وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثلاَثَةً» (يو2: 6)
إن فراغ الخمر في عرس قانا الجليل يتحدث إلينا بصورة جميلة عن خواء المصادر العالمية، وعدم قدرتها على أن تضمن استمرار الأفراح للنفس البشرية، وإنما الوحيد الذي يضمن ذلك هو الرب يسوع المسيح.
ويمكننا أن نرى في الأجران الحجرية الستة، التي مُلئت بالماء، صورة للقلب البشري. إنها فارغة مثل قلب الإنسان، الذي من وقت السقوط في الجنة وهو في ضياع وشقاء. لكن في الماء نرى صورة لكلمة الله، وهذه إذ تملأ القلوب تتحول فيها إلى أفراح روحية مقدسة (إر15: 16)؛ أفراح ليس لها مثيل بين أفراح العالم الزائلة المدنسة.
أولاً: المادة التي صُنعت منها الأجران:
«أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ»
والحجارة تُكلّمنا عن القساوة التي عليها الإنسان إذ أصبح قلبه عبارة عن ألواح حجرية، لا تتجاوب ولا تتأثر بكلمة الله، ولا بحق الإنجيل، ولا تتجاوب مع نداء الروح القدس وجهاده ومعاملاته مع النفس. كما أن الحجارة تُكلّمنا عن حالة الموت التي عليها الإنسان الطبيعي المتجنب عن حياة الله. ونرى الأمرين معًا في قول الرسول: »إِذْ هُمْ ... مُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ ... بِسَبَبِ غِلاَظَةِ (قساوة) قُلُوبِهِمْ« (أف4: 18).
آه ... مَن لنا بشخص يُعطي هؤلاء حياة وقلوبًا لحمية؟ لا يوجد سوى الرب يسوع المسيح.
ثانيًا: عدد الأجران:
«كَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ»
وهذا الرقم “ستة” يُكلّمنا عن اليوم السادس الذي خلق الله فيه الإنسان. إنه رقم الإنسان. وعندما يأتي الكلام عن الإنسان وتاريخه، فحدّث ولا حرج عن كل ما هو مؤسف ومُخزٍ ومُخجل. إنه تاريخ غير مُشرّف أبدًا.
ومن ناحية أخرى يكلّمنا الرقم “ستة” عن طاقة الإنسان المحدودة. لقد قال الرب: «سِتَّةَ ايَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ» (خر20: 9؛ 23: 12). إن الإنسان لا يقوى إلا على عمل ما في طاقته المحدودة. ونرى أن الإنسان محدودٌ في كل شيء؛ فكرًا وقولاً وعملاً. ومن كل هذا نتعلم أنه ما كان هناك إنسان يعمل كل ما يريده الله أو يحقق مشيئة الله كاملة، حتى جاء «الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ» (1كو15: 47)، ذاك المجيد الذي قال للآب: «أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ» (يو17: 4)، وعند موته على الصليب قال: «قَدْ أُكْمِلَ» (يو19: 30). ونحن حينما نأتي إلى الرب يسوع المسيح ونحتمي فيه باعتباره المُخلّصِ الوحيد، فحينئذٍ ينطبق فينا المكتوب: «وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ» (كو2: 10)،
ثالثًا: مكان الأجران:
«مَوْضُوعَةً هُنَاكَ»
ومن هذه العبارة «مَوْضُوعَةً هُنَاكَ» نستنتج أنها كانت مهملة وغير مكترث بها، ولم يفكر أحد أن يستخدمها في شيء. إنها تذكرنا بالذين كانوا جالسين في السوق، بطالين، ولم يستأجرهم أحد، حتى الساعة الحادية عشرة (مت20: 6، 7). إنها تذكرنا بنفوس محطمة لأنها مهملة من كثيرين، وليس من يسأل عنها «لِسَانُهُمْ مِنَ الْعَطَشِ قَدْ يَبِسَ» (إش41: 17). إنها تذكرنا أيضًا «بالْمَسَاكِينَ وَالْجُدْعَ وَالْعُرْجَ وَالْعُمْيَ» والذين في «الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ» (لو14: 21، 23)، ولكن الرب في نعمته أراد أن يملأ هؤلاء بالبركة والنعمة.
والآن – عزيزي القارئ – هل أنت ممن يشعرون بعدم نفعهم؟ وهل تشعر أنك مُهمَل من الآخرين؟ إن الرب يسوع يبحث عنك ويريدك. فهلا تأتي إليه الآن؟!
رابعًا: حالة الأجران الدائمة
«فارغة»
وهذا ما نفهمه من قول الرب للخدام «ﭐمْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». وفراغ الأجران يُكلمنا عن ذات الأمر الذي قرره الوحي من قديم الزمان: «أَمَّا الرَّجُلُ (الإنسان) فَفَارِغٌ» (أي11: 12). وما أكثر المظاهر التي نستدل بها على فراغ الإنسان! أَ لا ترى أن ما جعل الإنسان يذهب هنا وهناك هو الفراغ الذي يشعر به. قال المسيح: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا» (يو4: 13).
عزيزي: إن الشعور بالفراغ والاحتياج هو أول خطوة في الطريق للبركة. ولعلك تتذكر معي زكا العشار الذي طلب أن يرى يسوع، والسامرية التي طلبت الماء الحي من الرب يسوع. كثيرون شعروا بفراغهم وحاجتهم فأتوا إليه وامتلأوا منه. فدعني أعود لأسألك: هل معك أنت أيضًا هكذا؟ أم أنك ما زلت تقول: «إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ (وهذا أسوأ ما في الأمر) أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَائِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ» (رؤ3: 17)؟
خامسًا: الأجران وارتباطها بأنظمة البشر وطرقهم:
«مَوْضُوعَةً ... حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ»
كانت هذه الأجران تحت نظام البشر وحسب أفكارهم. فلم يقل الكتاب: “موضُوعة ... حسب ما تعلَّمه اليهود من الناموس” أو “موضُوعة ... حسب الكتب المقدسة التي عندهم” بل قال: «مَوْضُوعَةً ... حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ». لقد كان هناك نظام من عندهم؛ حسب استحسانهم وطرقهم وأفكارهم الخاصة. إن هذا يذكرنا بأن كل ما يجنيه الإنسان من أنظمة البشر ما هو إلا الفراغ والخواء.
عزيزي القارئ: أصلي أن يعمل الروح القدس في أفكارك وفي قلبك، لتُقلِع عن كل أنظمة البشر التي تفتقر للدليل من كلمة الله وفكره وحقه المدوَّن على صفحات الوحي المقدس.
سادسًا: سعة الأجران واحتياجها:
«يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثلاَثَةً»
“المطر” حوالي 35 لترًا، وعليه يكون الجرن الواحد يسع من 70 إلى 100 لترًا، وهذا يعني أن الفراغ ليس قليلاً. وعبارة «مِطْرَيْنِ أَوْ ثلاَثَة» لا شك أنها مقصودة أن تأتي بهذه الطريقة التي نتعلم منها أن هناك شهادة كاملة على فراغ الإنسان واحتياجه لأن كُلُّ كَلِمَةٍ تَقُومَ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ (مت18: 16).
سابعًا: دور الخدام:
«مَلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً إِلَى فَوْقُ»
لقد امتلأت هذه الأجران بالماء، وهذا كان دور الخدام الذين أطاعوا تعليمات الرب يسوع. وهذا يذكرنا بأمر جميل علينا أن نقوم به نحن الذين نخدم ربنا يسوع المسيح، وهو أن نعرف طريق الماء لكي نعرف كيف نملأ النفوس من مياه الكلمة الحقيقية، ونوصل إليها صوت الإنجيل المُفرح، وكما يقول الرسول بولس: «لأَنَّنَا لَسْنَا كَالْكَثِيرِينَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللهِ، لَكِنْ كَمَا مِنْ إِخْلاَصٍ، بَلْ كَمَا مِنَ اللهِ نَتَكَلَّمُ أَمَامَ اللهِ فِي الْمَسِيحِ» (2كو2: 17). وحين تمتلئ النفوس من الكلمة وتقبلها في القلب، يبدأ الرب في عملها الخفي، إذ يحول هذه الكلمة (الماء) إلى أفراح ومسرات للقلب والنفس (الخمر). وعلى قدر ما تمتلئ القلوب والنفوس من مياه الكلمة النقية، على قدر ما تزداد الأفراح والسعادة بالرب يسوع المسيح.
والآن – عزيزي القارئ – كم مرة سمعت فيها أخبار الإنجيل المفرحة؟ كم مرة دوَّت في أذانك أجراس النعمة بنغماتها الشجية؟ كم مرة سمعت خلفك صوت المسيح المريح؟ فهل تفتح قلبك لتقبله، فيحوّل الرب الكلمة في حياتك إلى خمر أفراح حقيقية، تجعلك أكثر سعادة وهناء وغنى وامتلاء من ذي قبل.
ليتك تفعل الآن!