لقد ولدت ليئة أربعة بنين أولًا بعد أن رأى الله أنها مكروهة (تك ٢٩: ٣١-٣٥). هل كرهنا أنفسنا قط؟ فما أنا عليه بالفعل، علىّ أن أتعلم ألا آمل فيه. عندما يظن المرء أنه يتمتع بأي صلاح فهو يخدع نفسه، وما أسهل خداع النفس. فبالرغم من محبة يعقوب الشديدة لراحيل، وكونها جميلة ومفضلة، لكن هل كانت تستحق؟ كلا، فنحن نراها فيما بعد تسرق أصنام أبيها وتخبئها في خيمتها خادعة إياه، تمامًا كقلوبنا. والدرس المستفاد هنا هو أن السعي لتحقيق حالة روحية سامية به عنصري الأصنام والخداع. بكلمات أخرى: إذا أراد شخص الوصول إلى حالة معينة سيحاول أن يخدع نفسه باعتقاد أنه قادر على تحقيق ذلك، واعتقاد أنه أفضل من حقيقته. لا كمال طالما نحن في الجسد.
قال لي أحدهم إنه لم يخطئ طيلة الــ ٤٧ سنة التي عاشها، لكنه الآن في المستشفى، وحالته الصحية متردية للغاية. هناك خطأ ما لأنه إن كان أحد بلا خطية فلن يمرض. وعندما سألته عن صحته أجابني أنه في تحسن كل يوم. كم هو رجل عجيب أن يكون بلا خطية وأن تتحسن حالته! في اليوم السابق لذلك كنا نتحدث معًا عن الروح والجسد في المؤمن، ووافقني على ذلك رغم أنى لم أتطرق للمزيد لكنى أجبته بالقول: “قل لي ما الذي يتحسن فيك؟ هل الجسد يتحسن؟” فقال: “كلا”. فقلت له: “وماذا عن روح الله؟ هل يتحسن؟ بالطبع لا”. لا يمكن للجسد أن يتحسن ولا الروح لأنه في تمام الكمال. كم هو بديع أن يسكن روح الله بكماله في المؤمن، ليشغل قلبه بكمال المسيح المطلق، فيتحول عن بشاعة الجسد بالتمام.
قال أيوب: «أرفض وأندم في التراب والرماد» (أي ٤٢: ٦). هل هذا اختبار حقيقي بالنسبة لنا؟ هل يحدث هذا مع كل منا، فـنرفض ذواتنا تمامًا؟ لقد كره يعقوب ليئة. هل أكره ذاتي؟ ليس الكثيرون مستعدين لأن يذهبوا إلى هذا البعد فيرفضوا ذواتهم، لكن أيوب قالها. إن قيل لأحد أن يكره ذاته لينال بركة من الله لن يستطيع فعل ذلك، بل سيكون مستحيلًا. السبب الذي جعل أيوب يرفض ذاته نجده في العدد السابق: «بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني: لذلك أرفض وأندم في الـتراب والرماد» (أي ٤٢: ٥). لو كنت فعليًا في محضر الرب يسوع وتنظر وجهه وترى الكمال المطلق والجمال الذي يشبع قلبك تمامًا، فهل يصعب عليك حينئذ أن ترفض ذاتك؟ تلقائيًا سترفض ذاتك بالمقارنة معه. هذا ما ستفعله بذاتك ولا شيء غير ذلك. إنه درس عظيم لنتعلمه.
لقد ذكرت أيضًا حقيقة أن الخداع ليس وحده. عند اعتقاد الشخص أن يحصل على مكانة مثل هذه، بل هناك وثنية في الأمر لأن إنسانًا كهذا هو في الواقع يعبد ذاته، بل يعبد مقامًا يريد أن يرفع نفسه إليه بدلًا من أن ينسى نفسه ويعبد الرب. سمعت قصة مبشر كان منزعجًا جدًا مما أسماه “الجسد”. لقد كان مضطربًا جدًا من الخطية في قلبه، وكان في صراع دائم معها. بلا شك كان لسان حاله رومية ٧. لقد تفكر في قلبه أنه يريد أن يستأصل الخطية تمامًا من طبيعته فصعد إلى جبل ذات مساء وقرر أن يقضى الليل كله في الصلاة. وفعلًا فى الصباح شعر بأنه على ما يرام. كان متأكدًا جدًا أنه نجح في التخلص كليةً من شر الجسد. وفيما هو نازل من الجبل رأى الدخان يتصاعد من مداخن المدينة فتفكر: “كم كان انشغالي أفضل من انشغالهم”. آه، هو الجسد مرة أخرى! لقد كان مشغولًا بنفسه. كم هو أفضل أن يفكر القلب فى المسيح وينصرف عن الذات!
اقترب أحد المبشرين من س. ه. سبرجن وكان منزعجًا من فكرة بقاء الطبيعة الخاطئة فيه فقال له سبرجن: “إنها مزعجة؛ أليس كذلك؟” فقال: “نعم، بكل تأكيد”. فقال له: “حسنًا تخدمك حتى لا تتوقع أي صلاح يخرج من بالوعة الشر التي في القلب!” ربما كان الجواب غليظًا لكنه الحقيقة. إن الشيء الوحيد الذي عليك فعله هو أن تنصرف عنها. فالقوة الحقيقية للمؤمن تكمن في انشغاله بالمسيح؛ بنسيان الجسد والنظر خارج الذات إلى الرب يسوع عن يمين الله. كان هذا حال يعقوب فيما بعد في كل تاريخه عندما ماتت راحيل وولد بنيامين “ابن اليمين” كرمز للمسيح. وبكلمات أخرى؛ عندما سلم يعقوب أمر راحيل؛ سلم بفكرة الاحتفاظ بأي نوع من الكمال في الجسد واستبدلها ببنيامين، الذي هو رمز للمسيح في يمين الله، حيث القوة. هناك تقنع النفس بالمسيح وليس بالذات. فالمسيح هو الهدف، وليس الحصول على حالة روحية سامية. هذا ما ندعوه: “الحالة الذاتية”؛ حالة قلبي. وبالنظر داخلي ماذا أرى؟ أرى ما يحتاج لإخضاع. إن نظرت إلى حالتي الذاتية لن أسعد مطلقًا ولن أشبع بـ“الأنا” كهدف. عليّ أن أنظر خارج نفسي، وهناك أرى المسيح فى يمين الله وهذا ما يشبعني. وهذا بالطبع له تأثير على حالتي الذاتية أيضًا، تأثير رائع، لكنه يحدث دون أن أفكر فيه، وهذه هي الروعة، أن أفكر فى المسيح وأحصل على هذا التأثير.
لقد مكث يعقوب عند لابان وخدمه أيضًا براحيل بعد أن أخذ ليئة. إن حبل راحيل بيوسف أيقظ في قلب يعقوب رغبة الرحيل والعودة إلى أرضه (٣٠: ٢٥). لمن يرمز يوسف؟ إنه رمز للمسيح. إن كل من ابني راحيل كان رمز للمسيح. بينما يرمز أولاد ليئة إلى إسرائيل حسب الجسد، كما تتقلص صورة إسرائيل إلى حالة العبودية الـتي حدثت أثناء السبي وباقية إلى اليوم في أبناء الجاريتين، لأن إسرائيل مستعبد للأمم. إلا أننا نجد إسرائيل في حالة ابني راحيل، يوسف وبنيامين، “في المسيح”. هذان الاثنان يرمزان إلى المسيح؛ يوسف رمز للمسيح المرفوض من الناس والمطرود والمحتقر بل المرفع بين الأمم. أما بنيامين فهو رمز للمسيح في الجلال والقوة والمجد في يمين الله.
لكن المؤمن عادةً بعد أن يجتاز معاناة في حياته مثلما كنا نتأمل، يعلم أنه يحتاج إلى المسيح؛ يحتاج إلى ابن الله الذي جاء إلى العالم ليخلص الخطاة، ذاك الذي تألم ومات. فيدخل إلى حقيقة كون الرب يسوع قد تألم؛ حقيقة ما فعل الرب يسوع لأجله على الصليب “كيوسف” هنا على الأرض، وفي الوقت نفسه تستيقظ في قلبه رغبة لأن يرجع إلى مكان الشركة مع الله. لكن يبدو أنه لا توجد لديه قوة لتعود به إلى هناك. لما لا؟ حسنًا نحن نحتاج هنا لأن نعتبر ليس فقط آلام المسيح، بل أيضًا المسيح في يمين الله. فالقلب ينظر عاليًا ليرى الرب يسوع في يمين الله. إنه يعود بنا إلى نعمة الله. لكن هذه الدروس خرجت فيما بعد في حياة يعقوب إذ كان عليه أن يتعلَّم بالخبرة أن لديه ثقة كبـيرة في ذاته، وكان عليه أن يتعلم من خلال الخبرات الناتجة شيئًا عن حقيقة عدم استحقاقه التام.
بعد تحديد أجرته قبل يعقوب أن يخدم لابان حماه في البهائم، واستخدم وسائل خادعة لزيادة حصته. ثم طلب أن يفترقا مسيرة ثلاثة أيام ليتأكدا ألا تختلط مواشيهم. هنا تدخل دهاء الجسد. صحيح أن لابان تصرف بذات الطريقة الخاطئة، فغيـَّر أجرة يعقوب عشر مرات، فاكتشف يعقوب بالخبرة أنه كان مثل لابان تمامًا طالما تدخل الجسد. هذا الأمر في غاية الأهمية لنا لنعيه. فكل منا، سواء مؤمن أم لا، هو مثل العالم تمامًا طالما يتصرف بالجسد. وإذا ما ارتكنا إلى المبادئ الناموسية فحسب، فسنعمل ذات الأعمال التي يعملها أهل العالم. كم نحتاج إلى نعمة الله ومحبة المسيح لتعملا باستمرار في نفوسنا. لقد كان الدافع من وراء تصرفات يعقوب هو محبته لراحيل، لكن لم تكن لديه الثقة التامة في الله ليعتني بأموره. كم هو ضروري لنا أن نثق في الله الحي، ونتكل عليه ليهتم بأمورنا، بدلًا من أن نتكل على قدراتنا الشخصية.
كل هذا يُرى في عمود يعقوب الثاني الذي نصبه عند تركه لابان وعودته إلى أرض البركة مع زوجتيه وبنيهما مظهرًا أنه قد تعلم ألا يتكل على الجسد.
(يتبع)