مُجِّدَ الرب يسوع في السماء؛ الله وإنسان في آن معًا، في شخص واحد. وقد أُعلن مرة الخبر الخطير إنه: «يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ» (رؤ٣: ٨). وبإمكاننا أن نتتبع عبر المكتوب هذا الفكر؛ إن الله هو الذي يفتح، وهو الذي يُغلّق. وسنقتصر في هذا المقال على تتبع سبعة أشياء فُتحت في إنجيل متى، وسنختم مقالنا بشيء لم يُفتح؛ باب ظلَّ مُغلَّقًا.
١- كنوز فُتحت إكرامًا للرب
«وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا» (مت٢: ١١)
هذه الفقرة تُشير إلى المجوس الذين جذبهم الإعلان عن مليك الله؛ المسيا المولود ملكًا (مت٢: ١). لقد جاءوا من بعيد ليعبدوا حسب محدودية المعرفة التي لديهم (دا٩: ٢٤). وعلى النقيض من هؤلاء الرجال الحكماء، ظلَّ الكتبة وقادة الشعب اليهودي الآخرون، الذين يعيشون على مقربة من الحدث، ويعرفون بالضبط ما هو مكتوب في كلمة الله بشأن الملك المزمع أن يأتي (مي٥: ٢)، ظلوا بدون أدنى اهتمام بملك الملوك.
أليس رائعًا أن نلاحظ أن أول الأشياء التي فُتحت في هذا الإنجيل كانت بغرض إكرام الرب يسوع؟ وهكذا اعترف المجوس بعظمة الرب مليك الله، والكاهن والنبي. والتي عبَّر عنها الذهب والبان والمُرّ. لقد عرفوا مجده الإلهي الملكي (الذهب). وقدموا النصيب الذي يخص الله وحده. فقد كان اللبان كله من نصيب الله (لا٢: ٢؛ ٦: ١٥).
ثم كان هناك المُرّ الذي يُشير إلى سبيل آلام المسيح (مر١٥: ٢٣؛ يو١٩: ٣٩)، وصولاً إلى رفعته إلى المجد. وهذه النقطة بالذات شرحها الرب نفسه وأكدها في أكثر من فقرة في المكتوب (لو٢٤: ٢٦؛ ١بط١: ١١).
٢- السَّماوات فُتحت شهادة للرب
«فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ» (مت٣: ١٦)
بمقدور المرء أن يكتب كتابًا تعليقًا على هذه الفقرة. فها هي السَّماوات تُفتح لإنسان على الأرض، لأول مرة في الكتاب المقدس. والروح القدس يُتحد نفسه مع هذا الإنسان، الذي هو في الوقت ذاته ابن الله السرمدي. ودوي صوت الآب يُعلّن: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ (كل السرور)» (مت٣: ١٧). ويا لها من أمور مباركة تمَّ إعلانها! وأيضًا يا له من نموذج كامل يُرسم أمام أعين الإيمان! دعونا نسجد له! فبعدما أكمل العمل؛ موته، دفنه، قيامته، صعد الرب يسوع إلى السماوات، فقبله الله، وبوأه مكانة الكرامة (عب٢: ٩؛ ٥: ١٠). وبكلمات أخرى: فإن الذي كان يومًا غرض السَّماوات على الأرض، هو ذاته قُبِلَ في السماوات، وصار الغرض الفائق لِشعبه الذي على الأرض، كما يتضح من حادثة رجم استفانوس، أول شهيد في المسيحية (أع٧: ٥٦). فمنزلة المسيح الحالية هي أساس قدوم المؤمنين المجاني، وقبولهم إلى السماء. فالمسيح المُمجَّد وضع الأساس للاختطاف، إذ كوَّن شعبًا سماويًا (الآن على الأرض)، سيُختطف من هذه الأرض، ويُستحضر إلى السماء (يو١٤: ١-٣؛ ١تس٤: ١٣-١٨؛ ١كو١٥: ٥١-٥٤)، حيث يتم عشاء عرس الخروف (الحَمَل) (رؤ١٩: ٧-١٠)، ثم بعد ذلك ستُفتح السَّماوات للدينونة (رؤ١٩: ١١-٢١). وأولئك الذين يرفضون هبة الله المجانية، لن يُتاح لهم فرصة أخرى.
أما المناسبة الرابعة للسَّماوات المفتوحة فستحل خلال فترة المُلك الألفي؛ مُلك السلام على الأرض. هذا ما عبَّر عنه أنبياء كثيرون، وتثبت بقول الرب لنثنائيل (يو١: ٥٠، ٥١). فباعتباره ابن الإنسان، سيكون مركزًا لكل الكون، وحلقة الوصل بين السماء والأرض، وملائكة يصعدون وينزلون عليه، في استعراض علني دائم للبركة، حيث تجري صلوات إلى السماء، واستجابات منها، ويفيض نهر البركة من السماء (رؤ٢١: ٩-٢٢: ٥). والعجيب أن هذا حق روحيًا وأدبيًا للكنيسة اليوم.
٣- الرب يفتح فاه ليُعلِّم
«فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلاً: طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ» (مت٥: ٢، ٣)
عرف الرب أن شهادته ستُرفض، رغم أن الله بالحقيقة كرَّمه (مت٣: ١٦، ١٧). وهكذا علَّم تلاميذه أن يُظهِروا موقفًا لائقًا أمام الله، هادفًا بذلك إلى ترسيخ مبادئه وسط شعب سوف يرفضه، وفي عالم سوف يصلبه. دعونا إذًا نحصر انتباهنا في الكلمات التي سينطق بها فم الرب الحق الكريم، الذي هو أيضًا مُعلّمنا (مت١١: ٢٩).
وفي متى١٣ يستحضر الرب ثمانية أمثال بالارتباط مع ملكوت السماوات الذي عُهد به إلى أيدي الإنسان بعد رفض المسيا مِن قِبَل القادة، ومع ذلك فقد استمر – تبارك اسمه – عاملاً من وراء الستار. ولا يزال يؤكد أن سبيله كان أن يستحضر إلى الواقع أموره لتكون في توافق مع نبوات العهد القديم «لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: سَأَفْتَحُ بِأَمْثَال فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (مت١٣: ٣٥؛ إش٤٢: ٩).
٤- أبواب تُفتح.. وعد الرب لتلاميذه
«اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ» (مت٧: ٧، ٨)
ليس على التلميذ أن يُصغي فقط، بل عليه أن يضع التعليم موضع التنفيذ (يو١٣: ١٧؛ يع١: ٢٢)، وينبغي أن يُمتحن لهذا الغرض. من أجل ذلك عليه أن يتدرب أن يسأل، وأن يطلب ... وأن يقرع. ولاحظ التدرج في اللجاجة. والرب يعد التلاميذ الطائعين أن يُعولوا على معونة السَيِّد، وأن يلجأوا إلى باب مفتوح (رؤ٣: ٨).
٥- أعين العمي تفتحت استجابة للإيمان
«انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا» (مت٩: ٣٠)
كان المسيح يستحضر نفسه إلى الشعب اليهودي باعتباره المسيا الموعود به. لقد أجرى المعجزات التي عرف اليهود أن لا أحد سواه قادر على عملها. وهكذا قدم الرب أدلة دامغة علنية وعديدة، ولا تُدحض، على أنه المسيا، وفقًا للمكتوب. فشفاء هذين الأعميين كانت معجزة أعلن المسيا فيها ذاته وسلطانه. والرقم اثنين يُعبّر عن الشهادة العلنية. وهذا ما يركز عليه كثيرًا إنجيل متى.
وفي حالة مشابهة، بصدد نهاية خدمة الرب الجهارية، حيث شفى أعميان «وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَاهُمَا وَقَالَ: مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ بِكُمَا؟»، فطلبا من الرب قائلين: «يَا سَيِّدُ، أَنْ تَنْفَتِحَ أَعْيُنُنَا!». وهكذا نقرأ: «فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا، فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَتْ أَعْيُنُهُمَا فَتَبِعَاهُ» (مت٢٠: ٣٢-٣٤). يا لها من شهادة جميلة! فمن ناحية نقرأ أن يسوع «تَحَنَّنَ ... وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا»، حتى بعدما رفضه قادة الشعب. ومن الناحية الأخرى يُسلط هذا الموقف الضوء على شهادة بديعة من جانب هذين الأعميين اللذين نالا الشفاء، إذ إنهما تبعاه. كانت أعينهما بسيطة (انظر متى٦: ٢٢؛ لو١١: ٣٤)، وما يُميز العين البسيطة، والقلب غير المُجزأ، هو تبعية الرب. ومن شأن تلاميذ المسيح إظهار هذا في حياتهم.
وفي الحقيقة فإن هذين الأعميين المُبصرين، كانت لهما “العين البسيطة” نحو الرب! هذا يُذكرني بما جرى لشاول الطرسوسي من رجوع وشفاء (أع٩: ٣-٢٠)، والذي صار بعدها أكثر تابعي الرب تأثيرًا (في٣: ٧-١٤). ولكن ماذا عنا؟ هل نحن تابعون للرب، أم أن قلبنا “منقسم”؛ جزء فيه لهذا العالم، أو لأنفسنا، والقسم الآخر للرب؟ فقط التكريس الكلي للرب سيُكرمه ويحمينا من الشر. فما هي أولوياتنا؟
٦- فتح فم السمكة لسداد الدين
«اذْهَبْ إِلَى الْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً، وَالسَّمَكَةُ الَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً خُذْهَا، وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَارًا، فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ» (مت١٧: ٢٧)
الطريقة التي يوصل بها الرب معونته تظهر بوضوح في قصة فتح فم السمكة (مت١٧: ٢٧). في فاتحة متى ١٧ نرى مجد الرب على جبل التجلي. وهكذا أعطى الرب للتلاميذ الثلاثة الذين معه تأكيدًا خاصًا، ولمحة مستقبلية عن مجده العتيد الذي كان مزمعًا أن يُدركه عبر طريق الألم. لم يكن في استطاعة التلاميذ أن يتبعوا سيدهم عبر سبيل الآلام الكفارية، لكن يومًا وذا قريب سيتحدون معه في مجده. ومع ذلك فخلال وقت رفضه، يُغدق الرب نعمة خاصة على تلاميذه حال يُخبره أولئك باحتياجاتهم. لم يحصل الرب بعد على حقوقه الخاصة، ولكنه يضع نفسه (في٢). يا له من رفيق عظيم صار امتياز للتلاميذ أن يصحبوه! دعونا نتعلم أن نعتمد على الرب المزمع أن يُدلي بشهادة بخصوص ذاته في وقت رفضه.
٧- قبور تفتحت.. شهادة لقيمة ذبيحة المسيح
«وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ» (مت٢٧: ٥٢)
هذه الآية (مت٢٧: ٥٢)، تُبرهن قوة عمل المسيح الذي أتمه على الصليب، حسب طابع كل إنجيل. فمتى يُدلل على عظمة وجلال الملك؛ الرب يسوع المسيح. فإذ كان قد مات على الصليب، يبدو المشهد كأنه انكسار، ولكنه بالفعل انتصار على قوة الخطية، وقوة الموت، وعلى الشيطان. ومن ثم تفتحت - بمعجزة – قبور كثيرة، وقام منها عدد من أجساد القديسين الراقدين. والنص يعني أن هؤلاء القديسين كان عليهم انتظار قيامة المسيح قبيل مغادرتهم للقبور. وكان ذلك بترتيب من الله ليُعطي الكرامة لذلك الشخص الذي كان مزمعًا أن يؤسس نظامًا جديدًا «الَّذِي هُوَ الْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ» (كو١: ١٨). وكان ثمة أدلة دامغة أخرى على عظمة المسيح وعمله الكامل: حجاب الهيكل المشقوق، علامة على أن الله أنهى النظام الديني اليهودي. والزلزلة التي شققت الصخور. والرسالة إلى العبرانيين حافلة بالتفاصيل في هذا الصدد، وعن هذا التغيير. ومع ذلك، ففي العالم العتيد، سيُعيد الرب تعامله مع اليهود، ولكن يومها سيكون الحال وفق أفكاره، كما أعطاها لموسى. هذا الإتمام النهائي لخطط الله لإسرائيل، سيكون على أساس ذبيحة المسيح. كم هو عظيم! وكم يكون عمله عظيمًا!
شيء واحد أُغلِّق ولم يُفتح
«جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ» (مت٢٥: ١٠)
شيء واحد أُغلق ولم يُفتح في إنجيل متى، هذا ما نجده في مَثل الرب الأخير في هذا الإنجيل: «جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ» (مت٢٥: ١٠-١٢). ففي هذا المَثل يتكلَّم الرب يسوع عن مجموعتين من الناس يخضعون بإرادتهم له.
فمن ناحية هناك مجموعة من العذارى أخذن زيتًا في آنيتهن؛ هؤلاء هن الحكيمات. وعلى الرغم من تقصيرهن الواضح، إلا أنهن كن مُكرسات. ومن الناحية الأخرى هناك مجموعة توصم بالافتقار للمحبة الحقيقية تجاه العريس. هناك فقط اعتراف بخدمة الملك، ولكن دونما حياة حقة. فلديهن مصابيح فقط دون زيت في آنيتهن. وكلا من العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات نعسن ونمن. وإلى هنا لا يبدو ثمة فارق ملحوظ بين الفريقين. لكن الفارق سرعان ما سيظهر جليًا. فالعذارى الجاهلات، رغم معرفتهن بالرب، إلا أنه لم تكن هناك صلة شخصية بينهن وبينه. في حين أن العذارى الحكيمات، على الرغم من تقصيرهن، يعرفونه ويقدرونه.
لاحظ الحادث الخطير: «جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ»؛ أُغْلِقَ الْبَابُ، ولن يُفتح أبدًا ثانية!
عزيزي القارئ: إن باب النعمة لا يزال مفتوحًا. ولكن الرب يسوع قد يأتي ثانية اليوم، وإذا لم تتب تفوتك الفرصة إلى الأبد. حينئذٍ ستظل خارجًا، تمامًا كالعذارى الجاهلات، وكالناس أيام نوح، الذين كانت أمامهم فسحة من الوقت للدخول إلى الفلك، ولكنهم ماطلوا. وكانت النتيجة أنه بعد رفضهم الدخول خلال الأيام السبع التي كان فيها الباب مفتوحًا “أَغْلَقَ الرَّبُّ الباب عَلَيْه” (تك٧: ١٦).