«هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ» (لوقا ٢٤: ١٨)، هكذا قال “كَلْيُوبَاسُ” للمسافر المجهول، الذي اقترب منه ومن رفيقه، وهما منطلقان إلى عمواس، في يوم بداية ذلك الأسبوع الحافل بالأحداث.
كانت قد مضت ثلاثة أيام على صلب الرب يسوع، وطال نوح التلاميذ الحزانى، ليس فقط على خسارتهم الفادحة بغياب الرب عنهم، بل أيضًا على تحطم آمالهم من جهة فداء الأمة الإسرائيلية.
على أنه قد جرت أحداث غريبة في صباح ذلك اليوم؛ بعض النساء ذهبن باكرًا إلى قبر سيدهن المحبوب، ليُكفنوا جسده بالحنوط التي أعددنها، لكنهن وجدن القبر فارغًا. لم يكن سَيِّدهن هناك. بالإضافة إلى ذلك، أنهن قد رأين منظر ملائكة قالوا إنه حيٌّ.
ثم مضى بعض التلاميذ أيضًا إلى القبر، فوجدوا أن تقرير النساء كان صحيحًا «وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ» (لو ٢٤: ٢٥).
كانت تلك أحداث غريبة بلا شك، بل ومذهلة، وهكذا بدت للتلميذان الماشيان هذه الستون غلوة، التي بين أورشليم وعمواس.
ولماذا سلكوا ذلك الطريق؟ كيف تركوا المكان الوحيد الذي فيه يُحلُّ هذا اللغز؟ لماذا تركوا الاجتماع مع أقرانهم التلاميذ، في تلك المرحلة الفاصلة، وهذا المنعطف الخطير؟
إن السبب معروف جيدًا لهم؛ فمضوا بقلوب متحيرة وثقيلة إلى أن «اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا».
لقد تقدم من الخلف؛ وبما أنه كان متجهًا إلى ذات الوجهة، لم يرفضا معيته «فَقَالَ لَهُمَا: مَا هَذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟».
لقد علق على تلك العبوسة وهو يسأل عن موضوع حديثهما. وا أسفاه! فإن عدم الإيمان كان هو السبب في كليهما. كان يمكن تدارك تفكيرهما وظنونها وحزنهما، وسيرهما الحثيث المُنهِك، فقط لو آمنا بما سمعاه مرارًا كثيرة من الرب نفسه.
إن قمة الحكمة هي الثقة في كلمة الله. إن أخفقنا في هذا عرَّضنا أنفسنا للتحليل وللتفكير العقيم، ولملأ الحزن والإكتئاب قلوبنا.
لكن “كَلْيُوبَاسُ” لم يستطع أن يعي كيف يُمكن لأحد أن يجهل الأمور التي استحوذت على عقول الكل، فقال له: «هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ؟».
لم يكن “كَلْيُوبَاسُ” يعلم عمق معرفة ذاك “المُتَغَرِّب” بتلك الأمور. وكما توضح النهاية البديعة، فقد جذبهما ذاك المتحدث المُتَغَرِّب، كما بمغناطيس، للكتب التي غفلا عنها بعدم الإيمان، بينما كان قلبهما ملتهبًا فيهما.
وأخيرًا كُشف الأمر «فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا». لكن كانت هذه اللمحة كافية لتطير بهما على أجنحة النسور إيابًا، إلى المكان الذي كان ينبغي ألا يتركاه، لكي يرويا قصتهما عن هذه المقابلة المُمتِعة، وكشاهدا عيان، يؤكدا حقيقة قيامة المسيح. فعادا، ليجدا الأحد عشر مجتمعين، ليخبروهما «إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!».
هكذا لم تكن أخبارهما جديدة؛ لقد سبقهما سمعان. لو كانت مسيرتهما فقط أقصر ربما كانا سبقاه، لكن كان عليهما تحمل تبعات رحيلهما غير الضروري إلى عمواس، ليعلما أنهما ليسا شاهدا العيان الوحيدان للرب المُقام.
أما اللقب «مُتَغَرِّبٌ فِي أُورُشَلِيمَ»، الذى أطلقه “كَلْيُوبَاسُ” في جهل، فله معنى الآن لم يكن ليفهمه. إنها عين الحقيقة أن الرب يسوع هو غريبٌ في أورشليم! لقد أتى إلى خاصته، وخاصته لم تقبله. لقد كان ربًا لذلك الهيكل بعينه الذي اتخذ منه اللصوص والصيارفة والتجار الجشعين مكانًا لهم، بينما لم يكن له هو مكان.
لقد جاء الابن، يطلب ثمرًا من الكرامين الذين تسلموا الكرم، فواجهته الصرخة الجماعية المدوية: «هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ!» (مت ٢١: ٣٨).
بالحقيقة كان «مُتَغَرِّبٌ فِي أُورُشَلِيمَ». لقد رُفض سَيِّدها الشرعي، واستُبعد وصلب. ذاك الذي لم يكن له موضع في المنزل، ولا أين يُسند رأسه، صُلب بدلاً من باراباس اللص. بدل محبته أبغضوه! وكم كان عتابه محزن جدًا عندما قال: «يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! ... كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ ... وَلَمْ تُرِيدُوا!» (مت ٢٣: ٣٧). كانت بركتهم على قلبه، لكنهم لم يريدوها منه، فلم يَبقَ لهم سوى القضاء، بينما صار هو غريبًا أدبيًا في المدينة. إلا أن ذاك المتغرب في أورشليم كان يسعى لأن يكون ساكنًا في قلوب شعبه، فأعلن: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يو ١٤: ٢٣). وهذا “المنزل” هو “مكان السكنى” أو قل «لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ» (أف ٣: ١٧)، حيث لا يكون المسيح غريبًا هناك، كلا، ولا مجرد زائر، بل ساكنًا في القلب بذلك الإيمان الذي يجعل صحبته أكثر حقيقة ومنطقية من العيان واللمس.
وهو – تبارك اسمه - إن كان مُتَغَرِّبًا في أورشليم، فهو يبحث عن مكان سكنى في القلب. إن كان مجهولًا هناك، فهو معروفٌ تمامًا ومحبوبٌ ومقدّرٌ هنا. إن كان عدم الإيمان القاسي يُفضّل لصًا عنه، فالإيمان يُرحب به؛ بذاك المجيد الذي مات ليفدي، ويحيا ليحفظ، والذي محبته تفوق الإدراك. مُتَغَرِّبٌ فِي أُورُشَلِيمَ
عزيزي المؤمن: يا ليته لا يكون “مُتَغَرِّبًا”، ولا مجرد زائر، بل بالحري يكون ساكنًا دائمًا مُرَّحًبًا به في قلبك، إلى أن تصل - أنت وكل خاصته - إلى بيته، إلى منزله، وتكون مثله، هناك في العلاء.
جون ويلسون سميث