أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2018
ببراهين كثيرة قاطعة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

لم يشأ الله أن يُظهر الرب المُقام علانية للعالم على اتساعه، ولا “لِجَمِيعِ الشَّعْبِ” من إسرائيل، ولكن فقط «لِشُهُودٍ سَبَقَ اللهُ فَانْتَخَبَهُمْ»، وهم «اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضًا نَفْسَهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا». وهم قد “سَمِعْوه، ورَأَوه بِعُيُونِهم، وشَاهَدْوه، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِيهم”، “الَّذِينَ أَكَلْوا وَشَرِبْوا مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِنَ الأَمْوَاتِ”، “وتَكَلَّم معهم عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ” (أع ١: ٣؛ ١٠: ٤٠، ٤١؛ ١يو ١: ١). إلا أن هذه الأيام الأربعين أتت أيضًا إلى نهايتها. واللحظة كانت قادمة عندما ربهم المحبوب هو «الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ» (أع ٣: ٢١).

«ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللهِ» (مر ١٦: ١٩). فهذا الخادم الأمين الذي لا يتعب قد أكمل خدمته. والآن كان يجب أن يتبوأ مكان الراحة والمكافأة، وقد رفعَّه الله، وأجلسه عن يمينه. وأصبح على تلاميذه أن يأخذوا مكانه على الأرض، ليذهبوا ويواصلوا عمله تحت قيادته وإرشاده وبمعونته «وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابِعَةِ» (مر ١٦: ٢٠).

وهكذا فإن صعود ربنا يُشكل الانتقال العظيم من أعماله الرائعة على الأرض إلى الأعمال المسؤول عنها أولاد الله، الذين عليهم أن يعملوا الآن في حقله. وقد يظن البعض أن هذه خطوة للخلف، ولكن كلا؛ فالعمل كان لا بد وأن يتم بقوة الروح القدس؛ الله الروح القدس، الذي كان مزمعًا أن يأتي إلى الأرض، وأن يواصل أعمال ابن الله الذي رفضه العالم، وسيعمل ذلك بالقوة والنعمة، مبتدئًا من نفس مكان رفضه «سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ» (أع ١: ٨؛ يو ١٦: ٧؛ ١٤: ١٢).

«وَلَمَّا قَالَ هَذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ» (أع ١: ٩). يا لها من حادثة رائعة! ففي عمواس «اخْتَفَى عَنْهُمَا» (مر ٢٤: ٣١)، وهكذا كان الأمر بالمثل في كل الحالات العديدة التي اختفى فيها الرب المُقام عنهم. أما الآن فقد “ارْتَفَعَ” بقوة خفية، “وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ ... أَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ” (أع ١: ٩، ١٠). ها هو الآن يُغادر هذا العالم تاركًا إياهم خلفه، بمفردهم من وجهة نظرهم.

أصابهم الذهول، واستمروا شاخصين إليه إلى السماء. فهل أدركوا أن هذه هي المغادرة النهائية له؟ هل سيهيمن عليهم حزن جديد ثانية؟ ولكن مرة ثانية، كما في حالة القبر الفارغ، أرسل الله رُسله السماويين المستعدين لتشجيعهم وإنارتهم «وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ، وَقَالاَ: أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ» (أع ١: ١٠، ١١).

ومن الجدير بالملاحظة أن نرى كيف أن الرب يعمل دائمًا ليُميّز أوقات امتحاننا، ويجعلها تعبر فقبل الصليب قال لتلاميذه: «بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضًا تَرَوْنَنِي، لأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى الآبِ». لقد قال هذا عن أيام آلامه وموته. وقال هذا ليُشدد إيمانهم «أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ، وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ» (يو ١٦: ١٦، ٢٠).

هكذا الأمر هنا أيضًا؛ فالرب إذ سيتركهم فقد أخبرهم أنه سيأتي ثانية. فإذ قد تركهم خلفه وحيدين الآن في العالم، فالعواقب الوشيكة لا يمكن تحاشيها. ولا بد « الآنَ - إِنْ كَانَ يَجِبُ - تُحْزَنُونَ يَسِيرًا بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ»، ولكنهم لا بد وأن يكونوا «بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ» (١بط ١: ٥، ٦). فإن كانوا “سيَحْزَنُونَ يَسِيرًا”، إلا أن «إِلَهُ كُلِّ نِعْمَةٍ الَّذِي دَعَانَا إِلَى مَجْدِهِ الأَبَدِيِّ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، بَعْدَمَا تَأَلَّمْتُمْ يَسِيرًا، هُوَ يُكَمِّلُكُمْ، وَيُثَبِّتُكُمْ، وَيُقَوِّيكُمْ، وَيُمَكِّنُكُمْ» (١بط ٥: ١٠). لأن «لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا» (٢كو ٤: ١٧). ويا للمفارقة بين “خِفَّةَ الضِيقَة الْوَقْتِيَّةَ” وبين ما تُنْشِئُه لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ من “ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا”.

في الاجتماع الأخير المشهود للرب مع تلاميذه، قبل موته، فإن الرب «إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى»، فقد تكلَّم أيضًا عن مجيئه ثانية «وَإِنْ مَضَيْتُ ... آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا» (يو ١٤: ٣؛ ١٧: ٢٤). «نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعًا» (رؤ ٢٢: ٢٠)؛ هذه هي الكلمات الأخيرة التي وجهها الرب إلينا في كتابه. أما الآن عند وقت صعوده، فهو لا يتكلَّم عن رجاء الاختطاف المبارك، لأنه سر لم يكن قد أُعلن بعد. ولكن هنا يُشير الرب إلى رجوعه إلى الأرض بالمجد.

وحتى دينونات أيام الضيقة العظيمة التي تسبق عودته المنظورة إلى الأرض، فإنها «لَوْ لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ الأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلَكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ» (مت ٢٤: ٢٢؛ رو ٩: ٢٨). ولكن «حِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (مت ٢٤: ٣٠). «إِنَّ يَسُوعَ هَذَا» - الذي هو نفس مَن رفضه العالم، ولم يره ثانية منذ أن أخذت أيادٍ مُحبَّةٍ، جسده من على الصليب - «سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقًا إِلَى السَّمَاءِ» (أع ١: ١١). إنها ستكون لحظة مرعبة لكل مَن لم يقبلوا محبة الحق، ولكنها ستكون انتصارًا مجيدًا له ولخاصته.

ومما يسترعي الملاحظة أنه في ذلك اليوم ستقف قدما ربنا المُمجَّد على نفس الجبل، حيث لامست لآخر مرة مشهد الفساد (زك ١٤: ٤؛ أع ١: ١٢). هناك حيث تلقى الكأس من يد أبيه، سيُعلن مجده هناك بالمثل.

ويُقدَّم لنا هذا المشهد في إنجيل لوقا بشكل مختلف نوعًا ما، وبالتأكيد لسبب ملائم*. «وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجًا إِلَى بَيْتِ عَنْيَا**، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ» (لو ٢٤: ٥٠، ٥١). على مدى البصر من تلك القرية التي فُتح فيها بيت له، والذي ارتبط هو به بروابط المحبة، ها هو الرب الآن يبعث بتحية وداع مؤثرة لخاصته. لقد سكن بينهم بالبركة. والآن ما زال يُباركهم إذ يُغادرهم. ولن يُخفض يديه هاتين المرفوعتين ثانية حتى نصل إلى مقصدنا.

هذه “المحبة إلى المنتهى” ستجعل قلوبنا تتحول لتعبده، وتُقدم له الشكر. كما أيضًا فإن المسؤولية إزاء محبة كهذه تقودنا إلى الصلوات المثابرة «وَلَمَّا دَخَلُوا (أورشليم) صَعِدُوا إِلَى الْعِلِّيَّةِ الَّتِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهَا ... هَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ، مَعَ النِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ» (أع ١: ١٣، ١٤)، «فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ، وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي الْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ» (لو ٢٤: ٥٢، ٥٣).

وبينما بقيت خاصته بعد صعوده بقلوب سعيدة على هذه الأرض المسكينة، فإن السماء قد انفتحت له، وقدمت له ترحيبًا فريدًا رائعًا. وهناك هو «سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ»، وأيضًا «مَدْعُّوًا (مُرَّحبًا به) مِنَ اللهِ رَئِيسَ كَهَنَةٍ (إلى الأبد) عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ». وهناك باعتباره المُمجَّد «قَدْ جَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ الْعَظَمَةِ فِي السَّمَاوَاتِ» (عب ٥: ٩، ١٠؛ ٨: ١).

ولسنا في حاجة إلى الاستمرار في فحص هذه البراهين الكثيرة القاطعة، لأننا بالإيمان نَرَاهُ هناك «مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ» (عب ٢: ٩)، ونراه إلى أن يقوم عن العرش ليُحضرنا بنفسه، لنفسه.

(تم)



*يرتبط المسيا بآمال إسرائيل الأرضية، ولذلك لا نجد الصعود في إنجيل متى. أما يوحنا فلا يذكر الصعود أيضًا لأنه مشغول بالرب باعتباره «اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ» (يو ١: ١٨؛ يو ٣: ٣).

** تقع بيت عنيا على مشارف جبل الزيتون.

فريتز فون كيتسل