«لاَ تُجَاوِبِ الْجَاهِلَ حَسَبَ حَمَاقَتِهِ لِئَلاَّ تَعْدِلَهُ أَنْتَ.
جَاوِبِ الْجَاهِلَ حَسَبَ حَمَاقَتِهِ لِئَلاَّ يَكُونَ حَكِيمًا فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ»
(أم٢٦: ٤، ٥)
في آيتين متتاليتين في هذا الأصحاح من سفر الأمثال، يأتي الأمر أولاً أن لا نُجاوب الجاهل، ثم بعده مباشرة يأتي الأمر أن نُجاوب الجاهل! فماذا نحن فاعلون؟! نُجاوب أم لا نُجاوب؟! أو بصورة أخرى متى نُجاوب الجاهل، ومتى لا نُجاوبه؟ وهنا نجد أنفسنا محتاجين إلى “حكمة من فوق” لنعرف “كيف نتصرف حسنًا”، وكيف نكون “مستعدين لمجاوبة كل واحد”.
في هاتين الآيتين نجد أن لكل مقام مقالاً؛ فعندما يكون الأمر في العدد الرابع «لاَ تُجَاوِبِ الْجَاهِلَ حَسَبَ حَمَاقَتِهِ لِئَلاَّ تَعْدِلَهُ أَنْتَ »، نُدرك أننا لسنا في حاجة إلى أن ننزل إلى مستوى ذلك الجاهل أدبيًا وأخلاقيًا، لا في غضبه، ولا في هزله. فإذا ما بدت منه في غضبه شتائم، فلا ينبغي لنا أن نُجاوبه عن شتيمة بشتيمة، أو بلفظ جارح، أو بكلام قبيح، أو بألفاظ سوقية هابطة، مما يستخدمه السوقة والرعاع، بل ينبغي أن نكون مترفعين عن كل هذه الأساليب، ولتكن طلبتنا في مثل هذه المواقف «اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِسًا لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ» (مز١٤١: ٣)، وليكن لسان حالنا «قُلْتُ: أَتَحَفَّظُ لِسَبِيلِي مِنَ الْخَطَإِ بِلِسَانِي. أَحْفَظُ لِفَمِي كِمَامَةً فِيمَا الشِّرِّيرُ مُقَابِلِي» (مز٣٩: ١). ولنا في المكتوب السند والمثال الكامل في ربنا المعبود «الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ» (١بط٢: ٢٣)، «غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِالْعَكْسِ مُبَارِكِينَ» (١بط٣: ٩).
وإذا ما بادر الجاهل بكلام الهزل والسفاهة التي لا تليق، مما يتندر به أهل العالم من فكاهات أو نكات، بما فيها من سفاهات أو قباحة، فلا ينبغي لنا أن نبتسم في وجهه؛ مجاراة أو استحسانًا، أو حتى مجاملة، بل لنُظهر عدم الرضا وعدم الموافقة، وليكن سكوتنا توبيخًا له، وتساميًا عما في أسلوبه من دنايا لا تليق. وبهذا يظهر الفارق، وتُوَّبَّخ حماقته، ولا نكون مساويين له ومعادلين له في طريقة تفكيره وفي أسلوبه، لأننا لو جاريناه نجلب إهانة للرب، وتوبيخًا لأنفسنا.
أما في العدد الخامس فالأمر يختلف، إذ نحن مُطالبون بأن نُجاوب الجاهل حَسَبَ حَمَاقَتِهِ «لِئَلاَّ يَكُونَ حَكِيمًا فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ». في مزمور ١٤:١ «قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلَهٌ»؛ ليقل في قلبه ما شاء له القول، فنحن غير مطالبين بمحاكمة الأفكار وما يدور في الأذهان والقلوب. ولكن إذا جاهر ذلك الجاهل بهذا القول أو ما شابهه في مجلس، وكان ذلك على مسامعنا ومسامع الحاضرين، فلا ينبغي أن يمر هذا القول دون وقفة جادة منا لنُعلن فيها الحق للقائل وللسامعين، فهذا دورنا في الشهادة عن إله عظيم «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مز١٩: ١)، أو ما جاء في إشعياء ٤٠: ٢٦ «ارْفَعُوا إِلَى الْعَلاَءِ عُيُونَكُمْ وَانْظُرُوا، مَنْ خَلَقَ هَذِهِ؟»، وبهذا نشهد للحق، ونُظهر حماقة القول وجهل القائل، فلا يكون حكيمًا في عيني نفسه أو في عيون سامعيه، وعندئذٍ يفكر ألف مرة ومرة قبل أن يتفوه بالأباطيل والجهالات، ويعرف حجمه الصحيح.
أو ليس هذا ما فعله بولس الرسول على صفحات الوحي المقدس عندما هوجمت حقيقة القيامة، ووصل التشويش والظنون الردية إلى المؤمنين في كنيسة كورنثوس، وقال القَائِل: «كَيْفَ يُقَامُ الأَمْوَاتُ؟ وَبِأَيِّ جِسْمٍ يَأْتُونَ؟»، فكان الرد المُفحم: «يَا غَبِيُّ! الَّذِي تَزْرَعُهُ لاَ يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُتْ» (١كو١٥: ٣٥، ٣٦). وبهذا أسكت جهالة الناس الأغبياء حتى لا يتمادوا في شرورهم، ولا يكونوا حكماء في عيون أنفسهم وعيون سامعيهم.
بل هذا ما فعله ربنا المبارك عندما جاءه الفريسيون والهيرودسيون يسألون «أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟»، فعلم يسوع خبثهم، ورد كيدهم إلى نحورهم عندما طلب منهم أن يُروه دينارًا، وقال مقولته الخالدة: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ». ثم بعدها جاء الصدوقيون يسألون في أمر القيامة، واختلقوا مشكلة لا وجود لها إلا في أفكارهم، فكان رده: «تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ ... ... أَفَمَا قَرَأْتُمْ مَا قِيلَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ الْقَائِلِ: أَنَا إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ اللهُ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ» (مت٢٢: ١٥-٣٢).
ليُعطنا الرب الحكمة فنُجاوب حين يُريدنا أن نُجاوب، ونسكت حين يُريدنا أن نسكت، «وَالْكَلِمَةُ فِي وَقْتِهَا مَا أَحْسَنَهَا!» (أم١٥: ٢٣)، «تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِي مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ، كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ فِي مَحَلِّهَا» (أم٢٥: ١١).