أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2013
أُورِيَّا الْحِثِّيُّ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

أُورِيَّا الْحِثِّيُّ» ... بطل مِن رجال الله الأمناء المُخلصين.  كان يُحب الرب، ويُحب شعب الرب.

والاسم ”أُورِيَّا“ يعني ”يهوه نوري“ أو ”نور يهوه“ أو ”نار يهوه“ أو ”يهوه نار“ .  أما ”حِثَّ“ أو ”حِثّا“ فهو جد ”الْحِثِّيِّين“، والابن الثاني لكنعان بن حام بن نوح (تك10: 15؛ 1أخ1: 13)، ومعنى الاسم في العبرية ”مرعب“ أو ”رعب“ أو ”خوف“ أو ”فزع“ أو ”إرهاب“، وكلها صفات تعلن قسوة ووحشية هؤلاء الناس وفسادهم.  حتى قَالَتْ رِفْقَةُ لإِسْحَاقَ: «مَلِلْتُ حَيَاتِي مِنْ أَجْلِ بَنَاتِ حِثَّ.  إِنْ كَانَ يَعْقُوبُ يَأْخُذُ زَوْجَةً مِنْ بَنَاتِ حِثَّ مِثْلَ هَؤُلاَءِ مِنْ بَنَاتِ الأَرْضِ، فَلِمَاذَا لِي حَيَاةٌ؟» (تك27: 46).  كأنها تقول: ”إن موتي خير مِن حياتي، بسبب بَنَاتِ حِثَّ“.

وكان ”الْحِثِّيِّون“ أعداء شعب الله، وقساة جدًا في رجالهم، وفاسدين في بناتهم.  وسكنوا أرض كنعان.  وقد طردهم الرب من أمام شعبه، وضربهم وأمر شعبه أن يفنوهم جميعًا، ولا يستبقوا منهم نسمة (تث7: 1، 2؛ 20: 17، 18).

ولكن ما أعظم نعمة الله، فمن هذا الوسط الرديء، جاءت النعمة ”بأُورِيَّا الْحِثِّيّ“؛ ”يهوه نوري“.  وكان أيضًا من رجال داود الأوفياء وأبطاله «يِثْمَةُ الْمُوآبِيُّ» (1أخ11: 46)، «وصَالَقُ الْعَمُّونِيُّ، وَنَحْرَايُ الْبَئِيرُوتِيُّ (حَامِلُ سِلاَحِ يُوآبَ بْنِ صَرُويَةَ) وَعِيرَا الْيِثْرِيُّ، وَجَارَبُ الْيَثْرِيُّ» (2صم23: 37، 38).  و”يَثَرُ“ أو ”يِثْرَانُ“ هو من نسل عيسو (تك36: 26).  «وَلَكِنْ حَيْثُ كَثُرَتِ الْخَطِيَّةُ ازْدَادَتِ النِّعْمَةُ جِدًّا» (رو5: 20)؛ إن نعمة الله تسمو فوق نَسب الإنسان وشره، وفوق كل المعوقات، فأشرق النور الإلهي على الجالسين في الظلمة وفي ظلال الموت، فقبلوا النور وأحبوه، فجاء بهم إلى الرب وإلى شعبه، وعرفوا داود؛ مسيح الرب الملك، وميزوه في أيام رفضه.

لكن لنتأمل قليلاً في ”أُورِيَّا الْحِثِّيّ“، ولنقف بجواره وقفة تقدير واحترام.  إنه رجل كشف لنا الروح القدس عن معدنه.  رجل قليل الكلام عن نفسه، وقليل المشغولية بخصوصياته، ولكنه كثير الاهتمام بكل ما يخص الرب وشعب الرب، وكان بكل صدق «جُنْدِيٍّ صَالِحٍ ... يُرْضِيَ مَنْ جَنَّدَهُ» (2تي2: 3، 4).
لقد حمل ”أُورِيَّا“ ”نور يهوه“ وجاء به إلى داود في منفاه، وسطع هذا النور في كهوف المغارة المُظلمة، ليُبدد ظلمتها، ويكشف أن هذا ليس مكانه الدائم، لكنها فترة تدريب، لأجل البركة، وإعداد لما بعدها من أمجاد.  وقد رأى داود ”نور يهوه“ يسطع في ”أُورِيَّا“، فيُبدد ظلمة الواقع الذي كان فيه، ويحمله إلى قصد الله من جهته، وإلى مسحته للمُلك.  لقد ذكّره بيوم الوليمة والذبيحة؛ يوم قال الرب لصموئيل: «امْلأ قَرْنَكَ دُهْنًا وَتَعَالَ أُرْسِلْكَ إِلَى يَسَّى الْبَيْتَلَحْمِيِّ, لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ لِي فِي بَنِيهِ مَلِكًا ... فَأَخَذَ صَمُوئِيلُ قَرْنَ الدُّهْنِ وَمَسَحَهُ فِي وَسَطِ إِخْوَتِهِ.  وَحَلَّ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى دَاوُدَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَصَاعِدًا» (1صم16: 1-13).  هذا الأمر كان مؤسسًا على نعمة الله، ولا رجعة فيه؛ فالله مسح داود ليملك، ومكانه هو العرش في أورشليم بأمجادها، وليست البرية بأشواكها.

كما أن نور يهوه“ الذي حمله ”أُورِيَّا“ كان يؤكد لداود أن يهوه له ”سور من نار“ يحميه من جميع الأعداء، فقال: «اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ (هذا هو النور الذي يحمل الخلاص، ويملأ القلب بالسلام والمحبة التي تطرح الخوف إلى خارج).  الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟ (هذا هو سور النار الذي يحمي داود من جميع أعدائه)» (مز27: 1).  هذا كله حمله ”أُورِيَّا“ إلى داود، وجعله يُسبح الرب قائلاً: «الصِّدِّيقُونَ يَكْتَنِفُونَنِي، لأَنَّكَ تُحْسِنُ إِلَيَّ» (مز142: 7).
هذا ما كانه ”أُورِيَّا“ بالنسبة لداود.  ولكن ماذا كان ”أُورِيَّا“ بالنسبة للرب، ولشعب الرب؟ لنلقي نظرة على موقف بطولي مُشرف سجله روح الله لهذا الرجل الأمين، ونرى في هذا الموقف مفارقة كبيرة بينه وبين داود!
ففي الوقت الذي كان فيه ”أُورِيَّا“ على جبهة القتال، يُحارب لأجل الرب وشعبه ومسيحه داود؛ يأكله الحر في النهار والجليد في الليل، يبذل كل اجتهاد لكي يكون «جُنْدِيٍّ صَالِحٍ ... يُرْضِيَ مَنْ جَنَّدَهُ»، في هذا الوقت عينه، كان داود في قصره نائمًا على سريره طول النهار، وعند المساء قام عن سريره، وتمشى على السطح، فرأى امرأة تستحم، ونظر إليها واشتهاها، واشتعلت شهوته «فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا.  وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ» (2صم11: 1-5).  لقد أصر على أن يكسر ناموس الله، ويغتصب امرأة متزوجة من شعب الله، وانتهك حرمة رجل أمين يُحارب حروب الرب، وكملت شهوته، فولدت خطية (يع1: 13-15).

لقد سقط داود وغاص في أوحال خطيته، فلجأ إلى الخداع والمكر، فأرسل واستدعى ”أُورِيَّا“ من الحرب، ليُرسله إلى بيته، وبذلك يُخفي فضيحته «وَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: انْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ.  فَخَرَجَ أُورِيَّا مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، وَخَرَجَتْ وَرَاءَهُ حِصَّةٌ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ.  وَنَامَ أُورِيَّا عَلَى بَابِ بَيْتِ الْمَلِكِ مَعَ جَمِيعِ عَبِيدِ سَيِّدِهِ وَلَمْ يَنْزِلْ إِلَى بَيْتِهِ ... فَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: أَمَا جِئْتَ مِنَ السَّفَرِ؟ فَلِمَاذَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ؟».  وجاء الجواب حازمًا وقاطعًا لداود، وكريمًا وثمينًا في عيني الرب «فَقَالَ أُورِيَّا لِدَاوُدَ: إِنَّ التَّابُوتَ وَإِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا سَاكِنُونَ فِي الْخِيَامِ، وَسَيِّدِي يُوآبُ وَعَبِيدُ سَيِّدِي نَازِلُونَ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ، وَأَنَا آتِي إِلَى بَيْتِي لآكُلَ وَأَشْرَبَ وَأَضْطَجِعَ مَعَ امْرَأَتِي؟! وَحَيَاتِكَ وَحَيَاةِ نَفْسِكَ، لاَ أَفْعَلُ هَذَا الأَمْرَ» (2صم11: 6-11).

ويا للسمو في أخلاق ”أُورِيَّا“! ويا لفهمه العميق لأمور الله وترتيبها! فهو يذكر ”التَّابُوتَ“ أولاً؛ يذكره مجردًا بلا مقدمات لأنه غني عن التعريف، فهو الذي لا يتكرر صنعه.  إنه «تَابُوتَ اللهِ، الَّذِي يُدْعَى عَلَيْهِ بِالاسْمِ، اسْمِ رَبِّ الْجُنُودِ، الْجَالِسِ عَلَى الْكَرُوبِيمِ» (2صم6: 2).  وإن قيمة إسرائيل ومجده هما في وجود التابوت في وسطهم.

كما أن ”أُورِيَّا“ يعرف قيمة ”إِسْرَائِيل“ شعب الرب، الذي أحبه وفداه، وقاتل عنهم عند بحر سوف.
ويعرف قيمة ”يَهُوذَا“؛ السبط الملكي الذي نبت منه داود.  ويا له من تقدير لداود الملك!
ثم نراه – في فطنة ناضجة، وتأوه عميق – يُقدّر حالة شعب الرب، فيقول: «سَاكِنُونَ فِي الْخِيَامِ».
ثم في أدب راقٍ وتواضع جم، يقول: «وَسَيِّدِي يُوآبُ وَعَبِيدُ سَيِّدِي (الملك) نَازِلُونَ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ».
كان ”أُورِيَّا“ في أورشليم، وفي قصر الملك، لكن قلبه وفكره كان هناك، مع إخوته على جبهة القتال، مشغولاً بهم بكل إخلاص «فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ» (مت12: 34)، «فَقَالَ أُورِيَّا لِدَاوُدَ ... أَنَا آتِي إِلَى بَيْتِي لآكُلَ وَأَشْرَبَ وَأَضْطَجِعَ مَعَ امْرَأَتِي؟! وَحَيَاتِكَ وَحَيَاةِ نَفْسِكَ، لاَ أَفْعَلُ هَذَا الأَمْرَ».
لقد كانت حياة الملك لها معزة وتقدير في قلب ”أُورِيَّا“ فاتخذها كقسم، ولم يحنث في قسمه.  ولكن ماذا كان تقدير داود لحياة ”أُورِيَّا“؟!

لقد كان موقف ”أُورِيَّا“ وجوابه بمثابة ”نور يهوه“ الذي سطع على خرائب داود وأوحاله، ليرجع بالتوبة والندم وانكسار القلب، طالبًا من الرب الرحمة والغفران.  ولكن داود لم يستفد من هذا النور، وهرب منه، فتقسى قلبه وازداد ظلامًا، وأصر أن يخفي جريمته تحت دم أُورِيَّا.  وقد فعل لأنه الملك.
وخرج ”أُورِيَّا“ – في ولاء وطاعة وخضوع للملك – يحمل وثيقة إعدامه بيده، والتي كتبها داود وختمها بخاتمه، وحملها إلى يُوآب الغادر الذي تمَّم الجريمة ليُرضي الملك.  وقُتل ”أُورِيَّا“ بجريمة الغدر؛ مات بخطية غيره.

لم يكن هدفنا أن نُشهّر بداود، ويكفيه ما أصابه هو وبيته من يد الرب.  لكننا أردنا  نذكر موقفًا سجّله روح الله، لاثنين على طرَفي نقيض: فعندما كان داود ورئيس جيشه، في مستنقع الخيانة والغدر، يدبران لقتل رجل أمين يُحارب لأجل الرب وشعبه، نرى ”أُورِيَّا“ يعلو فوق جبل الإخلاص والمحبة والأمانة للرب وشعبه.  وقد زيَّل الروح القدس لوحة الشرف لأبطال داود باسم «أُورِيَّا الْحِثِّيُّ»، الذي كان – بكل صدق وإخلاص – يحمل ”نور يهوه“، وكان كالخمر الجيدة التي قدمها الرب أخيرًا (2صم23: 39).
 


رمزى فؤاد