«إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (ع1)
«وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (ع28)
«اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟» (ع32)
ثلاثية رائعة. لا شيء من الدينونة؛ هذه هي البداية، ثم في الطريق كل الأشياء تعمل معًا للخير وتشمل ما هو حسن وما هو ليس حسن، ثم المستقبل كيف لا يهبنا الله أيضًا مع المسيح كل شيء.
تبدأ هذه الثلاثية بأنه «لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ»، ثم تُختم بما يحدث ليس الآن بل في المستقبل، وهو أن يهبنا الله مع المسيح كل شيء.
أولاً: «إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (ع1)
يا لها من عبارة مطمئنة! لا يوجد أدنى إدانة للمؤمن، وكلمة "لا دينونة" هنا هي كلمة واسعة، فهي تشمل لا دينونة على ضمير المؤمن أمام نفسه، ثم لا إدانة من الشيطان، والأهم والأروع لا إدانة من قِبَل الله. جميلة أيضًا كلمة «إِذًا» في بداية العبارة، وهي في الإنجليزية «لذلك». «لذلك لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ» يا لها من عبارة مطمئنة! لا يوجد أدنى إدانة للمؤمن، فبعد أن استعرض في الأصحاحات الماضية أساس التبرير وإعلانه، من الطبيعي جدًا، وبناء على ما تقدم يقول الرسول: «لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ»، العبارة جميلة فلم يقل "لذلك لا دينونة"، بل «لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ» فأقل قدر من الإدانة أو حتى التوبيخ أو العتاب لا يوجد له مكان. هذا الخبر هو لكل المؤمنين، ولكن قد يتأخر تمتع البعض به لوقت ما، ليس لأن هذه الحقيقة كاذبة ولكنه قد يتأخر إدراكها إلى ما بعد رومية 7 وبعد اختبار النصرة والإنقاذ الحقيقيين بيد الرب.
هناك رابطة رائعة بين رومية 7 ورومية 8 هي رابطة ذهبية، ففي آخر رومية 7 «أَشْكُرُ اللهَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا!»، وفي أول رومية 8 نقرأ عن أولئك «الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ»، فبعد أن اجتاز بولس في صراع رومية 7 وجد الحل في نهاية الأصحاح قال عبارته الرائعة «أَشْكُرُ اللهَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا!» لقد شعر بعلاقته وانتسابه لله، ولكن هناك رابط رائع وهو يشكر الله ليس بنفسه ولا على ما قدمه ولكن بيسوع المسيح، وكأن بولس أراد أن يقول أنا لا شيء، وسأظل لا شيء، ولن أستطيع أن أرضي الله، ولكني وفي ذات الوقت أشكر الله وأعظمه، ولكن ليس بنفسي بل بيسوع المسيح، ثم نأتي إلى رومية 8 وهو لسان حال شخص أدرك أنه ليس في ذاته، بل في يسوع المسيح وهذا أمر فيه الكفاية.
«إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ» رائعة كلمة «الآن»، ونحن في هذا العالم بعد، ونحن بعد في الجسد، ونحن نتعرض لمحاولات الشيطان لإيقاعنا في الخطية، ولكن الآن أيضًا لا شيء من الدينونة. إن يد الله قد أفرغت كل الإدانة والدينونة على المسيح في الصليب، وها هنا بولس ينظر لهذه اليد الفارغة من الدينونة تجاه المؤمن فيقول «إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ»، ثم يكمل قائلاً «لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ». كان من الممكن أن يقول لا شيء من الدينونة الآن على من آمنوا، أو على الذين أعطوا حياتهم للرب، ولكن هنا - إن جاز التعبير - ينظر إليهم داخل الصخر، وهذا أمر فيه الكفاية. الروح القدس ليس مشغولاً بأولئك الذين ارتبطوا بالمسيح، أو ارتبط هو بهم، مع أن هذه علاقة سامية ورائعة جدًا، ولكنه ينظر إلى من هم في الصخر «الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ». كلمة المسيح تنقلنا إليه كمن هو مصدر وأساس مشورات الله، فالشخص الذي نحن فيه هو المُعيّن من الله في الماضي مخلصًا، وفي المستقبل ديانًا، ولذلك إذا كان هو الذي سيدين وفي ذات الوقت هو الذي بررنا إذًا لا دينونة، لكنه ليس هو المسيح فقط بل هو «الْمَسِيحِ يَسُوعَ»، وكلمة «يَسُوعَ» تتحدث عنه كمن أتم العمل كاملاً، ولأنه أتم العمل كاملاً، وأقصد بذلك موته على الصليب، فقد جلس فوق السماوات عن يمين الله، وهذا ما تتحدث عنه رسالة العبرانيين «وَلَكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ» (عب9:2).
فذاك المُعيّن من الله، الضامن لتنفيذ كل مشورات الله «الْمَسِيحِ»، هو ذاته الذي أتم هذه المشورات إلى النهاية فجلس عن يمين الآب. فهو «يَسُوعَ»، وما الذي يحتاجه المؤمن سوى هذا، أن يخرج خارج دائرة نفسه، ويشعر أنه في حاجة إلى الإنقاذ، وعندئذ يتطلع ليرى نفسه في المسيح يسوع في صخر الدهور، وهذا فيه الكفاية.
ثانيًا: «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (ع28):
إن كنا ذكرنا في العبارة الماضية أنه لا شيء، فإن هذه العبارة تتحدث عن كل الأشياء. هنا يصف المؤمن كل ما يعبر عليه، من أوقات جميلة وأوقات صعبة، فإن الجميع - ولا يُستثنى شيء واحد - كل الأشياء تعمل معًا للخير.
شبه أحدهم هذه الحقيقة، بأن هناك خط إنتاج متكامل، مكوَّن من ماكينات كثيرة، هذه الماكينات بداخلها تروس، بعض هذه التروس صغير، وبعضها الآخر كبير، بعضها قد علاه التراب أو الشحم فصار لونه أسود، وبعضها الآخر نتيجة الاحتكاك صار لامعًا ومضيئًا، ولكن هذه التروس تدور معًا في توافق وانسجام تام، ليعمل خط الإنتاج هذا.
التروس المختلفة والمتنوعة تشبه تعاملات الله المتنوعة معنا كمؤمنين، بعضها تعاملات كبيرة وبعضها الآخر معاملات صغيرة، بعضها لامع ومشرق وبعضها الآخر قد يبدو كئيبًا ومظلمًا، ولكن على أي حال فخط الإنتاج الإلهي هذا يدور لينتج شيئًا واحدًا هو الخير للمؤمن. نحن لا نستطيع أن نقول إن كل الأشياء خير، وإلا أصابنا اليأس والقنوط، ولكننا نستطيع أن نقول «إنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ».
لاحظ أيضًا أن الروح القدس وهو يتكلم عن هذا الأمر قال «وَنَحْنُ نَعْلَمُ». فلا بد أن تكون لدينا هذه المعرفة ويجب ألا نفقدها في يوم من الأيام. هنا لم يقل: “نحن نقول”، فربما نقول ولا نصدق، ولكن «وَنَحْنُ نَعْلَمُ» فهذا أمر يقيني لدينا أن كل الأشياء تعمل معًا للخير. لا شيء يعمل بالانفصال عن الآخر بل الجميع في تعاون وتناغم سواء ما هو حسن أو ما هو رديء، الكل يُدار حتى يؤتى بالخير للمؤمن. دعونا لا نأخذ حلقات حياتنا بالواحدة، دعونا نتأمل السلسلة، وهذا ما يجعلنا نعلم ما يقوله الروح القدس هنا.
أمر آخر هام: مَن الذي يتحدث إليهم بولس هنا؟ هل يتحدث لأولئك «الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ»؟ الإجابة نعم ولا، طبعًا نعم لأنه يتحدث للمؤمن، ولكن لا لأنه يصفهم بصفة أخرى وهي «اِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ». صحيح إنهم في المسيح، ولكن هنا لا يركز الروح القدس على هذا الأمر، بل يركز على أنهم يحبون الله، لكنه لم يقل الذين يحبهم الله بل «اِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ».
إن أول شيء يهتز فينا عندما نجتاز في ظروف الحياة المختلفة هو محبتنا للرب، فنتشكك في محبته لنا، وبالتالي يقل منسوب محبتنا له، ولكن دعونا نتعلم هذا أن كل الأشياء تعمل معًا للخير، وبالتالي نستطيع أن نظهر محبتنا له.
والشيء الجميل أن الروح القدس يضع أمرين في منتهى الأهمية جنبًا إلى جنب، فيصف المؤمنين بأنهم «يُحِبُّونَ اللهَ»، وهذا ما يفعلونه تجاه الله، ولكن هناك ما فعله هو تجاههم ألا وهو أنهم «الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ»؛ هم مُطالبون بمحبة الرب، أو هم يحبون الرب، لأنهم َ «هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ»، فهو قد دعاهم وخصصهم لذاته، وهنا يركز الروح القدس على مقاصد الله الثابتة ودعوة المؤمنين؛ فتغيُّر أحوالنا على الأرض، وتغيّرنا نحن، لا يغيِّر من ثبات مقاصده شيئًا، بل ومن ذات المنطلق هو يجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير. فدعونا لا ننسى هذين الأمرين: نحن نحب الله، وفي الوقت ذاته نحن مدعوون حسب قصده.
وهنا نقف لنفرّق بين أمرين في منتهى الأهمية: هناك مقاصد الله تجاه المؤمن وهي ثابتة وغير متغيرة، وهناك معاملات الله مع المؤمن وهي متغيرة ومتنوعة، فهناك أيام جميلة وهناك أيام أخرى كئيبة، هناك ظروف مُسرّة وهناك ظروف أخرى محزنة، ولكن تبقى مقاصد الله ثابتة وهذا ما يطمئن القلب تمامًا.
ثالثًا: «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟» (ع32):
لقد صنع الله شيئًا في الماضي، هذا الشيء الذي صنعه في الماضي يدلل على ما يمكن أن يفعله في الحاضر والمستقبل أيضًا. الذي فعله الله في الماضي أنه «لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ». لقد كانت أروع هدية من السماء للبشر هي ابن الله. في أحيان كثيرة نتأمل فى موافقة الابن على الإرسالية ومجيئه إلى الأرض بإرادة كاملة، وهذا رائع بلا شك، ولكننا في أغلب الأحيان نتناسى بذل الله للابن لأجلنا أجمعين.
يا لها من معادلة صعبة، بل وليس لها حل، الله أعطى أفضل ما عنده، ولكن لأجل من؟ إنه بذل ابنه لأجلنا أجمعين. وهنا نجد وصفًا لنا مختلفًا عن المرتين السابقتين، فهو لا يذكر مثلاً أننا في المسيح يسوع، أو أننا “الذين يحبون الله”، بل يذكرنا في صورة مجردة، فقط أن الله بذل المسيح لأجلنا أجمعين. «أجمعين»، على تنوع خلفياتنا وعلى اختلاف شخصيتنا، بل وعلى اختلاف فسادنا وشرنا، لكن الله بذل المسيح لأجلنا أجمعين.
لقد صنع الله الأمر الأصعب بالنسبة لنا، فهل يمنع عنا الأسهل؟ لقد كان الأمر الأصعب يتعلق بمجئ المسيح لأجلنا إلى الأرض، وهنا نجد معادلة رائعة فإذا كان الله قد بذل المسيح لأجلنا، فكيف - وهذا هو الشق الآخر من المعادلة - لا يهبنا أيضًا مع المسيح كل شيء. علينا أن نلاحظ أن كلمة «يَهَبُنَا» تختلف عن كلمة «بَذَلَ»، فكلمة «بَذَلَ» تعني أعطى، ولكن كلمة «يَهَبُنَا» تعني أنه يُعطي بفيض وبلا انقطاع. لقد أعطانا الله المسيح فمات لأجلنا وقام، وصرنا نحن في ارتباط حقيقي به، أعطاه لنا لكنه لم يأخذه بعد ذلك، وهو على استعداد أن يُعطي بشرط واحد أن يُعطي معه؛ أي مع المسيح، وأن يُعطي كل شيء. وهنا نتوقف لنذكر شيئًا هامًا: إذا أخذنا المسيح فقد أخذنا كل شيء، أخذناه هو شخصيًا وسنأخذ كل ما يمنحه الله، وهذا أمر مجيد ورائع، ولكن إذا لم نرتبط بالمسيح فلن نأخذ أي شيء، لأن الله يمنح ويهب بفيض لمن هم في المسيح، وهذا ما يجعلنا نقول إن العطايا المذكورة هنا هي عطايا روحية أكثر من احتياجات الطريق.
ليس معنى أن ما يُعطيه الآب هنا لا يشمل الأمور المادية، أو أن الآب لا يُعطي الأمور المادية، فمن كل الكتاب نعرف جيدًا أن احتياجاتنا هي موضوع اهتمام السماء، ولكن هناك ما هو أهم وأكثر من احتياجات الطريق، إنها الاحتياجات الروحية. لقد بذل الله المسيح في الماضي وعلى استعداد أن يُعطي في المستقبل، صحيح أننا نتمتع ونحن هنا على الأرض جزئيًا بما هو لنا، ولكن قريبًا سنتمتع بكل ما قرره وحدده لنا الله. بدون عوائق سنختبر “كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء”. قريبًا ستتغير أجسادنا، قريبًا سنجالس المسيح في السماء، في بيت الآب. الآن تمتعنا بصورة محدودة ولكن قريبًا سنتمتع بالكل تمتعًا كاملاً.
في النهاية نقول إن العبارة الأولى تتحدث عن الماضي وتسديد أكبر احتياج ألا وهو التحرير والخلاص والتبرير والسلام (ع1)؛ بينما تتحدث العبارة الثانية عن الحاضر وكيف يجعل الله كل الأمور تعمل معًا للخير(ع28)؛ وأخيرًا فإن العبارة الأخيرة تتحدث عن المستقبل يوم يتمم الله كل عطاياه لنا، فنتمتع معه بكل شيء (ع32). فيا لغبطتنا أننا في المسيح!!