعييرات والضيقات، منتظرًا مجيء الرب وتحقيق مواعيده (رو١: ١٧؛ غل٣: ١١؛ عب١٠: ٣٨).
أيها الأحباء: كم نحن في حاجة أن يزيد الرب إيماننا، فننشد وسط ظلام الليل: «لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ» (٢تي١: ١٢).
فيا ليتنا نأتي أمام الرب بكل تساؤلاتنا وحيرتنا، نصعد على المرصد منتظرين، وفي عرش النعمة نطرح شكوانا أمامه، ولا بد أن نستمتع بهمسات الرب لنا، فنصبح هادئين وكل منا يغني قائلاً: «فَأَجَابَنِي الرَّبُّ» (حب٢: ٢).