اسم “رَوْدَا” يعني “وردة”. ولقد احتفظت هذه الوردة بنضارتها طوال ما يقرب من ألفي سنة، ولم تزل زاهية وفواحة، تنشر عطرها وشذاها. ويا له من نصيب قد حصلت عليه! يا له من صيت خالد وباقٍ! كثيرون من الرجال على استعداد أن يبذلوا حياتهم ليحصلوا على مثل هذا الصيت، أما هذه الجارية فقد حققته بعمل واحد صغير، ولم تعلم مطلقًا أنها امتلكته. وأعتقد أنها لا تعلم اليوم أنه «حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهَذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَارًا لَهَا». هل يستحق حب الشهرة أن يُدعى “آخر ضعف لعقول النبلاء”؟ أم أنه وهم المغامرين؟ لماذا نهتم أن يذكرنا الناس بعد موتنا ودفننا طالما أن الله يعرفنا؟ لقد حظيت “جَارِيَةٌ اسْمُهَا رَوْدَا” بشهرة خالدة باقية دون أن تدري.
وهنا تشابه وحيد بين تفاصيل هذه الحادثة وتفاصيل قصة أخرى؛ عُرف بطرس - في الضوء الخافت - من صوته، سواء في بيت رئيس الكهنة، أو على باب بيت مريم أم يوحنا مرقس. ويبدو أن البشير لوقا - كاتب سفر أعمال الرسل أيضًا - قد ربط بين المشهدين في ذهنه، لأنه استخدم كلمة ترد فقط في كل العهد الجديد في هذه القصة، وفى تقريره عما حدث في المناسبة الأولى؛ ففي كلا الموقفين تعرفت جارية على بطرس من صوته ، وفى كليهما كانتا تؤكدان على صحة ما تقولان.
أنا لا أظن أن هناك ما يمكن أن يُبنى على التشابه بين الموقفين، لكن على كل الأحوال أعتقد أن استخدام نفس الكلمة غير المعتادة في الحالتين دون غيرهما تُرجح أن لوقا قد استشعر كيف يمكن للأحداث أن تُكرر نفسها بطريقة غريبة، وكيف أن الرسول – الذي كان في الموقف الثاني في عداد الشهداء – تتكرر أحداث القصة الأولى التي كان فيها يُنكر المسيح! لكن وإن كان الأمر كذلك، إلا أن هناك بعض الدروس التي يُمكننا التقاطها من الصورة الواضحة لرودا وتصرفها من الجانب الداخلي للباب، في الوقت الذي فيه وقف بطرس قارعًا في نور الفجر الخافت، من الناحية الأخرى من الباب.
1- في العلاقة بين رودا والمؤمنين المجتمعين نلاحظ رسمًا بديعًا للرابطة الجديدة والوحدة التي تحققت بواسطة الإنجيل: كانت “رَوْدَا” جارية، واسمها اسم أممي، وحالة عبوديتها تجعل احتمال كونها ليست يهودية واردًا، ويمكننا أن نُسهب في التخمين أنه ليس بعيدًا أن مخدومتها مريم أم يوحنا مرقس وأخت برنابا - التي كانت امرأة مقتدرة من أورشليم، وكانت تمتلك بيتًا كبيرًا يسع أعضاء الكنيسة بأعداد كبيرة - قد أتت بهذه الجارية من جزيرة قبرص. على أي الأحوال كانت جارية، وفي زمن ربنا يسوع وبعده أيضًا، كانت علاقات العبيد تنطوي على الشك والخوف والتجسس الحقود، تقريبًا في كل بيت روماني، لأن كل سيد روماني كان يعلم أنه يقضي أيامه ولياليه بين عبيد وإماء لا يسعون لشيء أكثر من أن يشفوا غليلهم بالانتقام منه. فواضح أن أعداء الإنسان كانوا هم أهل بيته. ولكن هنا نجد هذه الطفلة الجارية الأممية، وقد لمسها ذات الحب الجارف الذي لمخدومتها، فكانت كل من مريم ورودا ساجدتين معًا في اجتماع الصلاة، حينما قرع بطرس الباب. ولم تعُد أي منهما تفكِّر في العلاقة غير الطبيعية وغير السوية التي كانت تربطهما قبلاً. ففي وقت الله المعيَّن، وبعملية تشبُع المجتمع بالأفكار المسيحية، زال نظام الرق والعبودية هذا عن الأجواء المسيحية، واختفى هذا النظام العنيف الشيطاني واللاأخلاقي.
إن “العَجَلَة الفَجَّة هي الأخت غير الشقيقة للتباطؤ”. ولقد وجد ساكنو الغابات أنه لا نفع من اقتلاع الأشجار أو حتى قطعها، وقلما نفع تهذيب “الجذور والفروع”. أما الطريقة الصحيحة فهي نزع طوق من لحائها حول الساق، وترك الباقي للطبيعة لتقوم به، فالأشجار الميتة يسهل التعامل معها، وأما التي فيها حياة فتبلي الفؤوس وتنهك الأذرع، وبعد كل هذا تبقى حية.
وهذا ما حدث مع الإنجيل، فهو لم يشن حربًا مباشرة على العبودية، لكنه أرسى مبادئ، وهذه إذ عملت في ضمائر المؤمنين جعلت استمرار العبودية مستحيلاً. وفي انتظار تحقيق ذلك كان الفعل الفوري للمسيحية هو تحسين أوضاع العبيد. ولقد تغيَّر الوجه القبيح للعبودية بمجرد أن صار السادة والعبيد جميعًا عبيدًا للرب يسوع المسيح. واليوم أيضًا على الإنجيل أن يعمل نفس نوع العمل ليُتممه، وهناك مؤسسات في أوج قوتها في المجتمعات المتحضرة مضادة تمامًا لروح ومبادئ المسيحية، كما كان العبودية في ذلك الزمان. أما من جهتي فأنا أومن أن الرباط الوحيد للمجتمع، والدواء الشافي له هو في يسوع المسيح؛ فيه وحده، وفي المبادئ المستخلصة من إعلانه سواء بالكلمة أو بالعمل. وإذا ما طُبقت هذه المبادئ على كل الشرور الاجتماعية، كانت هي الشفاء، بل الشفاء الوحيد.
إن هذه الهيئة البسيطة للبنت الواقفة بباب مخدومتها مريم، والتي هي أيضًا أختها في المسيح، يمكن أن تُؤخذ على أنها صورة رمزية للطريقة التي يجب أن تُعالج بها الشرور الاجتماعية والمدنية اليوم، والكف عن حروب وأحقاد الطبقية المقيتة.
2- لاحظ كيف نحصل هنا على صورة بديعة لقدسية وعظمة المهام العادية الصغيرة: لقد خرجت “رَوْدَا” من اجتماع الصلاة لتفتح الباب إذ كانت هذه هي مهمتها؛ “فتح الباب”؛ فتركت الصلاة لتذهب وتُتمّم مهمتها، وبهذا الفعل كانت وسيلة لحماية الرسول من الخطر الذى كان لم يزل مُحدِقًا به. فما أقل نفع الاستمرار في الصلاة في ناحية من الباب المغلق، فيما كان هو واقفًا في الناحية الأخرى منه بالشارع، وكان الفجر في طريقه للشروق، ولا بد أن رجال هيرودس كانوا سيتعقبونه بمجرد أن يكشف لهم نور الصبح اختفاءه. فكان بحاجة إلى شيء واحد وهو إدخاله وإيوائه. فكانت كل من المجموعة المُصلية والجارية التي توقفت عن الصلاة وقت سماع القرع على الباب وذهابها لتتميم مهمتها، هذه وأولئك كانوا يعملون في الاتجاه نفسه. ليس صحيحًا أن نصّر على أن سمو أو متعة التكريس والشركة السرية هي أعذار كافية لتجاهل أو لتأخير أصغر وأحقر المهام الموكلة إلينا. فإن كانت مهمتك هي حراسة الباب فكونك قمت عن السجود على ركبتيك وسط صلاتك، ونزلت لتفتحه فأنت لم تترك المكان السري لله العلي، لكنك ملازمٌ له لأن أصغر المهام الحياتية اليومية وأكثرها اعتيادًا هي السجود الأكثر حقيقة من الشركة المتهللة الفردية أو الصلاة الجماعية، إن كانت عذرًا لإهمال الأولى. فالأَولى أن تبقى في أكثر الأماكن اتضاعًا في البيت متممًا المهام الوضيعة التي للعبد، عن أن تكون في العلية متحدًا مع القديسين في الطلبات تاركًا مهامك دون تتميم.
دعونا نتذكر كيف يُمكننا أن نجد هنا توضيحًا لحق عظيم آخر وهو أن الأمور الصغيرة التي تتم في سياق الإتمام الهادئ لمهامنا ومسؤولياتنا، يمكن أن نتممها في روح السجود والعبادة الحقيقية لله، فيكون لهذه الأمور البسيطة في ذاتها، نوع معين من الخلود، ويمكن بقاء ذكراها أبدًا.
لم يكن التعبير السامي والفريد عن التكريس هو فقط ما قدمته امرأة أخرى عندما كسرت قارورة الطيب لتمسح به قدمي الفادي اللتين كانتا ستُثقبان بالمسامير بعد وقت قليل، الأمر الذي استحق تذكارًا دائمًا لها، لكن الروح القدس الذي لا يذكر شيئًا عبثًا، حفظ أيضًا اسم وعمل الجارية البسيطة “رَوْدَا”، حتى نتعلَّم أن الأمور التي ندعوها عظيمة باندهاش وإعجاب، وتلك التي ندعوها صغيرة بازدراء، يُقدرها الرب ليس حسب قيمتها الظاهرة، بل حسب دوافعها ونسبتها إليه؛ فيقول: “لن أنسى أيًا من أعمالهم أبدًا”. وعمل “رَوْدَا” هذا الصغير مثل الورود التي تحفظها ربات البيوت في أوانٍ خزفية (زهريات) ليفيح أريجها في أرجاء البيت، وقد أُعطيت لنا لنحفظها في ذاكرتنا إلى الأبد كشهادة على قدسية الحياة العامة عندما تمتلئ بأعمال الطاعة له.
3- ومن قصة الجَارِيَة التي اسْمُهَا رَوْدَا نحصل على تحذير من إمكانية نسيان مهام واضحة جدًا تحت ضغط إثارة غير متوقعة: «لَمَّا عَرَفَتْ صَوْتَ بُطْرُسَ لَمْ تَفْتَحِ الْبَابَ مِنَ الْفَرَحِ، بَلْ رَكَضَتْ إِلَى دَاخِلٍ وَأَخْبَرَتْ أَنَّ بُطْرُسَ وَاقِفٌ قُدَّامَ الْبَابِ» (أع12: 14)، ولو حدث أن وصل جنود هيرودس إلى الشارع وقتما ركضت هي برسالتها إلى الداخل، لما اندهشت الكنيسة لما حدث لبطرس، ولرجع بطرس لسجنه بكل تأكيد. فأول مهامها كان فتح الباب، وثانيها: أن تذهب وتُخبر الإخوة: “إن بطرس وصل هنا سالمًا”. لكن في غمرة مشاعر البهجة نسيت مهمتها الأولى، وكما نقول طار صوابها، وانطلقت لتُخبرهم أنه موجود بالخارج، بدلاً من أن تدخله على التو. إن الفرح والحزن كلاهما سيان، يمكنهما أن يعرضانا لنسيان المهام الواضحة والمُلحة. ونتعلَّم من تلك الحادثة البسيطة النصيحة القديمة بل الضرورية دائمًا: أن نُبقى على المشاعر تحت السيطرة تمامًا، ونستخدمها كدافع وليس كمرشد، فلا نسمح للعواطف التي ينبغي أن تكون في الأسفل في حجرة المحركات أن تصعد إلى سطح السفينة وتمسك بالدفة، لأنه من الخطر أن نُطاوع المشاعر، إلا إذا كان حكمها مُصادَقًا عليه بالفطنة الروحية الهادئة في نور الوحي الإلهي. فالحزن يُمكنه أن يحجب الأمور بظلمته، والفرح يمكن أن يخفي الحقائق ببريقه، بنفس الطريقة التي يصعب بها أن نرى الطريق في منتصف الليل، أو منتصف النهار عندما تكون الشمس متوهجة في أعيننا، وكل منهما يحتاج إلى تحكم، أما المسؤولية فتبقى كما هي سواء كان قلبي يخفق كمطرقة، أو كان كطائر مُحلِّق؛ سواء كنت كربًا أو طلقًا، فالباب الذي أوكلني الله عليه كي أحرسه يجب أن أفتحه وأغلقه أنا. وسواء كنت حارسًا لباب بيت الله كرَوْدَا في بيت مريم، أو لديَّ عملٌ يظنه الناس أكبر وأكثر أهمية، فالضرورة الموضوعة علىَّ في مهمتي لا تعتمد مطلقًا على مشاعري اللحظية، أو ظروفي. فتذكر يا أخي أن واجبي يبقى، في حين تتذبذب المشاعر. وسواء كنا حزانى أو فرحين فلنا الإله ذاته لنخدمه، والإكليل ذاته لنربحه.
4- أخيرًا لنا هنا مثالٌ بسيطٌ لكنه إيجابي ويسمح بكامل الثقة في التجربة الشخصية بدلاً من المقاومة: لست بحاجة إلى الكلام عن المناقشة الغريبة التي دارت في العُلية حيث كانوا يُصلون “بِلَجَاجَةٍ (بدون توقف) إِلَى اللهِ مِنْ أَجْلِ تحرير بطرس”، والآن إذ تحرر، لم يصدقوا! وأخشى أن ثمة شيء من عدم الإيمان في إمكانية الاستجابات الفورية لصلواتنا، دائمًا يختلط بصلواتنا. وبالرغم من أن الطلبات في هذه الحالة كانت مكثفة وحارة، وكانوا ساهرين الليل كله، وكان صدقهم وإخلاصهم يستحقان استجابة الله، إلا أنه عندما وقف بطرس الحقيقي بلحمه ودمه قدام الباب، قال المتضرعون للبنت البسيطة: «أَنْتِ تَهْذِينَ!»، ثم قالوا: «إِنَّهُ مَلاَكُهُ!»؛ بمعنى أنه لا يمكن أن يكون هو! يبدو أن أحدًا لم يفكر في الذهاب إلى الباب ليرى إن كان هو أم لا، لكنه
م مضوا في المجادلة مع “رَوْدَا” إن كانت على صواب أم خطأ. وهكذا يُذكر لنا في هذه الحادثة عدم الإيمان الذي يمكن أن يختلط حتى مع الإيمان الذهبي.
«وَأَمَّا هِيَ فَكَانَتْ تُؤَكِّدُ أَنَّ هَكَذَا هُوَ»، كالجارية التي ميَّزت صوت بطرس من بين الرجال المجتمعين حول النار يصطلون في دار رئيس الكهنة.
والدرس هو: ثق في خبرتك الشخصية مهما قال الناس ضدك. فإن كنت قد وجدت أن الرب يسوع المسيح يُمكن أن يُساعدك، وقد أحبك وغفر خطاياك لأنك آمنت به، فلا تدع أحدًا يسلبك هذا اليقين بسخريته منك، أو بكلامه ضدك. فإن كنت لا تستطيع الجدال افعل مثل “رَوْدَا”؛ أكّد «أَنَّ هَكَذَا هُوَ». هذا هو الجواب الصحيح ولا سيما إن كنت تستطيع أن تقول للمقاومين: “هل نزلتم إلى الباب لتروا؟ اذهبوا لتروا لأنفسكم كما فعلت أنا، وستعودون بنفس الثقة التي لي”.
وأخيرًا فتحوا الباب! وها هو بطرس واقف أمامهم، بعد أن لبث يقرع ويقرع على الباب، كما صوَّرته القصة بإبداع، ليُمثل القرع المستمر على الباب خلفية للحوار الدائر بين رَوْدَا والأصحاب! وكنا نظن أن هذا يمكن أن يضع حدًا للمناقشة، لكن هناك آخر يقف على الباب ويقرع بأكثر مثابرة وأكثر صبرًا: «هَأَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤ3: 20).
ألكسندر ماكلارين