ما أن أتناول هذا الأصحاح الرائع، حتى تأسرني سمات اليوم الأول من الأسبوع.
فالمسيحية معنية باليوم الأول من الأسبوع، بينما اليوم السابع مرتبط باليهودية. وعندما نتفكر في مصطلحات الزمن بحديثنا عن الأيام، دعونا نُوَضِّح أن الكتاب المقدس يستخدم مصطلحات الزمن حتى عندما يُشير إلى الأبدية. والرسول بطرس يُشير في 2بطرس3: 12، 18 إلى “يوم الله”، والذي يمتد فيما بعد يوم المُلك الألفي، وإلى يوم الدهر (أي يوم الأبدية – ترجمة داربي). وهكذا فنحن نربط ما بين اليوم الأول من الأسبوع وبين نظام الخليقة الجديدة. اليوم السابع ينتمي إلى النظام الديني الأرضي الذي صلب المسيح، أما اليوم الأول فينتمي إلى دائرة البركة السماوية التي تتمركز حول المسيح المُمجَّد. هذا هو يومنا الحاضر.
وفي يوحنا20 نلاحظ أن
اليوم الأول من الأسبوع معني بالقبر الفارغ! وهذا يتحدث إلى قلوبنا عن نصرة الله، ونصرة المسيح، وهزيمة كل مقاوم لله. ويحدثنا القبر الفارغ أنه لم يكن ممكنًا أن يُمسَك ربنا من أهوال الموت. وهذه الأمور السماوية التي تملأ صفحات إنجيل يوحنا، وأيضًا كل نطاق الأمور الأرضية التي كتب عنها أنبياء العهد القديم – هذه وتلك تأسست بكل يقين على عمل المسيح الكامل، وتُرى في ضوء القبر الفارغ. شكرًا لله، القبر فارغ. وإلا ما كنا ما نحن عليه اليوم. هل تسبي نفوسنا، ما يعكسه القبر الفارغ من عَجَب، ونصرة، ونعمة، ومجد؟ يا لعمق الغنى الممنوح لكل قلب يرغب في الشبع بالمسيح!
في متى28: 6 نقرأ: «لَيْسَ هُوَ هَهُنَا،لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعًا فِيهِ». لاحظ لغة الملاك، فهو لم يقل: “الموضع المضطجع فيه الرب”، بل «الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعًا فِيهِ». هل نحن نُقدّر هذه الحقيقة: إنه «لَيْسَ هُوَ هَهُنَا»؟ حينئذٍ سنرغب أن نعرفه حيث هو.
كم هو مبارك أن نشارك المجدلية في عواطفها. فغيابه جعلها تبكي وتنوح، وجعل العالم بأسره قفرًا فارغًا بالنسبة لها. هي بكت لأنه – على حد قولها: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (يو20: 13). لقد كان هو الغرض الفائق لعواطفها، وخسارته جعلتها امرأة بائسة حقيقة. شكرًا لله، فبينما نحن عالمون تمامًا بغيابه عن العالم، فإن الكتاب المقدس يُعلّمنا أننا لم نفقده، بل بالأحرى ربحناه في مشهد آخر على نحو آخر. كتب أحد الشعراء الروحيين قائلاً:
صليبك ربطنا بك ونحـن هنـا
وأنت صرت كنزنا في جو ألمع
لقد قام! فالقبر الفارغ يعني أنه مسيح مُقام. هل نمجده؟
هذا الإنجيل الذي يستعرض أمامنا أمجاد ربنا المبارك لا يذكر لنا حقيقة صعوده تاريخيًا. ففي إنجيل يوحنا هو الشخص الصاعد، وفي أصحاح 6 يُذكّرنا الوحي أنه خبز الحياة الذي نزل من السماء. وفي ختام مسيرته في هذا الأصحاح، ارتد كثيرون من تلاميذه عنه، ولم يعودوا يمشون معه (يو6: 60). لماذا؟ هل خبت جاذبيته التي لا تُقاوم؟ حاشا! كل ما هنالك أنه تكلَّم إليهم عن موته كالأساس الوحيد لنيل الحياة الأبدية، وعن الضرورة الحتمية لقبولهم موته، مرموزًا إليها بأكل جسده وشرب دمه، إذ هم أرادوا امتلاك هذه الحياة الأبدية. وقد استحضر هذا الموقف ضحالتهم إلى النور: «فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، إِذْ سَمِعُوا: إِنَّ هَذَا الْكلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟ ... فَقَالَ لَهُمْ: أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً!».
وهكذا ففي هذا الإنجيل هو المسيح الصاعد. فقد قال لمريم في الآية17 من أصحاحنا: «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ».
نعم! لقد صعد. وهو الآن المسيح المرتفع! فإذا كانت أهوال الموت لم تقدر أن تعوقه، فيقينًا أنه لا يمكن أن يبقى محجوزًا هنا. قال أحدهم: “الأرض ليست محل سُكنى المُقامين”، في إشارة إلى قديسي الله. لأنه في فترة ملك المسيح الألفي، التي يُشير إليها قائل العبارة، فإن المؤمنين الذين تتكون منهم الكنيسة، سيكونون حيث ينتمون؛ مع المسيح في المجد. لقد ذهب بالفعل إلى هناك. ألا تقرأ في يوحنا13: 1 «أَمَّا يَسُوعُ ... وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ».
وقبل ذهابه أكمل العمل الذي مجَّد الآب، وجعل ممكنًا للإنسان أن يرافقه إلى حيث ذهب على أساس من البر والعدل. وإن أغنى بركة للإنسان قدام الله هي عطية الحياة الأبدية، وهي التي تؤهل الإنسان لمعرفة الأقانيم الإلهية في العلاقات، والمحبة اللائقة بهم. فعندما نعرف الله، نتمتع به. وإذ نتمتع به نتجاوب معه.
وأكرر مرة أخرى: إن المسيحية معنية باليوم الأول من الأسبوع، ومعنية بالقبر الفارغ، وبالمسيح المُقام المرتفع.
ولكن مع ذلك يظل ظل موت المسيح موضع معارضة من جانب هذا العالم الشرير. وكم هو مُسِر، وسهل، أن نصادق على ذلك باجتماعنا إليه، كما نفعل اليوم. بل وعندما نذهب في طرقنا المتعددة، وعندما نذهب إلى بيوتنا، ولقضاء حوائجنا الضرورية اليومية، أَلسنا نظل نقول: “نعم إن صليب المسيح يُظلّل نظام هذا العالم”. ومع ذلك هل يُمكننا أن نستوطن حيث رُفض سيدنا؟ إنه لدرس عملي لنا جميعًا أن نعتبر ذلك! من المستحيل أن نقبل، أو ننظر، إلى هذا العالم إلا من خلال منظار القبر الفارغ، ومِن وجهة نظر نظام حياة اليوم الأول من الأسبوع. هذا هو نصيب المؤمن المبارك.
هنا يكمن سر القوة الأدبية الحقيقية: المشغولية بالمسيح المُقام.
والصلة معه كالمُقام هي ما تُوصف به المسيحية الحقة. كيف كان صوته وهو يُنادي مريم باسمها؟ لقد عرفته على الفور قائلة: «رَبُّونِي! الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ» (يو20: 16). إن المرء لا يسعه إلا أن يفكر في القول الوارد في أمثال19: 22 «زِينَةُ الإِنْسَانِ مَعْرُوفُهُ (صلاحه)». هنا كان الراعي الحقيقي يُخاطب خاصته بأسماء. كانت تلك أنفاس المحبة الحميمة: «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ». وكان قد خاطب الآب في صلاته الرائعة في يوحنا17: 26: «وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ».
أحد الملامح الممَيزة لترتيب الأمور في اليوم الأول من الأسبوع هو معرفة الآب. وهو ما أعلنه ربنا قبيل الصليب، وهو ذاته الإظهار للحياة الأبدية؛ الحياة التي كانت عند الآب (يو17: 1-5). وها هو ربنا يُكرر الشيء ذاته كالمقام والمرتفع: إعلانًا عن الآب، ولكنه هنا مصحوب بإعلان آخر عن علاقة جديدة؛ «إِخْوَتِي». لقد صرنا مرتبطين به، ومن نصيبنا أن نعرف أنه استحضرنا من دائرة العالم بمحبته وعلاقاته إلى المقام الذي صار لنا بالفداء.
قبل الصليب كان قد قال: «لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ، وَأَنْتُمْ جَمِيعًا إِخْوَةٌ» (مت23: 8)، لكن الآن قد زالت المسافة الفاصلة بيننا وبينه. فإذا كان بالتجسد قد بنى جسرًا يصل بيننا وبينه، فإنه بالفداء قد محا كل مسافة فاصلة. بل وربطنا به حيث هو على الجانب الآخر كالمقام من الموت. فعندما صعد توطدت الشركة بينه وبين خاصته إلى الأبد. ولا يمكن أن تكون العلاقة بيننا وبينه كما كانت قبل الصليب، لذلك قال لمريم: «لاَ تَلْمِسِينِي».
ومن شأن ذلك أن تخيب أية محاولة من جانب أي أحد من هذا العالم للاتصال به: «لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي». ولكن الآن صار لنا امتياز الشركة المباركة معه حيث هو الآن، كما هي مع الآب. ليتنا نتحلى بتلك الروح. إنه الآن منفصل تمامًا عن تيارات العالم المعاصرة، وهو يحث الإيمان والمحبة فينا لننفصل نحن أيضًا عنها، ونعيش في ملء التمتع والقوة بالشركة معه حيث قد صعد.
ملمح آخر من ملامح ترتيب اليوم الأول من الأسبوع هو معرفة الرب في علاقته الفريدة مع الآب. فقد قال ما لا يقدر أحد غيره أن يقول: «أَبِي». هنا تأكيد بنوته. لقد استحضر بالتجسد هذه العلاقة التي كانت له أزلاً مع الآب قبل بدء الزمن. ومسيره خلال هذا العالم الشرير لم يُضعف ولم يُلغِ بنوته بمثقال ذرة. والآن بعد أن أصبح الصليب خلفه والمجد أمامه، يؤكد علاقته غير المتغيرة مع الآب بهذه الكلمة المباركة: «أَبِي».
قال أحدهم: “نظرًا لبنوته الأزلية يقول: «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ»، ثم «وَأَيْضًا أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ» (يو16: 28). وليس هناك أب ما لم يكن هناك ابن. فإذا كنت لم أعرفه كالابن عندما جاء إلى العالم، فلست مُرسلاً من قِبَل الله على الإطلاق، فالآب أرسل الابن.
في الآية19 نقرأ: «جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ»؛ المسيح في وسط خاصته. هل نعرف بركة الاجتماع إلى اسمه وحده؟ «لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي (إلى اسمي) فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ» (مت18: 20). وما إنْ أخذ مكانه في وسط خاصته، حتى قال لهم: «سلاَمٌ لَكُمْ!». لقد أراد لهم سكينة الروح في اجتماعهم أمام الله. ومن ثم ينبغي أن يزيل كل ما يقف حائلاً بينهم وبين الله. «وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ» (يو20: 20)؛ أراهم يَدَيْهِ وجَنْبَهُ تحمل آثار تلك المحبة التي قادته إلى الموت، موت الصليب، حيث أتم الكفارة والبدلية، ووفى متطلبات مجد الله، وسدد أعواز البشر الهالكين. وعمله كامل، فقد مجَّد الله، ووضع الأساس العادل ليمكث الإنسان في حضرة الله، لذلك قال لهم: «سلاَمٌ لَكُمْ!. وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ».
صحيح أن هذا المشهد تمَّ في الماضي وأصبح ذكرى، إلا أنه من نصيب القديسين الفرح ذاته، في يومنا، عندما يجتمعون إلى اسمه وحده، خاصة في اليوم الأول من الأسبوع، حيث يتبوأ الرب مكانه، ويحصل على نصيبه، حينئذٍ يُسمعهم صوته ثانية: «سلاَمٌ لَكُمْ!». وهذه المرة ليس الغرض من كلامه تهدئة أفئدتهم قدام الله، ولكن ليمنحهم هدوء الروح الذي يحتاجون إليه لمواجهة عالم معاد لله، بينما هم يخدمونه. تمامًا كما كان الرب هنا على الأرض في خدمته للآب «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا: سلاَمٌ لَكُمْ! كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا» (يو20: 21).
وهذا أيضًا ملمح من ملامح ترتيب اليوم الأول من الأسبوع: تمثيلنا له كما كان هو ممثلاً للآب. من أجل ذلك كانوا بحاجة إلى روح الحياة الجديدة: «نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ (روحًا قدسًا)» (يو20: 22). وباعتباره الرأس كما هو أيضًا مركز الاجتماع، أعطاهم حياة في قوة الروح، ثم أرسلهم ببشارة النعمة: «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ» (ع23).
كما أرسلهم مُخوَّلين بممارسة تأديب مقدَّس، كما لو كانوا مُفوَّضين بحكومة إلهية: «مَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ». هل هذا مقبول بالنسبة لنا، كما بالنسبة لإرسالية النعمة؟
وفي الختام أكرر: إن المسيحية معنية اليوم باليوم الأول من الأسبوع، وبالقبر الفارغ، وبالمسيح المُقام والمُمجَّد، وبعلاقة جديدة، وبالإعلان الجديد عن الآب، وبالحياة الجديدة، وبالمركز الجديد، وبالرأس الجديد، وبإرسالية النعمة، وبممارسة التأديب المُقدَّس.
ليتنا نطلب هذه النعمة المتاحة، التي تُمكننا من الولوج إلى الخيرات العملية، التي تُمَيِّز هذه الأمور المباركة تحت تأثير قوة جاذبية المسيح التي لا تُقاوَم.
نورمان أندرسون