أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد سبتمبر السنة 2021
موسى: حليمٌ؟ قطعًا! ... ضعيفٌ؟ أبدًا!
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«وَأَمَّا الرَّجُلُ مُوسَى فَكَانَ حَلِيمًا جِدًّا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ» (عد ١٢: ٣)

أحيانًا يُساء فهم كلمة “حليم” ويُظنّ أنها تعني “ضعيف” لكنها أبعد ما تكون عنها. أن تكون حليمًا يقتضى أن تكون متضعًا دون أن تكون لديك أدنى فكرة عن مدى أهميتك، وبلا تقدير متعالٍ لقدراتك. إن الكلمتين “الحلم”، “الضعف”، مختلفتين تمامًا في المدلول باعتبار أن الحلم هو فضيلة مسيحية، وليس عيبًا في الشخصية.

الأفعال المتهورة

لم يكن موسى حليمًا دائمًا، بل كان أبعد ما يكون عن ذلك! فأول تصرف سُجل عنه عندما بلغ سن الأربعين، كان أبعد ما يكون عن الحلم (خر ٢: ١١- ١٢)، حيث أظهر - بضربة متعجلة - كل الاندفاع والتهور الذي يتسم به الشباب في رعونته. لقد رأى مصريًا يُسيء معاملة عبد عبراني، وإذ رأى أن لا أحد يُراقبه، قتل المصري في ثورة غضبه، وطمره في الرمل. لكن أخبار فعلته المتهورة ومزاجه الحاد - رغم حسن نيته - تسرب إلى فرعون، لذلك كان على موسى الهرب من غضب فرعون، ومن نظام العدالة المصرية. وهناك قضى الأربعين سنة التالية من عمره، يتعلَّم طرق الله الأكثر كمالاً، مُتعلِّمًا أن الهدف الصالح والنبيل لا بد من الوصول إليه بالأسلوب الصالح والنبيل أيضًا، وأن المقولة الشائعة: “الغاية تبرر الوسيلة” ليست موجودة في كتاب الله. ولا بد أن تلك الفترة التي فُرضت عليه ليتعلَّم في مدرسة الله قد تطلبت منه صبرًا هائلاً، وربما كان وقتًا عصيبًا عليه. لقد كان بحاجة لأن يُفرَّغ من ذاته، ويتعلَّم الحلم وانتظار توقيت الرب الصحيح لكي يتصرف. فكان الله يُعِدّه بشكل جاد للمسؤولية العظمى التي كانت تنتظره.

لقد تعلَّم دروسه جيدًا، وبالتالي عندما قاد الإسرائيليين في البرية، أظهر موسى منتهى المرونة في مرات بلا عدد أنَّ فيها الشعب، وتذمر على نوعية الطعام والشراب، أو ندرته. وليس أقل من خمس مناسبات سُجل عن موسى أنه لم يغضب من شعبه، مُظهرًا هدوءً مُميَّزًا، واتضاعًا، بل وطلب من الرب لكي يسد احتياجاتهم؛ ومرة تلو الأخرى أعطاه الرب سؤله.

لكن هناك مرة واحدة، قُرب النهاية، أغاظه فيها الشعب الذي كان يقوده إلى الحد الذي جعله يفقد هدوءه، فتخلى عنه حلمه للحظة، وضرب الصخرة بعصاه، في ثورة غضب، ساعيًا لأن يوجد ماءً للشعب العطشان مرة ثانية، في حين لم يُكلِّفه الرب سوى بأن يُكلّم الصخرة. لكن الله على أي حال أمدهم بالماء في نعمته. وبكل أسف، هذه السقطة الواحدة، وتلك الفعلة الصغيرة لعدم الطاعة، كانت كفيلة بأن تحرم موسى من دخول أرض الموعد، فسَمَحَ الله له أن يراها من فوق الفسجة، لكنه لم يعش حتى يعبر حدودها. إن اتضاع قائد شعب الرب له أهمية قصوى، لأن الله لا يشمخ عليه.

الاتضاع الشديد

لكن ربما كانت أميز لحظات حلم موسى هي رد فعله لكلام أخته الكبرى مريم مع أخيه هارون (عد ١٢: ١ - ١٥). إن سخطهم الذي أُضيف إلى قائمة التذمر التافهة، كان زعمًا بسبب زواج موسى بامرأة كوشية. وسواء كان الأمر متعلقًا بزواجه الأول من صفورة، المرأة المديانية، أو بزيجة أخرى من امرأة من أثيوبيا، فالأمر ليس واضحًا تمامًا. بالتأكيد منع ناموس الله الزواج من أي من شعوب الكنعانيين، المشهورين بمعيشتهم اللا أخلاقية، لكنه لم يقل شيئًا بخصوص الأمم الأخرى. وبالرغم من احتمال عدم منع الزواج من الكوشيين، لكن ألا نرى هنا فى مريم وهارون بداية للتمييز العنصري، والإجحاف المبنى على لون جلد الآخر؟

ومهما كان لديهما من أسباب أخرى فبلا شك أنهما حسدا موسى على مكانته كقائد لشعب الرب؛ فكانت غيرتهما من أخاهما الأصغر وراء هذا. إن المشاجرات العائلية التافهة ليست جديدة! لقد كان تنافس الأشقاء حيًا وعاملاً حتى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وعلى الأرجح أن مريم، الأخت الكبرى والنبية، كانت المحرضة الأولى، وكانت – مع هارون - عازمين على إنزال موسى عن المقام الذى أعطاه إياه الله «هَلْ كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَحْدَهُ؟ أَلَمْ يُكَلِّمْنَا نَحْنُ أَيْضًا؟». ومن اللافت للنظر أننا نقرأ «فَسَمِعَ الرَّبُّ»؛ وهو يفعل دائمًا. فلا فشل من جانبنا مهما بدا صغيرًا لا يلحظه، ولا شيء يفوته أو لا يحظى باهتمامه «لأَنَّ عَيْنَيِ الرَّبِّ تَجُولاَنِ فِي كُلِّ الأَرْضِ» (٢أخ ١٦: ٩).

وللعجب لم يحاول موسى أن يدافع عن نفسه، ولم يقل كلمة ليُبرِّر أفعاله. هذه هي العظمة الحقيقية، والحلم في ذروته. فما أسهل أن نندفع للدفاع عن أنفسنا، من نقد الآخرين غير العادل وغير المقبول. ما أسرع ما نُجرح لكن موسى ترك الرب يأخذ أي إجراء عادل يراه مناسبًا. يا ليتنا نستطيع أن نأخذ مثل هذا الوضع المتضع.

بتصرف مذهل مليء بالرحمة صار موسى الذي انتقدته مريم بدون وجه حق، صار هو من يطلب لأجلها لتُشفى من البرص الذي أصابها كقضاء من الرب عليها. لقد تنفس ذات روح الرب يسوع الذي صلى من أجل مضطهديه: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو ٢٣: ٣٤). لكن فوق الكل فإن ربنا «وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ» (مت ١١: ٢٩)، لم يهاجم مقاوميه قط، ولم يرُد على إهاناتهم ولا حتى قام بدور المدافع عن نفسه: «الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ، بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل» (١بط ٢: ٢٣). إنه النموذج الكامل لنا اليوم. هل يستحيل هذا؟ ربما، لكن بكل تأكيد هو أمر لا بد أن نهدف إليه جميعًا.

في حلمه، تبع استفانوس - شهيد المسيحية الأول – إثر خطوات سَيِّده بالضبط، فاستطاع أن يُصلي من أجل قاتليه وهم يهوون بالحجارة على جسده الأعزل بهذه الكلمات: «يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ» (أع ٧: ٦٠). هذه هي العظمة الحقيقية. حليم؟ قطعًا! ضعيف؟ أبدًا!

إيان ليفنجستون