" وفى الغد نظر نظر يوحنا يسوع مُقبلاً إليه ، فقال هوذا حمل الله الذى يرفع خطية العالم "  ( يوحنا 1 : 21 )

يجدر بنا أن نلاحظ الرابطة التي تربط هذه الآية بما سبقها: كان ذلك في غدِ مقابلة يوحنا المعمدان مع مُرسَلي أورشليم.  ويبدو أن مقابلته تلك كانت بحضور آخرين، لأن يوحنا يستطرد قائلاً: «هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: يَأْتِي بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي» (يو1: 30)، وهي ذات الكلمة التي سبق فقالها لرسل الفريسيين في اليوم السابق (يو1: 27).

«هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ» ... وقوة مدلول هذه العبارة تتضح في سياقها.  كان الفريسيون يبحثون عن “نبي”، ويرغبون في “ملك” يُخلّصهم من نير الرومان.  ولكنهم لم يكونوا يتوقون إلى “كاهن – مُخلِّص”.  والأسئلة التي طرحوها على يوحنا كانت تعكس ما بقلوبهم.  يبدو أنهم كانوا في شك إذا ما كان المعمدان هو المسيَّا الموعود به منذ أمد، لذلك سألوه: «إِيلِيَّا أَنْتَ؟» ... «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟».  ولكن ليس ثمة أثر لتساؤل إن كان يوحنا هو الذي سيُخلّصهم من “الغضب الآتي”.  كان المرء يتوقع أن يسأل هؤلاء الكهنة واللاويون عن الذبيحة.  ولكن هذا لم يحدث!  يبدو أنهم لم يكونوا يشعرون بخطيتهم.  كانت تلك الملابسات التي أعلن فيها سابق المسيح أن يسوع هو “حَمَلُ اللهِ” لا “كلمة الله”، ولا “مسيح الله”، ولكن “الحمل”.  كان روح الله يستحضر الرب يسوع إلى إسرائيل بالكيفية التي كانوا في أمَسِّ الحاجة إليها.  هم مزمعون أن يرحبوا به كالجالس على العرش، ولكن ينبغي أولاً أن يقبلوه موضوعًا على المذبح.  مثلهم مثل العالم في أيامنا: فالمسيح مصلح اجتماعي كإيليا مقبول، وكنبي يُعلّم الأخلاق الفُضلى يلقى احترامًا، ولكن حاجة العالم الماسّة هي إلى مسيح الصليب أولاً، حيث قَدَّم حمل الله نفسه ذبيحة لأجل الخطية.

«هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ» ... هنا أمام يوحنا وقف الشخص الذي كانت كل ذبائح العهد القديم ظلاً له.  ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ النور المتزايد في تعليم الكتاب بخصوص “الحَمَل”:

أولاً: في تكوين 4، حيث نرى الحَمَل مرموزًا إليه بخروف من أبكار الغنم وسمانها، والتي قدّمها هابيل ذبيحة. 

ثم نرى ثانيًا نبوة عن الحَمَل في تكوين 22: 8 حيث قال إبراهيم «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ (الحَمَل) لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي». 

ثالثًا: في خروج 12 نرى الحَمَل مذبوحًا ودمه مرشوشًا. 

رابعًا: في إشعياء 53: 7 نرى الحَمَل شخصًا «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ.  كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ».  وللمرة الأولى يُذكر هنا أن الحَمَل إنسان. 

خامسًا: في يوحنا 1: 29 نرى الحَمَل مُعْلَنًا، حيث نتعلَّم مَن هو الحَمَل. 

سادسًا: في رؤيا 5 نرى الحَمَل موضوع تعظيم أجناد السماء.

سابعًا: في الأصحاح الأخير من الكتاب المقدس؛ رؤيا 22 نرى الحَمَل مُمجَّدًا جالسًا على عرش الله.

ثم لاحظ التطور في الترتيب بخصوص نطاق فاعلية الذبائح: ففي تكوين 4 نرى الذبيحة مُقدمة عن فرد: هابيل.  وفي خروج 12 الذبيحة تحمي كل أهل البيت.  وفي لاويين 16، في يوم الكفارة، كانت فاعلية الذبيحة تمتد لتشمل كل الأمة.  ولكن في يوحنا 1: 29 نرى حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم؛ فالأمم يشتركون فيها كما اليهود!

«هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ» ... ما هي الأفكار المُتضمنة في هذا اللقب؟  بداية هو يُشير إلى كمالاته الأدبية؛ خلوه من الخطية، فهو «حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ» (1بط1: 19).  ثم هو يُشير إلى وداعته، فقد قَدَّم نفسه لله ذبيحة طواعية بالنيابة عنا، فقد اُقتِيدَ “كشاة إِلَى الذَّبْحِ” (أع8: 32).  ولكن بشكل أكثر تحديدًا، هذا اللقب يُشير إلى ذبيحة المسيح، فقد كان «حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!»، ولن يتأتى ذلك إلا بموته لأنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!» (عب9: 22).  لا توجد إلا طريقة واحدة لرفع الخطية، تلك هي الموت.  والخطية هنا تعني المُذنبية (الإدانة) كما في عبرانيين 9: 26 «أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ».

«حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!»   
«هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: يَأْتِي بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي.  وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ.  لَكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذَلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ» (يو1: 30، 31).  هذه هي المرة الثالثة التي يُعلن فيها يوحنا تَفَوُّق المسيح عليه (ع15، 27، 30).  والآيات تُشير إلى سابق وجود المسيح، أو بالحري إلى أزليته.  ثم يُعلن يوحنا غرض معموديته: «لِيُظْهَرَ (المسيح) لإِسْرَائِيلَ» (ع31)؛ ليعدّ شعبًا للمسيح.  وهؤلاء تم إعدادهم عندما أخذوا مكانهم كخطاة أمام الله (مر1: 5).  وهذا يُفسر لماذا عمَّد يوحنا في نهر الأردن؛ نهر الموت.  وفي هذا تختلف معمودية يوحنا عن المعمودية المسيحية.  ففي المعمودية المسيحية لا يُقرّ المؤمن باستحقاقة للموت، ولكنه يُدفن - في صورة رمزية - مع المسيح للموت (رو6: 3، 4).

«وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائِلاً: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ» (يو1: 32).  وبالطبع تُشير هذه الآية إلى معمودية المسيح ذاته بواسطة يوحنا في نهر الأردن، عندما شهد الآب عن مسرته بالابن واستقر الروح القدس عليه في هيئة حمامة.  ولعل في ذلك إعلان لطبيعة وصفات هذا الشخص.  فالحمامة طائر الحب والألم، ومن ثم فهي رمز لائق للمسيح.  فالحب قاده إلى الألم.  والألم أظهر أعماق الحب التي لا يُسبر غورها.  وهكذا تشهد هذه الحمامة السماوية عن المسيح.  عندما نزل الروح القدس على التلاميذ في يوم الخمسين نقرأ: «وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ، وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ» (أع2: 3).  “النار” بطبيعتها تُشير إلى الدينونة الإلهية.  إذن فقد كان يشوب التلاميذ زغل يحتاج إلى الدينونة، فالطبيعة العتيقة الشريرة ما زالت فيهم، ولكن لا أثر لشيء من ذلك في قدوس الله: فلا حاجة للدينونة، من ثم نزل الروح القدس عليه مثل حمامة!

«وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ» (يو1: 33).  ولاحظ كلمة «مُسْتَقِرًّا».  فهذه من الكلمات التي يتميَّز بها إنجيل يوحنا.  فالأناجيل الثلاثة الأخرى تذكر مسحة الرب يسوع بالروح القدس.  ولكن يوحنا ينفرد بذكر استقراره عليه، فلم يكن الروح القدس يحل على المسيح ثم يفارقه – الأمر الذي حدث مع أنبياء العهد القديم – ولكنه استقر عليه.
وهذا المصطلح معني بالجانب الإلهي من الموضوع، ويُحدثنا عن الشركة.  وتُذكر الكلمة ذاتها في يوحنا 14: 10 «أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ، وَالآبَ فِيَّ؟ الْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ (المُستقر - Abiding) فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ».  ثم في يوحنا 15 حيث يتكلَّم الرب يسوع عن متطلبات الإثمار الروحي؛ الشركة معه، يقول «أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ.  الَّذِي يَثْبُتُ (Abideth) فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً» (يو15: 5).  أما أن المسيح سيُعمد بالروح القدس فهذا دليل آخر على لاهوته.

«وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ» (يو1: 34) ... بهذا يُنهي يوحنا المعمدان شهادته عن شخص المسيح.  وجدير بالملاحظة أن سابق المسيح شهد شهادة سباعية عن أفضلية المسيح:

فأولاً: شهد عن سابق وجوده «كَانَ قَبْلِي» (ع15).

ثانيًا: شهد عن ربوبيته «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ» (ع23).

ثالثًا: شهد عن تفوقه غير المحدود «لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ» (ع27).

رابعًا: شهد عن ذبيحته «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!» (ع29).

خامسًا: شهد عن كمالاته الأدبية «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ» (ع32).

سادسًا: شهد عن حقه كالله أن يُعمد بالروح القدس «فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ» (ع33).

سابعًا: شهد عنه باعتباره ابن الله «أَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللهِ» (ع34).