أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2013
أسد يهوذا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

قال يعقوب لابنه المحبوب يوسف «هَا أَنَا أَمُوتُ» (تك48: 21)، ثم دعا بَنِيهِ وقال لهم: «اجْتَمِعُوا لأُنْبِئَكُمْ بِمَا يُصِيبُكُمْ فِي آخِرِ الأَيَّامِ» (تك48: 21؛ 49: 1).  وبتجمع بَنِيهِ الاثني عشر حول سرير موته، بدأ يُباركهم البركة الأخيرة وما تلى ذلك في تكوين 49: 3-27 هي نبوات مُذهلة في دقتها، حتى إن هذا الجزء مِن المكتوب طالما كان نقطة خلاف ساخنة حول فكرة أن يكون أحدهم قد كتبه بعد زمان يعقوب بفترة طويلة، مُنكرين بذلك قوته النبوية ووحيه الإلهي، لكن المخطوطات القديمة كلها صدّقت على الطبيعة النبوية لهذا المقطع.

في هذه الأعداد مرَّ يعقوب بالبركة التي كان قد أخذها من أبيه إسحاق؛ أو بالأحرى البركة التي كان قد سرقها مِن أخيه عيسو (تك27)، وبعد هذا بسنوات صارع يعقوب مع الله طوال الليل، في بيت إيل، حيث أُعطيَّ اسمًا جديدًا، هو إسرائيل (تك35)، التي تعنى أدبيًا “مصارعات مع الله”.  إنه صاحب اسم أُمَّة إسرائيل الحديثة، وأبو أسباط إسرائيل القديمة الاثني عشر، والتي أسماؤها تحمل أسماء بنيه الاثني عشر، وها هم الآن ينالون بركاته.

بركة يهوذا

كان يهوذا هو ابن يعقوب الرابع من زوجته الأولى ليئة، وهو جد لكل من مريم أم يسوع، ويوسف أبيه بالتبني (لو3: 23-33؛ مت1: 2، 16)، وبالتالي فإنه بإمعان النظر في بركة يعقوب ليهوذا سنجد ما يسبينا ونحن نسعى لأن نصل الخيط بينه وبين ذريته؛ يسوع الناصري.  ولنبدأ بقراءة تكوين 49: 8- 12
«يَهُوذَا، إِيَّاكَ يَحْمَدُ إِخْوَتُكَ، يَدُكَ عَلَى قَفَا أَعْدَائِكَ، يَسْجُدُ لَكَ بَنُو أَبِيكَ.  يَهُوذَا جَرْوُ أَسَدٍ، مِنْ فَرِيسَةٍ صَعِدْتَ يَا ابْنِي، جَثَا وَرَبَضَ كَأَسَدٍ وَكَلَبْوَةٍ. مَنْ يُنْهِضُهُ؟ لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ. رَابِطًا بِالْكَرْمَةِ جَحْشَهُ، وَبِالْجَفْنَةِ ابْنَ أَتَانِهِ، غَسَلَ بِالْخَمْرِ لِبَاسَهُ، وَبِدَمِ الْعِنَبِ ثَوْبَهُ.  مُسْوَدُّ الْعَيْنَيْنِ مِنَ الْخَمْرِ، وَمُبْيَضُّ الأَسْنَانِ مِنَ اللَّبَنِ».

محارب لا مثيل له

«يَدُكَ عَلَى قَفَا أَعْدَائِكَ» (تك49: 8)
ما أقل ما أعلنه الوحي عن قدرة كل من يهوذا، أو سبطه الذي جاء فيما بعد وعُرف باسمه، على الحرب.  وربما يأتي استنتاج على قدرتهم الفائقة على الحرب من حقيقة ميراث هذا السبط لواحد من أكبر الأنصبة في الأرض، والذي دافعوا عنه بنجاح حتى ضد أعتى أعدائهم، وهم الفلسطينيون، الذين تضمنت تخومهم جزءًا من سهول يهوذا الساحلية.

وبلا شك أن مجيء المسيح الأول استلزم استراتيجية ليغلب العالم بها وهى المحبة، لكن في مجيئه الثاني سيرجع بالمجد والقوة: «وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ.  وَهُوَ سَيَرْعَاهُمْ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (رؤ19: 15).  بيد واحدة سيُحطم أسد يهوذا كل القوى الأرضية المُقاومة له.  بحق هو محارب لا مثيل له!  

متفوقًا على إخوته

«يَهُوذَا، إِيَّاكَ يَحْمَدُ إِخْوَتُكَ ... يَسْجُدُ لَكَ بَنُو أَبِيك» (49: 8):
كان من الطبيعي أن تؤول بركة العائلة إلى الابن البكر رأوبين، فكيف ليهوذا الابن الرابع أن يحصل عليها؟ لقد دنس رأوبين مضجع أبيه: «وَحَدَثَ إِذْ كَانَ إِسْرَائِيلُ سَاكِنًا فِي تِلْكَ الأَرْضِ، أَنَّ رَأُوبَيْنَ ذَهَبَ وَاضْطَجَعَ مَعَ بِلْهَةَ سُرِّيَّةِ أَبِيهِ، وَسَمِعَ إِسْرَائِيلُ» (تك35: 22)، وبالتالي كان من الطبيعي أن يحصل الابن الثاني على البركة.  لكن شمعون ولاوي (الابنان الثاني والثالث ليعقوب) كانا قد انتقما من مختطف أختهما دينا الذي أذلها، وكان انتقامهما أكثر كثيرًا مما تتطلبه العدالة: «ابْنَيْ يَعْقُوبَ، شِمْعُونَ وَلاَوِيَ أَخَوَيْ دِينَةَ، أَخَذَا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ وَأَتَيَا عَلَى الْمَدِينَةِ بِأَمْنٍ وَقَتَلاَ كُلَّ ذَكَرٍ ... وَنَهَبُوا الْمَدِينَةَ، لأَنَّهُمْ نَجَّسُوا أُخْتَهُمْ ... وَسَبَوْا وَنَهَبُوا كُلَّ ثَرْوَتِهِمْ وَكُلَّ أَطْفَالِهِمْ، وَنِسَاءَهُمْ وَكُلَّ مَا فِي الْبُيُوتِ» (تك34: 25-29).  ولم يفصح يعقوب عن نيته من جهة ميراثهم في وقت إثمهم، لكنه هنا، وعلى سرير موته، يُعلن الأمر بكل وضوح، فآلت البركة للابن التالي – أي الرابع وهو يهوذا.

إلى جانب هذا المثال لتفوق يهوذا على إخوته نجد مواقف أخرى له حيث نتبين منها قيادته الرشيدة.
لقد قام بمهمة المتحدث عن إخوته لإقناع أبيهم بالسماح لبنيامين الابن الأصغر للسفر معهم إلى مصر طلبًا للطعام، ضامنًا سلامته، ومُقدّمًا نفسه كمسؤول شخصي عنه (تك43).  وقبل ذلك، عندما سافر هؤلاء الإخوة معًا تآمروا على يوسف أخيهم الأصغر، ولم ينجُ من الموت إلا بتدخل يهوذا (تك37).  وفيما بعد عندما اقتربوا من مصر لم يرسل يعقوب غير يهوذا «أَمَامَهُ إِلَى يُوسُفَ لِيُرِيَ الطَّرِيقَ أَمَامَهُ إِلَى جَاسَانَ» (تك46: 28).

   وبالمثل يقول لنا الكتاب إنَّ الرب يسوع كان كجده يهوذا؛ لقد تبوأ مكان الاستحقاق الأسمى، فأعلن كاتب الرسالة إلى العبرانيين أن «هذَا قَدْ حُسِبَ أَهْلاً لِمَجْدٍ أَكْثَرَ مِنْ مُوسَى» (عب3: 3).  وكتب يوحنا في سفر الرؤيا عن الملائكة وهي تعلن «أَنْتَ مُسْتَحِق أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ» (رؤ4: 11).  و«مُسْتَحِق هُوَ الْخَروُفُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ» (رؤ5: 12).  وكل السماء تصرخ: «لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ الْمَجْدَ» (رؤ19: 7).

جرو أسد

«يَهُوذَا جَرْوُ أَسَدٍ ... مَنْ يُنْهِضُهُ» (49: 9)
ثمة شيء في شخصية يهوذا جعلت أباه يُشبهه بالأسد؛ أقوى وأقدر صياد في المملكة الحيوانية، والملك المثالي للغابة! من يقف أمام الأسد؟! هكذا الحال مع المسيح الذي هو “أسد يهوذا”.

الملك إلى الأبد

«لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ» (49: 10):
مِن   تتويج الملك داود إلى إقصاء الملك صدقيا، كانت للمملكة الجنوبية ليهوذا أسرة مالكة واحدة – مُكونة من عشرين ملكًا، كل منهم من نسل يهوذا بنِ يعقوب.  لكن نبوة حزقيال تتحدث أيضًا عن وريث ظاهر آخر «لَهُ الْحُكْمُ»، من سبط يهوذا الذي سيكون الملك في يوم قادم، فقال النبي مشيرًا إلى المسيح: «هذَا أَيْضًا لاَ يَكُونُ حَتَّى يَأْتِيَ الَّذِي لَهُ الْحُكْمُ فَأُعْطِيَهُ إِيَّاهُ» (حز21: 27).  إن الملك الذي “لاَ يَزُولُ قَضِيب مُلكِهِ” سيملك إلى الأبد، فيقول المرنم: «وَيَجْلِسُ الرَّبُّ مَلِكًا إِلَى الأَبَدِ» (مز29: 10).

وبه يليق «خُضُوعُ شُعُوبٍ»، ولقد أعلن في نبوة إشعياء: «بِذَاتِي أَقْسَمْتُ.  خَرَجَ مِنْ فَمِي الصِّدْقُ كَلِمَةٌ لاَ تَرْجِعُ: إِنَّهُ لِي تَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ. يَحْلِفُ كُلُّ لِسَانٍ» (إش45: 23).  نعم، بلا شك سيكون ملك قوى ومستحق، ذاك المُعيَّن سابقًا للمُلك، والذي سيبقى مُلكه إلى الأبد!

عواطف الملك

«رَابِطًا بِالْكَرْمَةِ جَحْشَهُ، وَبِالْجَفْنَةِ ابْنَ أَتَانِهِ، غَسَلَ بِالْخَمْرِ لِبَاسَهُ، وَبِدَمِ الْعِنَبِ ثَوْبَه» (49: 11)
لا يمكن أن يفوتنا مغزى العبارة «رَابِطًا بِالْكَرْمَةِ جَحْشَهُ، وَبِالْجَفْنَةِ ابْنَ أَتَانِهِ»، التي تُذكرنا بآيات العهد الجديد: «اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَانًا مَرْبُوطَةً وَجَحْشًا مَعَهَا، فَحُّلاَهُمَا وَأْتِيَاني بِهِمَا. وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئًا، فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا» (مت 21: 2- 3).  فهذه الحادثة هي أيضًا التحقيق الحرفي لنبوة زكريا «هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ» (زك9: 9).

في ليلة آلامه، وفي عشاء الفصح، تحدث الرب يسوع عن الخمر كرمز لدمه «هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ» (مت 26: 28)؛ الدم الذي نضح على ثيابه لما ضُرب وجُرح، كذلك ستُلَّطخ ثيابه أيضًا في يوم قادم باللون القرمزي، لكن هذه المرة بدم أعدائه عند عودته بالمجد من الدينونة «وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ كَلِمَةَ اللهِ» (رؤ19: 13).  إن مناظر الدم هذه في مجيئه الأول ومجيئه الثاني تذكرنا بكل وضوح بالعبارة «غَسَلَ بِالْخَمْرِ لِبَاسَهُ، وَبِدَمِ الْعِنَبِ ثَوْبَه».

الصليب والمجد

«مُسْوَدُّ الْعَيْنَيْنِ مِنَ الْخَمْرِ، وَمُبْيَضُّ الأَسْنَانِ مِنَ اللَّبَنِ» (49: 12)
وأخيرًا يُوصَّف موت المسيح – الحدث الأكثر شراسة وكراهية من البشر – يُوصف بالظلام. على الصليب «لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا» (2كو5: 21)، واستُتِّر مجده مع الصرخة الرهيبة « «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي»» (لو23: 46).
على النقيض تمامًا مِن هذا المشهد، نراه في كماله السَّماوي، بابتسامة مُضيئة بالنقاء، وهو يمد يده ليُمسك بسفر دينونات الله الذي بيد الآب في السماء.  إنه الوحيد المستحق أن يفك ختوم السفر، وهو الملك «وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لو1: 33)؛ «هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا» (رؤ5: 5).

العلاقة النبوية

وهكذا يتضح لنا أن بركة يعقوب ليهوذا تعلن بدقة عجيبة أن أسد يهوذا يُتمّم نبوة زكريا 9: 9 وأن ذاك الذي بذل دم العهد الجديد سيعود يومًا كمحارب لا مثيل لقوته ولحكمه ولمجده، ليملك - ليس فقط على أمة إسرائيل - بل «إِنَّهُ لِي تَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ، يَحْلِفُ كُلُّ لِسَانٍ» (إش45: 23).  إنه هو الرب المستحق أن يملك إلى الأبد – تمامًا كما قال يعقوب.  وهكذا نشترك نحن أيضًا مع يعقوب في بركته لابنه الرابع يهوذا من خلال يسوع المسيح ربنا ومخلصنا؛ «الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا» (رؤ5: 5).



دان فاوست