ما أن فاحت رائحة الطيب العطرة في المكان، حتى ثارت زوبعة من الاعتراضات من تلاميذ الرب! ومن إنجيل يوحنا نفهم أن يهوذا الإسخريوطي هو الذي بدأ الاعتراض، وسايره باقي التلاميذ. كانت كلماتهم هي: «لِمَاذَا هَذَا الإِتْلاَفُ؟» (مت ٢٦: ٨).
ولم تحاول مريم – كعادتها - أن تُبَرِّر فعلتها أو تدافع عن نفسها، ولكن المحامي العظيم (مز ٥٧: ٢) هو الذي تولى الدفاع عنها. والتلاميذ إن كانوا قد اعتبروا تصرف مريم إتلافًا، فإن المسيح اعتبر كلماتهم إزعاجًا. والمسيح ليس فقط لم يعترض على ما فعلته مريم، بل أيضًا امتدحه، معتبرًا إياه «عَمَلاً حَسَنًا». أما مريم فلم يطرأ أبدًا على بالها الرغبة في جذب مديح من الناس أو في تجنب احتقارهم، وكان جل مقصدها إكرام السيد.
وكم نحتاج إلى تَعَلُّم هذا الدرس، ألا ننزعج بآراء الناس فينا، وأن نحرص أن نكون مرضيين عند الرب (٢كو ٥: ٩). وهو ما حدث هنا. فلقد لقي ما عملته مريم استحسانًا من الرب، إذ عرف تكلفة هذا الطيب بالنسبة لتلك المرأة التي لا نعتقد أنها كانت من الأثرياء، وعرف أيضًا بأي روح قدمته. كان حُكم الرب على هذا العمل مختلفًا تمامًا عن حُكم الناس، ومدحه علانية بحسب تقديره الإلهي. وفي هذا قال المرنم:
وإن جزاك الناسُ عن سَعْيِكَ ذمًا وجفا
حَسْبُكَ أن تلقى من السيدِ مدحًا وكفى
وكما أن عمل مريم هنا، لم يكن في نظر الرب إتلافًا، فكذلك الوقت الذي يُكَرِّسه المؤمنون للسجود للرب، ولتذكر موته وإكرامه في هذا العالم الجاحد الناسي، لا يمكن أن يكون إتلافًا، مهما قال في ذلك الذين يحاولون أن يقنعونا بالاهتمام بالفقراء أو التبشير للخطاة. فمع أهمية هذا كله، لكن اعتبار الوقت الذي نصرفه في محضر الرب لإكرامه إتلافًا، هو أمر يجرح ضمير كل قديس يحب الرب يسوع في عدم فساد. فالسجود للرب كان ولا يزال أعظم ما يمكن للقديس أن يفعله في هذه الأرض، كما أنه سيكون شغلنا الشاغل في السماء.
أما بالنسبة للفقراء، فمريم بالطبع لم تكن أقل من التلاميذ في اهتمامها بهم، لكن الرب كان بالنسبة لها أغلى من كل فقراء العالم، وهي في تلك اللحظات لم تكن تفكر إلا في المسيح. وهكذا هناك لحظات في حياتنا، هي لحظات السجود، ولا سيما ونحن نصنع ذكرى موته، ينبغي أن يغيب من أمام ناظرينا كل شيء، عدا المسيح.
والفقراء كما ذكر المسيح هنا، هم معنا في كل حين. ويقول الله في العهد القديم إننا لا نفقد الفقراء من الأرض (تث ١٥: ١١). وأما المسيح فكانت أيامه على الأرض معدودة، ولن يكون في الإمكان بعد أيام قليلة تقديم السجود له عند قدميه. ونحن نعرف أنه لم يتمكن أحد آخر (بخلاف مريم) أن يقوم بهذا العمل العظيم: تكفين جسد المسيح. “فمريم وحدها قد فازت بالنيشان، وطيب المريمات فاته الأوان”.
في هذا قال أحد الأفاضل ما معناه: لو درى الأتقياء من الفقراء (ونعتقد أنهم ليسوا قلة) بما قاله التلاميذ هنا، لوفروا ثمن خبزهم ليقدموا نفس قارورة الطيب في نفس وقتها ولنفس غرضها، ويبقوا هم جياعًا مسرورين، إذ يكونون قد قدموا طيبًا لتكفين الجسد الذي حمل عنهم خطاياهم، وفتح لهم باب النعيم.
ولقد تعلم تلاميذ المسيح الدرس بسرعة، وعاشوا بعد موت المسيح وقيامته كأفقر الفقراء، حبًا في سيدهم الذي افتقر وهو غني، لكي نستغني نحن بفقره، وجالوا ربوع الأرض ليقدموا للفقراء غنى المسيح الذي لا يُستقصى (أع ٣: ٦؛ ٢كو ٦: ١٠؛ ٨: ٩).
ونحن اليوم مثل مريم في ذلك اليوم، لدينا أيضًا الفرصة، تكاد تقترب من نهايتها - أن نُعلِن عن محبتنا للرب وسط الجو العدائي الذي نعيش فيه؛ لأنه عن قريب ستعترف بالرب كل الأفواه، وستجثو كل الركب. فليتنا ننتهز هذه الفرصة ونحن نعيش في هذا العالم الذي تتزايد فيه الكراهية ويزداد الرفض لشخصه الكريم كل يوم.
وقول المسيح: «وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ» (مت ٢٦: ١١)، لا يتعارض مع قوله بعد القيامة: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (مت ٢٨: ٢٠)، فهو هنا يتحدث عن وجوده الجسدي بين تلاميذه، هذا لن يكون ممكنًا على مدى قرابة ألفي عام، ولكن المسيح سيظل معنا بأسلوب روحي لا جسدي، تراه عين القلب لا عين الجسد (يو ١٦: ١٦)؛ ولو أنه بكل يقين يتعارض مع القول بأن الخبز والخمر يتحولان إلى ذات جسد المسيح ودمه الحرفيين في ما يسمى بذبيحة العشاء الرباني.
«فَإِنَّهَا إِذْ سَكَبَتْ هَذَا الطِّيبَ عَلَى جَسَدِي إِنَّمَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لأَجْلِ تَكْفِينِي. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهَذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَارًا لَهَا» (مت ٢٦: ١٢، ١٣)
كان التلاميذ مؤمنين أن يسوع هو الملك، ولكن جل تفكيرهم كان مَن الذي سيحظى بالمكان الأول في الملكوت. وكان قادة الأمة يكرهون يسوع، ولهذا فإنهم أرادوا قتل الملك بأي ثمن للتخلص منه، وأما مريم فإنها إذ اعتبرت أن يسوع هو الملك فقد قالت، بلسان حالها، إن لم يكن بفمها فعلاً: «مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ» (نش ١: ١٢).
ونحن لا نقول إن مريم كانت نبية، ولا أنها كان لها علم بتفاصيل ما كانت ستسفر عنه الأيام القليلة التالية، لكننا نعتقد أن قلبها الذي كان مُثبتًا على الرب يسوع، استشعر اقتراب ساعة الظلمة الحالكة، كما أنها علمت عن يقين أن مَن كان الأشرار مزمعين أن يُكلّلونه بالشوك ويقتلونه، هو ملكها، ولذلك فإنها بادرت ودهنت بالطيب هذا الرأس الملكي. ويمكن القول إن الرب هنا أضاف إلى عمل مريم ما كان يتجاوز إدراكها في ذلك الوقت. ونحن نذكر أنه في الأصحاح السابق (مت ٢٥)، أضاف الملك إلى عمل الخراف الذين عن اليمين بُعدًا تجاوز إدراكهم، إذ حسب أن ما فعلوه مع البقية التقية كان له شخصيًا، وهكذا على ما يبدو هنا مع مريم. ولو أن سلوك هذه القديسة كان لافتًا للنظر، إذ إننا لا نجدها عند الصليب، ولا عند القبر مع النساء اللاتي ذهبن ليدهن جسد الرب ويكفنه، فهي كانت قد سبقت وعملت هذا العمل.
ولقد امتدح الرب ما عملته مريم مدحًا رباعيًا فقال:
- «عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا!» (مت ٢٦: ١٠): هنا نرى التقدير لشخصه.
- «فَعَلَتْ ذَلِكَ لأَجْلِ تَكْفِينِي» (مت ٢٦: ١٢): وهنا نرى إدراكها لغرض التجسد، وهو موته فوق الصليب.
- «عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا» (مر ١٤: ٨): أو كل ما تمتلك، هنا نجد تكريسها، والسجود للرب دائمًا مكلف (قارن تك ٢٢).
- «يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَارًا لَهَا» (مت ٢٦: ١٣): أي أن عملها هو عمل ممدوح، ذو تأثير باقٍ ودائم.
ولأن ما عملته مريم هنا يعتبر صورة لسجود المؤمنين حول الرب يسوع، فيمكننا أن نطبق هذا المدح الرباعي على سجود القديسين الآن للمسيح.
والوحي يربط بين ما فعلته مريم والإخبار بالإنجيل. ولذلك يشير المسيح هنا إلى موته، فموته هو أساس الإنجيل المُبَشَّر به في كل مكان؛ وحيث هو يُعلَن تأتي الإشارة إلى مريم وعملها. وهذا معناه أنه لا يمكن لشخص أن يقرأ الإنجيل دون أن يقرأ ما فعلته هذه المرأة. إمبراطوريات قامت وازدهرت، ثم تهاوت واضمحلت، نصب تذكارية شُيِّدَت لتمجد عباقرة وقادة مشهورين، ثم تآكلت تلك النصب بفعل الزمان، واتجهت مسرعة هي وأصحابها إلى زوايا الإهمال والنسيان. لكن هنا نحن نرى الرب بنفسه يشيد تذكارًا لن يؤثر فيه الزمان مهما طال!
ونحن إن كنا نقرأ هنا عن تذكار لمريم، فإننا بعد قليل سنقرأ عن تذكار للمسيح، وما عمله لأجلنا. المسيح في محبة فائقة بذل نفسه، وهناك الآلاف من القديسين، في محبة لمُخَلِّصِهِم وفاديهم، قبلوا أن تنكسر قواريرهم لمجد ربهم وحبيبهم. وهكذا على طول ما في الزمن من أمد سيظل يُخْبَر بما عمل المسيح لأجلنا، وما عمله محبوه لأجله «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (١يو ٤: ١٩). وهذا يُذَكِّرنا بشعر النذير الذي كان يُوْضَع فوق النار التي تحت ذبيحة السلامة (عدد ٦). وكأن تكريس النذير له القيمة التالية مباشرة لعمل المسيح فوق الصليب. وهكذا هنا مع هذه القديسة الأمينة والمكرسة، ومع كل قديسيه المُحبين له.