(راعوث1)
(تابع المنشور في عدد مايو – يونيو)
1- نُعمِي
في أيام نُعْمِي كانت حالة شعب الله متردية حتى صار جوع في أرض الله، وكان أليمالك زوجها يفتقر إلى الإيمان الذي يجعله يرى الله في التجربة، لذلك تحول عن أرض يهوه، باحثًا عن الفرج في أرض موآب، وآخذًا معه زوجته وولديه.
والبلاد المختلفة المحيطة بأرض يهوه في الكتاب المقدس ترمز إلى العالم في صوره المختلفة؛ فتتحدث مصر عن العالم المُتخم بكنوز الثروة ومسرات الخطية، الذي يلهث فيه الإنسان ساعيًا لإشباع شهواته ومسراته. وبابل هي مثال للعالم في فساده الديني؛ العالم الذي يسعى فيه الإنسان لأن يعظم ذاته بتدين فاسد. أما موآب فيستحضر لنا وجهًا آخر للعالم، والمعنى الروحي نتبينه من قول إرميا النبي: «مُسْتَرِيحٌ مُوآبُ مُنْذُ صِبَاهُ، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى دُرْدِيِّهِ، وَلَمْ يُفْرَغْ مِنْ إِنَاءٍ إِلَى إِنَاءٍ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى السَّبْيِ» (إر48: 11)، فموآب يعيش حياة الراحة التي يسعى إليها متجنبًا الارتباك؛ تحركاته قليلة، وحياته تنساب بلا تغيُّرٍ يُذكَر، وبلغة النبي «لَمْ يُفْرَغْ مِنْ إِنَاءٍ إِلَى إِنَاءٍ». بذلك يُمثل موآب العالم في راحته حيث يمكن للمرء أن يهرب من الصراع اللازم لجهاد الإيمان الحسن.
واليوم بعدما هرب الكثيرون من عالم مصر المتخم، وعالم بابل المتدين الفاسد، ها هم يواجهون الجوع والصراع وسط شعب الله، ويواجهون تجربة الهروب إلى العالم في راحته واسترخائه، المرموز إليه بموآب كتجربة مُرة. وكم من قديسين من يوم أليمالك، أُجهدوا وتضايقوا بسبب الشقاق والنزاع الحادث بين شعب الله، فتركوا أرض الله باحثين عن حياة سهلة، في دائرة هادئة، لا يُمتحن فيها الضمير، وتسمح بتتميم إرادة كل واحد الشخصية.
وهكذا نقرأ أن أليمالك وامرأته نُعْمِي وابنيه «أَتُوا إِلَى بِلاَدِ مُوآبَ». والأخطر من ذلك أننا نقرأ أنهم «كَانُوا هُنَاكَ». وبدلاً من وعودها لهم بالراحة والهدوء واليسر، أثبتت بلاد موآب أنها مجرد مكان للأحزان والخسائر لأولاد الله. لقد بدت موآب بهضابها وأوديتها الخضراء جذابة جدًا، لكن كان على أليمالك أن يتعلم أنه «تُوجَدُ طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ الْمَوْتِ» (أم16: 25). فحدث أن أليمالك، الذي سعى لأن ينجو من الموت جوعًا في أرض يهوه، احتضنته ذراعي الموت في أرض موآب. وذات الخطوة التي اتخذها ليتجنب بها الموت، أحضرته إلى الموت. والخطوة الخاطئة التي تُتخذ لتجنب المشاكل تقود إلى ذات المشاكل التي نسعى لتجنبها. ومن الأفضل جدًّا أن نكون مع المسيح المُقام في المجاعة عن أن نُحاط بعالم مليء بالوفرة ويحتضنه الموت.
لقد مات أليمالك، ولكن النتائج المُحزنة لخطوته الخاطئة لم تقتصر على نفسه فقط. فنُعْمِي زوجته وابناه تبعوه إلى موآب، وارتبط الابنان بمصاهرة مع موآبيتين، بخلاف ناموس الرب، وانقضت عشر سنوات، ووضع الموت يديه على كل من الابنين. وها قد حُرمت نُعْمِي من زوجها وابنيها، وتُركت أرملة وحيدة بلا أولاد في أرض غريبة. لقد تركت أرض الله لتهرب من تجارب الجوع. فما وجدت في أرض موآب سوى المرارة والأحزان. لقد جرَّدها الرب، وجعلها مهجورة، ولكنه لم يتركها. واليد التي امتدت عليها بهذه الضربات الموجعة إنما كانت تتحرك بقلب يُحبها. وتأديبات الرب أعدَّت الطريق لرد نفسها.
في هذه النقطة من قصة نُعْمِي دعونا نعبر من التحذير الخطير من فشل القديس إلى التعليم الغني عن نعمة الرب التى ترد النفس. لقد ضلت نُعْمِي عن أرض الرب وذهبت إلى موآب، ولكنها لم تجد غير الأحزان، وأتت تحت يد الرب المؤدّبة. وحتى لو أدَّبنا الرب فإنه يؤدبنا لبركتنا ليُرجعنا إليه وإلي دائرة شعبه في أرضه الخاصة.
وقبلي أيدي أبٍ | | يؤدِّب البنين |
فإن تأديب العلي | | للنفع بعد حين |
| | |
ولذلك ففي النهاية أتت تأديبات الرب بهذه النتيجة، إذ نقرأ عن نُعْمِي أنها «قَامَتْ هِيَ وَكَنَّتَاهَا وَرَجَعَتْ مِنْ بِلاَدِ مُوآبَ» (را1: 6).
ولكن ما الذي قادها للرجوع؟ أهي الأحزان التي تحمَّلتها والخسارة التي أصابتها؟ كلا، بل الأخبار السارة لنعمة الله هي التي اجتذبتها للرجوع «لأَنَّهَا سَمِعَتْ فِي بِلاَدِ مُوآبَ أَنَّ الرَّبَّ قَدِ افْتَقَدَ شَعْبَهُ لِيُعْطِيَهُمْ خُبْزًا». إن الأحزان لا تُحركنا للرجوع إلى الرب، مع أننا قد نتعلَّم منها مرارة التيهان، وهي تعِدّ القلب ليُصغي إلى الأخبار الطيبة عن الرب ونعمته لشعبه. لم يكن عوز وبؤس الكورة البعيدة هما اللذان أرجعا الابن الضال من أرض الخطية، بل تذكره للخير الذي في بيت أبيه. والنعمة التي في قلب أبيه قادته أن يقول: «كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي». وكذلك لما سَمِعَتْ نُعْمِي «أَنَّ الرَّبَّ قَدِ افْتَقَدَ شَعْبَهُ لِيُعْطِيَهُمْ خُبْزًا ... خَرَجَتْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ ... لِلرُّجُوعِ إِلَى أَرْضِ يَهُوذَا». إن خطايانا تقسي قلوبنا وتبعدنا عن الرب أكثر، لكن نعمته تُذيب قلوبنا فتجذبنا إليه ثانية.
بالإضافة إلى ذلك، فعلينا أن نتعلَّم أن البرهان الحقيقي لردّ الرب للنفس نجده في قبوله بين شعب الله، لذلك نقرأ «وَكَانَ عِنْدَ دُخُولِهِمَا بَيْتَ لَحْمٍ أَنَّ الْمَدِينَةَ كُلَّهَا تَحَرَّكَتْ بِسَبَبِهِمَا» (ع19).
وعلينا أن نُسلّم – بكل أسف – بوجود قوة قليلة لإرجاع النفوس الضالة اليوم، وما أقل رد النفوس اليوم! ألا يكون السبب في هذا أن شعب الله اعتاد ألا يتحرك تجاه التائهين؟ ألا يكون السبب أنه لا توجد سوى عواطف قليلة تجاه الذين يفشلون. فالقديسون قد يفشلون، والشر قد يُرفَض، وقد يتم التعامل مع فاعلي الشر بطريقة صحيحة، ولكننا قليلاً جدًا ما نتحرك نحوهم، بل ويندر أن يجد الضال طريقه بين شعب الله. والعالم مليء بقلوب حزينة، ونفوس منكسرة، وقديسين تائهين، ونادرًا ما تُرَدّ نفوسهم، وقليلاً جدًّا ما نتحرك بينهم. يا ليت الرب يعطينا أن نتذوق رحمة قلبه التى دفعته لأن يذهب وراء خروف ضال حتى يجده!
نعم، لا يمكن لرد النفس أن يكمل دون إحاطة عواطف القديسين بهذه النفس. هكذا كان الحال مع نُعْمِي. فعواطف المحبة التي وجدتها فتحت قلبها فانسابت من شفتيها حقائق الاعتراف الجميل بحقيقة ردّ نفسها، ومن كلماتها نتعلَّم بعض الحقائق الخفية عن أحزان المؤمن التائه:
أولاً: إنها تعترف أنه مهما كان فشلها كثيرًا فالرب لم يتخلَ عنها. وعندما تتكلم عن أيام تيهانها تقول نُعْمِي: «لأَنَّ الْقَدِيرَ قَدْ (تعامل معي – ترجمة داربي) أَمَرَّنِي» «for the Almighty has dealt very bitterly with me» (عدد20).
ربما بدا لنا أنه خلال عشر سنوات طوال، توقفت نُعْمِي عن أن تكون لها تعاملات مع الرب، لكن الرب لم يتوقف عن التعامل معها «لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ. إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟» (عب12: 6، 7).
ثانيًا: وتعترف نُعْمِي ليس فقط أن الرب قد تعامل معها، بل أنه «أَمَرَّنِي جِدًّا». فإذا كان الرب يتعامل معنا في تيهاننا، فهذه المعاملات مريرة جدًّا. وإذا ما تعامل الرب معنا في زيغاننا سنجد أن «كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عب12: 11).
ثالثًا: تقول نُعْمِي «إِنِّي ذَهَبْتُ» (عدد21) معلنة مسؤوليتها الكاملة عن تركها أرض يهوه. إنها لا تذكر كلمة واحدة ضد زوجها. إنها لا تلوم الآخرين، ولا تعفي نفسها. وهى علامة لا تُخطئ من علامات رد النفس، بالرغم من أن القصة تُخبرنا بأنه «ذَهَبَ رَجُلٌ ... لِيَتَغَرَّبَ فِي بِلاَدِ مُوآبَ». أليمالك هو الذي «ذَهَبَ» كقائد لأسرته، لكن نُعْمِي لم تحاول أن تدافع عن نفسها بلوم زوجها، فلم تقل إن الظروف كانت قوية، والضغوط كانت هائلة، حتى إني لم أستطع ألا أن أجنح جانبًا. كلا! بل هي تعلم، كما يجب أن نعلم جميعًا، أن السبب السري لتيهاننا ليس في إخفاق الآخرين، ولا قسوة الظروف، بل فينا نحن.
رابعًا: وإن كانت نُعْمِي تضع كل اللوم على نفسها في تيهانها، فإنها تنسب للرب كل رد نفسها. إنها تعلم أن الرب هو الذي أرجعها، رغم أنها هي التى خرجت؛ «إِنِّي ذَهَبْتُ ... وَأَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ» (ع21). فلو تُركنا لذواتنا كتائهين، دون أن يُرجعنا الرب، لن يرجع أحد منا. لذلك قال داود عنه «يَرُدُّ نَفْسِي».
خامسًا: لم يُرجع الرب نُعْمِي وحسب، بل أرجعها إلى بيتها «إِنِّي ذَهَبْتُ ... وَأَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ (إلى بيتي – ترجمة داربي)» «I went out full, and Jehovah has brought me home again empty» (ع21).
فهو عندما يرد أحدًا، لا يكتفي بإرجاعه إلى منتصف الطريق إلى البيت، بل إلى دفء ومحبة دائرة البيت. عندما يجد الراعي خروفه الضال «يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحًا وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو الأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ» (لو15: 5، 6). ومبارك اسمه إلى الأبد، فليس أقل من بيته يصلح لخرافه.
سادسًا: يبقى على نُعْمِي أن تعترف اعترافًا جادًا؛ فإن كان الرب قد أرجعها إلى بيتها، فعليها أن تعترف أنه أرجعها «فَارِغَةً». هي تقول إنها ذهبت «مُمْتَلِئَةً»، والرب أرجعها، لكنه أرجعها «فَارِغَةً». ففي كل أيام تيهاننا عن الرب، لا نُحرِز أي تقدم أو نمو روحي. قد يتعامل الرب معنا ليجردنا من الكثير مما يعوق تقدمنا الروحي، فنعترف مع نُعْمِي «ذَهَبْتُ مُمْتَلِئَةً، وَأَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ فَارِغَةً». وكل الذين يتيهون يتألمون مثل نُعْمِي. وبركة عظيمة أن تُرَد النفس وترجع إلى بيتها، إلى شعب الرب وأرض الرب، ولكنها لن تسترجع زوجها ولا ولديها. لقد رحلوا عنها. لقد سعت وراء الراحة من التعب والجهاد، فلم تجد سوى الموت والخسارة؛ لقد رجعت فارغةً.
سابعًا: هناك حق مُعزٍ للغاية لكل نفس قد رُدّت، يلمع في تاريخ نُعْمِي؛ فنقرأ أن رجوعها كان «فِي ابْتِدَاءِ حَصَادِ الشَّعِيرِ» (ع22). فإذا ما سمح الرب أن يُرجعنا فارغين، لكنه يحرص أن يرجعنا إلى مكان الوفرة والشبع.
وهكذا تستعرض أمامنا قصة نُعْمِي أحزان القديس التائه، ومعاملات الرب المُنعمة لرد نفسه، وقبول المؤمن الراجع وسط شعب الرب. ويا لها من تعزية قوية لقلوبنا أن نعرف أنه إذا فشلنا في عواطفنا الواحد تجاه الآخر، فإن الرب لا يفشل، وبعد قليل سيُرجع الرب إلى بيته كل قطيعه الفقير المُشتت، ولن يُفقَّد واحد في النهاية. وفي المحبة الأبدية في بيتنا الأبدي سنتمتع بملء حصاد السماء العظيم؛ إنه بداية حصاد البركات والأفراح الذي لا ينقطع.
(يتبع)
هاميلتون سميث(8)