هل هناك من مجالات نعطى الرب فيها فُضَالَتُنَا؟
“مراءون كثيرون!” هكذا صرخ أحدهم بينما كنت أخدم في إرسالية إغاثة: “الله يريد الحقيقة! إنه لا يحب الزيف!” إني لا أعلم دوافع هذا الرجل من وراء المشاركة برأيهِ، لكنه كان على حق! الله يريد الحقيقة في محبتنا له، وعبادتنا وخدمتنا له، وكل ما ينتظره من شعبه - في أي جيل - هو أن حياتهم تُمجّده في كل ما يفعلون أو يقولون! وهذا هو موضوع سفر ملاخي.
لقد كان ملاخي آخر الأنبياء إلى أن لحقه يوحنا المعمدان بعد 400 سنة. ونحن لا نعرف الكثير عنه، إلا أن السفر الأخير من العهد القديم يحمل اسمه الذي معناه “رسولي”. أما معاصروه فهم حجي وزكريا وعلى الأرجح نحميا، وكل مِنْ هؤلاء الأنبياء الثلاثة يصف حالة روحية متدنّية لشعب الله. نحن لا نعرف مِن أين كان ملاخي، ولا حتى متى دعاه الله للخدمة، لكن كانت رسالته واضحة، وكان شعب الله في مسيس الحاجة إليها. ونحن لسنا مُختلفين عنهم اليوم! ففي الواقع يوجد الكثيرون اليوم مِمَنْ هم في مثل حالة أيام ملاخي. ويُمكننا أن نتعلَّم سبعة دروس مِن سفره لتُساعدنا على الصدق مع الله في يومنا.
1- تذكر محبة الله
تبدأ رسالة ملاخي مِن حيث يبدأ كل زيغان عن الله، مِن القلب. لقد فقد شعب يهوذا تقديره لمحبة الله له، التي قال عنها موسى: «لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ ... مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُمْ» (تث7: 6-8). ثم قال لهم إرميا: «مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ» (إر31: 3). ولقد حقَّق الله محبته لهم باختيارهم دون ذرية عيسو، وبمساعدتهم في العودة لبناء الخِرب، وبتمكينهم من رؤية عظمته التي أظهرها فيمن هم خارج تخوم إسرائيل (مل1: 2-5). وبالرغم من كل هذا تساءلوا: «بِمَ أَحْبَبْتَنَا؟» (ملا1: 2).
إننا لسنا مختلفين عنهم اليوم، وبسهولة يمكن أن تتقسى قلوبنا تجاه محبة الله لنا، وننسى أنه «فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (1يو4: 10). لو بدأنا نفقد رؤية محبته لنا، سننجذب بالتدريج إلى أمور أخرى. هذا ما حدث مع الكنيسة التي في أفسس؛ إذ تركوا محبتهم الأولى (رؤ2: 4)، فزحفت إليهم أمور كثيرة، حتى ولَّت مشاعرهم تجاه المسيح.
وهذا ما حدث مع يهوذا في أيام ملاخي. وإذ انشغلوا بالبركات المادية مُعتبرين إياها دليلاً على محبة الله لهم، تعاموا عن كل ما صنعه معهم. أما نحن فكمؤمنين علينا أن ندع كلمة الله تنعش قلوبنا باستمرار من جهة محبته لنا.
2- احترم الله
كنتيجة لفقدانهم رؤية محبة الله لهم، بدأوا ينسون عظمته، فاحتقروا اسمه. لقد كان كلام ملاخي في كل مِن أصحاحي1: 6؛ 2: 9 مُوجَّهًا إلى الكهنة الذين كان عليهم أن يُعلّموا الشعب أن يُكرموا الرب في ذاته، وفى هيبته أمام الشعوب، لكنهم بدلاً من ذلك اعتبروا هذه الأمور بلا قيمة. إن اسم الرب يعلن كل ما هو عليه؛ صفاته وألوهته وجلاله. ولقد استخدم ملاخي عبارة «اسْمِي» على الأقل ثمانِ مرّات ليُثبِّت على الكهنة حال كونهم يهملون تلك الأمور. فلما تساءلوا «بِمَ احْتَقَرْنَا اسْمَكَ؟» (ملا1: 6)، أجابهم ملاخي بطريقتين:
أولاً: كان هؤلاء الكهنة يُعطون الرب ما يمكننا أن نسميه “فُضالَتُهُمْ” (ملا1: 6-14)، إذ كانوا يُقربون الأعرج والسقيم الذي لا يستطيعون تقريبه حتى إلى الوالي، فكيف تجرّأوا على تقديمه للرب؟
لكن قبل أن نقسو عليهم دعونا نفحص حياتنا. هل مِن مجالات نُقرب للرب فيها من فُضالَتُنا؟ هل نعتبر اسمه بلا قيمة؟ مِن السهل أن نعطيه يوم الأحد، وربما ليلة أخرى من الأسبوع، لكنه يُريدنا أن نكون ذبائح حيّة مُقدّسة ومقبولة لديه، كل يوم من أيام حياتنا (رو12: 1). فما أسهل علينا أن ننسى أنه يجب أن يتوافق كل جزء من حياتنا مع اسمه.
ثانيًا: كان هؤلاء الكهنة يأخذون لأنفسهم الأفضل، وفقدوا رؤية امتياز كونهم مُمثّلي الله، فتنكَّروا لشريعته (ملا2: 1-9)، لذلك يُقدِّم ملاخي 2: 5-7 ستة صفات ضرورية لكل مًن يرغب في أن يمثل الله:
(1) لا بد أن يكون لدينا خوف مقدس لله، الأمر الذي إذا فُقِد فسيخبو نورنا، وسيكون تأثيرنا ضئيلاً في هذا العالم المظلم.
(2) علينا أن نعرف الحق ونعلنه. فنحن مدعوون لأن نُقيم أنفسنا لله مُزكين عاملين لا نخزى، مُفصّلين كلمة الحق بالاستقامة، وأن نكرز بالكلمة (2تى2: 15؛ 4: 2).
(3) علينا أن نتحول عن الخطية ونبتعد عنها «أَمَّا الشَّهَوَاتُ الشَّبَابِيَّةُ فَاهْرُبْ مِنْهَا» (2تى2: 22).
(4) علينا أن نسير مع الله يوميًا في كلمته وبالصلاة.
(5) علينا أن نقود الآخرين للمسيح وليس لأنفسنا.
(6) علينا ألا ننسى أننا سفراء عن الرب.
ولقد أخفق الكهنة في أيام ملاخي في هذه الأمور الضرورية، وأهانوا الله. فيا ليت الرب يُساعدنا لكي ننمو في احترامه لذاته، ولِما أوصلنا إليه!
3- إعادة تقييم إخلاصنا
لقد اعترض ملاخي على الأمة بأسرها لتُعيد تقييم إخلاصها لله في مجالين:
أولاً: لقد أشار لكونهم يعاملون بعضهم البعض “بغدر” (ملا2: 10)، أي بخيانة وعدم إخلاص وبغش، فذكّرهم بالعلاقة العامة التي أتوا إليها، وكيف أنهم تنكّروا لها. ونحن أيضًا نحتاج لأن نذكر العلاقة العامة التي نتمتع بها كمؤمنين، لذلك يتحدى بولس أفعالنا قائلاً: «اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ، وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ»، ويستطرد قائلاً «كُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ، مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضاً فِي الْمَسِيحِ» (أف4: 25، 32). وللأسف يمكن أن نكون نحن أيضًا مُذنبين في التعامل مع بعضنا البعض بغدر، كالشعب في أيام ملاخى.
ثانيًا: لقد واجه النبي رجال الأمة بتطليق زوجاتهم، والزواج بمَن يعبدن آلهة غريبة (ملا2: 11-16)، وسمى هذا أيضًا غدرًا، ليكون عدد مرات ذكر “الغدر”، في الأصحاح الثاني، خمس مرات. فهؤلاء الرجال كانوا ينكثون عهودهم التي قطعوها مع الله ومع زوجاتهم، وهم يعاملوهن بكل استهانة، الأمر الحادث اليوم أيضًا، وبطرق عديدة، حيث صارت العلاقة الزوجية عديمة القيمة في نظر الكثيرين، فذكَّرهم ملاخي بأربع أمور يحتاج كل زوج أن يتذكرها اليوم أيضًا:
(1) أن عليه أن يبقى مع امرأة شبابه.
(2) أن تكون هي قرينته.
(3) هي زوجته بعلاقة عهد أمام الله.
(4) أن الله يكره الطلاق (ملا2: 14-16).
ولأن أي مِن هذه المقاييس لم تتغير، لذلك يجب أن نتحذر، أو بكلمات أخرى علينا أن نفحص علاقاتنا، ونتأكد من إخلاصنا - في الفكر والقول والفعل - تجاه شريك الحياة الزوجية.
4- التجاوب مع عدل الله
كيف نتجاوب مع طرق الله؟ هل نستجوب الله بخصوص طرقه التي يجريها في حياتنا؟ لقد استطرد ملاخي بالاعتراض على الشعب في هذا الأمر (ملا2: 17؛ 3: 6). ربما نتساءل: “لماذا تسوء أمور الصالحين وتفلح طرق الأشرار؟” من السهل أن نصبح مثل الشعب في أيام ملاخي الذين برروا أنفسهم واستذنبوا الله بسبب ظروفهم، لكن علينا أن نذكر قول الرب: «لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي، يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ» (إش55: 8، 9).
لقد سأل الشعب «أَيْنَ إِلَهُ الْعَدْلِ؟» (ملا2: 17)، فأجاب ملاخي مقدمًا خادمين كمثال؛ يوحنا المعمدان والرب يسوع. لقد انفرد يوحنا المعمدان بامتياز البشارة في نهاية العهد القديم وبداية العهد الجديد (ملا3: 1؛ مت11: 10؛ مر1: 2؛ لو7: 27). كيف أجاب يوحنا المعمدان على تساؤلهم كون الله عادلاً؟ لقد قدَّم الرب يسوع لإسرائيل كحمل الله (يو1: 29-31). فعندما أتى المسيح إلى هذا العالم أتى كالنائب عن الخطاة، وعلى الصليب أرضى عدل الله تمامًا (رو3: 21-26).
أما المرسل الثاني فهو الرب نفسه (ملا3: 1). ويحدثنا ملاخى 3: 2-6 عن مجيء الرب الثاني، عندما يعود ليملك كملك الملوك فجأة (مت24: 36)، ليُطهّر أمة غير مستعدة ودنسة. في ذلك اليوم سيأتي الرب يسوع بقضاء صارم على كل شر (ملا3: 5). لكن كيف يُجيب كل هذا على سؤالهم إن كان الله عادل؟ هنا يُذكّرهم ملاخي أن لله خطة لا نراها نحن، فهو يعلم الصورة ككل، أما نحن فلا نرى سوى لقطة واحدة في وقتها. عندما تتبادر إلى أذهاننا التساؤلات نحتاج أن نذكر أن الله هو الله الذي لا يتغير، لا هو ولا خططه ولا محبته ولا نعمته ولا قداسته.
5- ارفض أن تسلب الله
إن الدرس الخامس الذي يُعلمنا إياه ملاخى هو ألا نسلب الله. هناك طرق عديدة يمكن بها أن نسلب الله حقه الواجب علينا، لأن أوقاتنا ومواهبنا وعشورنا كلها ملك لله. وملاخي يُحذِّرنا مِن جهة هذا الأمر الأخير؛ العشور (3: 7-12). العشور هي 10% مِن الحبوب والفاكهة والبهائم والمال (لا27: 30-34؛ نح13: 5)، وكانت هناك مخازن خاصة في الهيكل لجمع العشور. وكانت عملية التعشير تعتبر جزءًا مِن العبادة حتى قبل الناموس (تك14: 20؛ 28: 22؛ عب7)، فإذا ما حجز أحدهم عشوره، فكأنه يسلب عبادة الله. أما في العهد الجديد فلا توجد وصية صريحة من جهة العشور إلا أن 1كورنثوس 16: 1، 2 يطرح فكرة أن المؤمنين يعطون قدر المستطاع. وفى 2كورنثوس 7-9 نجد أن العطاء مُرتبط بالنعمة، فإذا ما أعطينا بحسب النعمة التي نتمتع بها الآن، ستتعدى عطايانا العُشر بكثير. وهناك أيضًا أمر آخر أشار إليه ملاخي ألا وهو أنه وقتما نسلب الله، فنحن نسلب أنفسنا البركات التي يريد الله أن يُمتّعنا بها، وربما تكون هذه البركات ليست مادية (2كو9: 6-15). لكن تذكّر أن الله لا يبيت مديونًا لأحد، ونحن لا يمكن أن نُهين الله!
6- ارفض تجربة التذمر
من أسهل الخطايا ارتكابًا هو التذمر الذي لا يحتاج إلى مهارة أو موهبة لانتقاد الآخرين، فكلمة شكوى واحدة لها تأثير قوى على كل من هم حولنا، وهذا درس آخر احتاج الشعب أن يتعلمه. لقد كان تذمرهم ضد الله، وشعروا أن خدمتهم للرب بلا جدوى فكان توجههم: “وما العائد علينا؟” (مل3: 13-15). وأحيانًا نشعر الشعور ذاته فنتساءل: “ما الداعي لحضور الاجتماعات وسماع نفس الرسالة مرارًا وتكرارًا”. كما اشتكى الشعب أيضًا من ازدهار الأشرار، في الوقت الذي كانوا هم يعانون فيه. ربما من وقت لآخر نسأم من خدمة الرب ونشعر بالشعور ذاته، حينئذ نحتاج أن ننظر إلى موضوع إيماننا الرب يسوع، مثالنا الأعظم للخادم كما يجب أن يكون، الذي ينبغي أن نركِّز عيوننا عليه حتى لا تكون عندنا فقط القوة لخدمته بسرور بل أيضًا أن نصير أكثر شبهًا به!
يعطينا ملاخى ثلاث خطوات تقينا من التذمر:
أولاً: مخافة الرب التي يجب أن تحرِّكنا دائمًا لنعطيه الأولوية في حياتنا؛ لنتفكَّر فيه وفي مشاعره وفي حقوقه. هذا هو معنى مخافة الرب.
أما الأمر الثاني: فهو أنه يجب أن نكلِّم بعضنا البعض دائمًا فمن الضروري أن يكون لك أصدقاء مؤمنين تتشارك معهم الحديث عن المسيح. فلو تحدثنا معًا عن المسيح كثيرًا، فما أقل الوقت الذي سيكون لدينا للشكوى والتذمر.
ثالثًا: التأمل في اسمه. إن اسم الرب يصف لنا طابعه وجماله وعظمته، إنه حق وجليل وعادل وطاهر ومُسِرّ وصيته حسن، وفيه وحده نجد الفضيلة وما هو جدير بالمدح (في4: 8). دعونا نتأمل فيه!
7- ابتهجوا في ذلك اليوم
إن الدرس السابع والأخير الذي يُعلّمنا إياه ملاخى هو أن نتطلع إلى يوم الرب الآتي. ليس هذا هو يوم الاختطاف، حيث يأتي المسيح لتابعيه، لكن هو مجيئه الثاني للمُلك، كشمس البر وكرجاء إسرائيل. في ذلك الوقت سيملك الرب يسوع كملك الملوك، وستملك الكنيسة معه. وعلى كل مؤمن أن يتطلع إلى “ذلك اليوم”؛ والذي هو “يومه”، أي “يوم الرب”!
ماذا عنا؟
لقد اتجهت رسالة ملاخي إلى لُبِّ المشكلة مباشرة، مطالبة الشعب أن يفحصوا حياتهم بتدقيق من سبع وجهات هامة. ونحن نفعل حسنًا اليوم إذا ما سمحنا لروح الله أن يفحص قلوبنا بالطريقة نفسها، لنرى إن كنا حقيقيين في كل ما نفعل لأجله.