«يو٢: ١-١١»
(تابع ما قبله)
«قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ» (يو٢: ٥). كم هو جميل هذا الكلام! لقد قبلت مريم باتضاع توبيخ الرب، وسلمت بحقه في أن يتصرف كما يرغب، وتركت الموضوع برمته بين يديه. وهنا لنا درس مهم، كثيرًا ما جهلناه: كم نميل لأن نُملي إرادتنا على الله! كم نحن عرضة لأن نحاول إخباره ماذا يفعل! ما ذلك إلا عرض وبرهان على الإرادة الذاتية المتصلبة المتأصلة في المؤمن، ما لم تُخضعه النعمة الإلهية. ما علينا ببساطة سوى أن نُسلم طريقنا للرب، ونتركه يُسدد حاجتنا في الوقت وبالوسيلة المناسبين.
نعود الآن إلى المعجزة التي أجراها الرب يسوع في قانا.
نقدم أولاً كلمات قليلة عن مناسبتها.
أدرك الرب يسوع أن في طلبة مريم دعوة من الآب لإجرائها. وفي هذا العمل البسيط؛ توفير الخمر لمدعوي العرس، ميَّز الرب شيئًا مختلفًا تمامًا عن رأي مريم. فهذه المعجزة تعني انقلابًا كليًا في مسار حياة المُخلِّص؛ فقبلها كان يعيش في عزلة تامة في الناصرة، ولكن منذ الآن سيصبح شخصية مشهورة معروفة. من الآن سيمسي من الصعب عليه – أو قل بالكاد – سيتحين الفرصة لكي يتناول طعامه من فرط المشغولية. ولن يجد وقتًا للشركة مع الآب إلا حين يهجع الآخرون. فإذا أجرى هذه المعجزة وأظهر مجده سيصبح محط الأنظار، وموضوع حديث كل لسان، وسيتبعه الناس أينما ذهب، وسيكون موضوع تمجيد الناس المتطفلين، وسيُثير ذلك غيرة القادة الدينيين، ويضحى هدف تجسسهم ومراقبتهم كشخصية عامة. وأخيرًا سيقبضون عليه كمجرم متمرد، في اتهام باطل، ويحكمون عليه بالصلب. كل هذا عرض لناظريه، عندما طُلب منه توفير الخمر المطلوب. بيد أنه لم يتراجع فقد جاء ليُتمم مشيئة الله كيفما كانت الكُلفة.
ألا نستطيع القول إنه وهو واقف هناك إلى جوار المُطوَّبة مريم، يستمع إلى كلماتها، أن منظر الصليب مثل أمام عينيه، يتحداه؟ ومن ثم كانت إشارته الخطيرة عن الساعة التي لم تأتِ بعد.
في المقام الثاني فإن الطريقة التي أُجريت على نسقها المعجزة تستحق انتباهنا البالغ:
«وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ، يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً. فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ. فَقَدَّمُوا» (يو٢: ٦-٨).
كان المسيح هو الذي أجرى المعجزة، بيد أن الخدام هم – حسبما يظهر – الذين فعلوا كل شيء؛ فقد ملأوا الأجران، واستقوا الخمر، وقدموا لرئيس المتَّكإ. إذن لم يكن ثمة استعراض للقوة الإلهية. لم يجرِ المسيح حيلة سحرية، بل إنه حتى لم يأمر الماء أن يتحول خمرًا. وكل ما بدا للناظرين أن ثمة أناس يؤدون عملهم المعتاد، لا أن الله الخالق قد أجرى المعجزة. وكل ذلك يُكلمنا بأعلى صوت. كان ذلك مَثلَاً في هيئة فعل. فالأدوات المُستخدمة كانت بشرية، ولكن النتيجة المرئية كانت إلهية.
كانت تلك معجزة المسيح الأولى، وهي تُظهر أن الله يُسرّ باستخدام أوان بشرية لإجراء عجائب نعمته. فحوى المعجزة هو توفير الخمر، وكما أشرنا، فإن الخمر يرمز إلى الفرح في الله. نتعلَّم إذًا أن الرب يُسرّ بأن يستخدم وكلاء بشريين ليستحضر الفرح لقلوب الناس.
وماذا كان العنصر الذي استخدمه الرب بصدد انتاج الخمر؟ كان الماء. والماء هو أحد الرموز لكلمة الله المكتوبة (انظر أفسس ٥: ٢٦). وكيف يليق بنا نحن خدامه اليوم، خدام المسيح، أن نطيعه إذ يأمرنا أن نملأ هذه الأجران الحجرية الستة بالماء، بواسطة خدمة الكلمة، حتى لو بدا ذلك بلا معنى – أو قل حماقة. ولكن طاعة الخدام جعلتهم شركاء في المعجزة! وقد يظهر ذلك في عيون حكماء العالم الذين وضعوا ثقتهم في الشرائع وسن القوانين وتحسين الأوضاع الاجتماعية، نعم قد يبدو عبثًا أن نخرج إلى الناس الأشرار وليس في أيدينا شيء سوى كتاب مكتوب منذ ما يقرب من ألفي عام. ومع ذلك «اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ» (١كو١: ٢١).
ذلك هو تقدير حكماء العالم – على أقصى تقدير – لأمور الله: جهالة. ولكن ها هو التعليم المبارك لخدام الله اليوم؛ دعونا نخرج متسلحين بماء الحياة، طائعين ببساطة أوامر ربنا، وهو سيستخدمنا لإمداد قلوب حزينة كثيرة بخمر الفرح الإلهي.
في المقام الثالث لنلاحظ التعليم الذي تنطوي عليه هذه المعجزة، فهي ترسم أمامنا صورة واضحة المعالم لتغيير الخاطئ:
١. نرى حالة الإنسان الطبيعي قبل ولادته ثانية؛ فهو يُشبه جرن ماء فارغ، حجري بارد، بلا حياة، وبلا نفع (ع٦).
٢. نرى عجز ديانة الإنسان عن إعانة الخاطئ. كانت الأَجْرَان مَوْضُوعَةً هُنَاكَ (جانبًا) «حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ» (ع٦)؛ كانت مصممة للتطهير الطقسي، ولكن عقمها وعدم نفعها باديان في فراغها.
٣. وفقًا لأمر المسيح مُلئت هذه الأجران ماء. والماء هو أحد رموز كلمة الله المكتوبة؛ الكلمة التي يستخدمها الله لإحياء النفوس المائتة إلى جدة الحياة. لاحظ أيضًا أن هذه الأجران «مَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ» (ع٧)؛ إن الله دائمًا يُعطي بمكيال جيد وبدون شُّح، لا سيما لأولئك الخدام الذين يخدمونه.
٤. الماء أنتج خمرًا «الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ» (ع١٠)، وهو رمز للفرح الإلهي الذي يملأ النفس التي وُلدت “من الماء” (يو٣: ٥).
٥. نقرأ «هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ» (ع١١). وهذا باختصار موجز “الولادة الجديدة”؛ معجزة. وليس ذلك فقط بل هي «بِدَايَةُ الآيَاتِ». فأن يُولد الشخص من جديد، فهو أول أعمال النعمة.
٦. لاحظ «هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ» (ع١١). هكذا الحال في إحياء النفوس الميتة: أن يظهر مجد ربنا ومُخلِّصنا.
٧. لاحظ أيضًا «فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ» (ع١١). الإنسان الميت لا يقدر أن يؤمن. ولكن أول نبضة حياة للنفس المولودة من جديد أن تتحول إلى المسيح. لا نقول أن ثمة فسحة زمنية بين الاثنين، ولكن كما أن هناك سببًا، وهناك نتيجة، كذلك عمل الاهتداء يسبق الإيمان بالمسيح. مثال ذلك ما نجده في ٢تسالونيكي٢: ١٣؛ فأولاً «تَقْدِيسِ الرُّوحِ» الذي هو الإحياء، ثم «تَصْدِيقِ الْحَقِّ».
ولكن ألا يوجد معنى أعمق إلى «بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ» (ع١١)؟ ألا نجد إشارة واضحة في هذه المعجزة الأولى التي أجراها مُخلِّصنا إلى دم المسيح؟ ألا نجد في الخمر رمزًا لدمه المسفوك! وأن لسفك الدم الأهمية القصوى! إن العرس مناسبة للفرح والابتهاج، ولكي يتسنى للناس الفرح كان ينبغي أولاً أن يُسفك دم المسيح الكريم. آه، إن هذا هو أساس كل بركة جنيناها، وأرضية كل سعادة نتمتع بها. ومن هنا ابتدأ المسيح عمل رحمته الفائق بتوفير الخمر الذي يتكلَّم عن موته الكفاري، يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً. فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ. فَقَدَّمُوا» (يو٢: ٦-٨).
«فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْرًا، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ، لكِنَّ الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا، دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ» (يو٢: ٩). هذه العبارة الاعتراضية مباركة للغاية؛ إنها تشرح مبدأ مهمًا. لقد كان “الْخُدَّامَ” وليس التلاميذ – ولا حتى المُطوَّبة مريم – هم الأقرب إلى الرب في هذه المناسبة. أولئك الذين كان لهم معرفة بفكره. وما حيَّر “رئيس المتكإ” لم يكن سرًا بالنسبة لأولئك الخدام. كم هي مختلفة طرق الله عن طرقنا! لقد كان رب المجد هنا كمن يخدم. ففي نعمة عجيبة «لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مت٢٠: ٢٨؛ مر١٠: ٤٥). ولذلك فإن الخدام المتضعين، والذين يخدمون أوضع الخدمات هم الأقرب إليه. وهذه مكافأتهم لأنهم أعطوا القفا لمجد العالم. كما نقرأ في عاموس ٣: ٧ «إِنَّ السَّيِّدَ الرَّبَّ لاَ يَصْنَعُ أَمْرًا إِلاَّ وَهُوَ يُعْلِنُ سِرَّهُ» ... لمن؟ «لِعَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءِ». وهو أمر مشابه لما نقرأه في مزمور ١٠٣: ٧ «عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ». ومن كان موسى؟! لندع الكتاب يُجيب؛ «وَأَمَّا الرَّجُلُ مُوسَى فَكَانَ حَلِيمًا جِدًّا (وديعًا) أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ» (عد١٢: ٣). نعم، فالرب «يُدَرِّبُ الْوُدَعَاءَ فِي الْحَقِّ، وَيُعَلِّمُ الْوُدَعَاءَ طُرُقَهُ» (مز٢٥: ٩).
فأولئك الذين يقررون أن يشغلوا موقع المسؤولية والسلطة (كمريم هنا)، لا يتعلموا أسرار الرب. والذين يرغبون في شغل موقع مثل “رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ” لا يعرفون أفكاره. ولكن أولئك الذين يضعون أنفسهم رهن أمر المسيح، هم الذين يتشاركون في مشوراته. وفي يوم قادم، عندما يُقدَّم خمر الملكوت الحقيقي، فأولئك الذين خدموه في فترة غيابه، سيتبوؤون مكانهم تحت إمرته كينابيع للفرح. ألم يعد هو: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ» (يو١٢: ٢٦).
«وَقَالَ لَهُ: كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ!» (يو٢: ١٠). وهذا يشرح طرق الله وطرق الإنسان. فالعالم (وكذلك الشيطان)، يُقدِّم أفضل ما لديه أولاً، ويحتفظ بالأسوأ إلى الآخر. أولاً مسرات الخطية – إلى حين – ثم تليها أجرة الخطية. ولكن مع الله يحدث العكس. فهو يأخذ شعبه إلى البرية قبل أن يستحضرهم إلى ميراثهم الموعود. أولاً الصليب ثم الإكليل. صديقي المؤمن: إن الخمر الجيدة الفضلى تبقى إلى الآخر «أَمَّا سَبِيلُ الصِّدِّيقِينَ فَكَنُورٍ مُشْرِق، يَتَزَايَدُ وَيُنِيرُ إِلَى النَّهَارِ الْكَامِلِ» (أم٤: ١٨).
بقيت ملحوظة أخيرة قبل أن نختم حديثنا. فيا لها من رسالة هنا موجهة إلى غير المُخلَّصين. للإنسان الطبيعي “خمرًا” من صنعه. ثمة سعادة جسدانية تُجتنى من “مسرات الخطية”؛ المباهج التي قدمها العالم. ولكن كم هي ضحلة! كم هي مزيفة! فعاجلاً أو آجلاً هذه الخمر المصنوعة من «عَنَاقِيدَ كَرْمِ الأَرْضِ» (رؤ١٤: ١٨)، لا بد وأن تفرغ. فالخاطئ المسكين قد يكون مُحاطًا برفاق لطفاء، وقد تكون ظروفه المالية والاجتماعية مواتية، ولكن لا بد أن يأتي وقت يكتشف فيه أن الخمر نفدت؛ لا خمر لديه. ومغبوط هو الإنسان الذي يعي ذلك. واكتشاف إفلاسنا غالبًا ما يكون هو نقطة تحولنا، فهذا شأنه أن يعدنا للنظر إلى ذاك الذي يهب «جَمَالاً عِوَضًا عَنِ الرَّمَادِ، وَدُهْنَ فَرَحٍ عِوَضًا عَنِ النَّوْحِ، وَرِدَاءَ تَسْبِيحٍ عِوَضًا عَنِ الرُّوحِ الْيَائِسَةِ» (إش٦١: ٣).
صديقي غير المؤمن: فقط واحد هو الذي يمكنه أن يوفر لك الخمر الحقيقية؛ الخمر الجيدة، هو الرب يسوع المسيح. وحده يروي ظمأ النفس ويُشبع شوقها، ويجعل الكأس ريًا. بمقدوره أن يضع في فمك ترنيمة لا تستطيع الملائكة شدوها؛ ترنيمة الفداء. فماذا عليك أن تفعل؟ ما هو الثمن الذي يتعين عليك دفعه؟ كل المطلوب منك يا صديقي العزيز هو أن تصغِي إلى إنجيل النعمة: «تُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ» (مر١: ١٥).