اختفت عبارة “كل سنة وانت طيب” من أفواه الكثيرين هذا العام، فلقد بدأ من لحظاته الأولى بتفجير انتحاري مجنون في الإسكندرية، جعل الناس تدخل السنة وهم غير مستبشرين خيرًا. وقبل أن نستفيق من هذا الحادث، إذا بكوارث أفظع تتوالى بصورة لم تشهد البلاد نظيرًا لها في العصر الحديث. والسؤال الذي في قلوب الكثيرين، إن لم يكن على ألسنتهم: وماذا بعد؟ هل هذه الأحداث المأساوية هي استثناء للقاعدة؟ هل هي نغمات نشاز وسط عزف متقن منسجم بديع؟ أم أن هذه الصورة الحزينة مرشحة للتكرار، وربما بصورة أفظع في الأيام القادمة؟
وحيث إننا نعيش في موضع مظلم، ازداد ظلامه في هذه الأيام، فحسن أن نتحول إلى الكتاب المقدس الذي قال عنه الرسول بطرس: «وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها، كما إلى سراج منير في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم» (2بط1: 19).
ماذا نتعلم من هذه الكلمة النبوية سراجنا في هذه الأيام العصيبة والشريرة؟
الحاجة إلى الصلاة
إننا في أشد الحاجة إلى الصلاة. قال الرب على لسان إشعياء: «هَلُمَّ يَا شَعْبِي ادْخُلْ مَخَادِعَكَ وَأَغْلِقْ أَبْوَابَكَ خَلْفَكَ. اخْتَبِئْ نَحْوَ لُحَيْظَةٍ حَتَّى يَعْبُرَ الْغَضَبُ. لأَنَّهُ هُوَذَا الرَّبُّ يَخْرُجُ مِنْ مَكَانِهِ لِيُعَاقِبَ إِثْمَ سُكَّانِ الأَرْضِ فِيهِمْ فَتَكْشِفُ الأَرْضُ دِمَاءَهَا وَلاَ تُغَطِّي قَتْلاَهَا فِي مَا بَعْدُ» (إش26: 20، 21). فعندما يخرج الرب من مكانه، علينا نحن أن ندخل مخادعنا. وفي صلواتنا سواء في المخدع أو مع باقي المؤمنين، نحتاج أن تكون لنا وقفة مع الرب لنسأله: «لماذا أصابتنا هذه؟». ما هي الرسالة التي تريد أن توجه لي أنا بالذات؟
في أيام يوئيل النبي لما حدثت نكبة قومية، كان كلام الرب لشعبه: «تَنَطَّقُوا وَنُوحُوا أَيُّهَا الْكَهَنَةُ. وَلْوِلُوا يَا خُدَّامَ الْمَذْبَحِ. ادْخُلُوا بِيتُوا بِـالْمُسُوحِ يَا خُدَّامَ إِلَهِي... قَدِّسُوا صَوْماً. نَادُوا بِاعْتِكَافٍ. اجْمَعُوا الشُّيُوخَ جَمِيعَ سُكَّانِ الأَرْضِ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلَهِكُمْ وَاصْرُخُوا إِلَى الرَّبِّ» (يؤ1: 13-15). وأيضًا: «وَلَكِنِ الآنَ يَقُولُ الرَّبُّ: «ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ. وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لاَ ثِيَابَكُمْ وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ إِلَهِكُمْ لأَنَّهُ رَأُوفٌ رَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَيَنْدَمُ عَلَى الشَّرِّ....» (يؤ2: 12، 13).
ولقد علَّمنا الكتاب المقدس أيضًا أنه علينا أن نواصل الصلاة لأجل جميع الذين هم في منصب، ليهبهم الله الحكمة في تسيير أمور البلاد. في هذا قال الرسول: «فَأَطْلُبُ أَوَّلَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ تُقَامَ طِلْبَاتٌ وَصَلَوَاتٌ وَابْتِهَالاَتٌ وَتَشَكُّرَاتٌ لأَجْلِ جَمِيعِ النَّاسِ، لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ، لأَنَّ هَذَا حَسَنٌ وَمَقْبُولٌ لَدَى مُخَلِّصِنَا اللهِ، الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تي2: 1-4). وإننا نشدِّد على أهمية هذه الطلبة. ومع أننا متغربون في هذا العالم، وليس لنا هنا مدينة باقية (عب13: 14)، ولكن يهمنا سلام البلاد التي نحن متغربون فيها، فهكذا قال الرب على لسان إرميا، مؤكدًا أنه بسلامها يكون لنا سلام (إر29: 7).
دعنا لا ننتظر الأفضل
علينا أن ندرك أن هذا هو طابع العالم من بدايته، ولا سيما بعد أن جاءه رئيس السلام فرُفضت إرساليته، واحتُقر وصُلب، وما زال مرفوضًا إلى اليوم. قال المسيح، في عظة إرساليته لتلاميذه، بعد أن ألمح إلى رفضه: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض» (مت10: 34). إن العالم بحالته الراهنة لم ولن ينعم بالسلام. فهو في شره وعدائه لله ينطبق عليه القول الذي كرره النبي مرتين: «لا سلام قال الرب للأشرار» (إش48: 22؛ 57: 21). ليس معنى ذلك أن المؤمن محروم من السلام، بل إن الله وعد بأن يعطي أتباعه الأمناء سلامًا داخليًا، قال عنه المسيح لتلاميذه: «سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا» (يو14: 27). وقال أيضًا: «كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو16: 33).
كثيرة هي التحذيرات من الرب لشعبه بأنهم سيقابلون مصاعب. قال الرب لتلاميذه: «تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله»؛ ثم يقول: «لكني كلمتكم بهذا، حتى إذا جاءت الساعة تذكرون أني أنا قلته لكم» (يو16: 2، 4). وكان قصد الرب من ذلك، أنه بدل أن تكون هذه الشدائد والمصاعب سببًا لتثبيط العزائم، فإنها متى جاءت ووجدت شعب الرب يتوقعها، فإنهم يزدادون قوة. ومن الكلمة النبوية لا نرى أن العالم يسير إلى الأفضل، بل إنه يتقدم من رديء إلى أردأ (2تي3: 13؛ 2تس2: 7، 8). صحيح في النهاية لا بد أن يأتي السلام، وذلك يوم يملك رئيس السلام، ولكن ليس قبل ذلك. قال النبي وصفًا لهذا العالم الموضوع في الشرير: «منقلبًا منقلبًا منقلبًا أجعله... حتى يأتي الذي له الحكم (أي شيلون، وهو أحد أسماء المسيح) فأعطيه إياه» (حز21: 27).
إنها الأيام الأخيرة
هذا الذي شاهدناه هو بالتحديد طابع الأيام الأخيرة. لقد سأل التلاميذ معلمهم قبل صلبه بيومين أو ثلاثة: «ما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟» (مت24: 3)، فكانت كلماته الصريحة أن الأيام الأخيرة التي تسبق مجيئه ليست أيام رخاء وازدهار، بل أيام معاناة وضيق. وتَجَمُّع الكثير مما قاله المسيح في حديثه الجامع المانع، في عظة (أو نبوة) جبل الزيتون، في الأيام التي نعيشها الآن، يجعلنا نعتقد جازمين أننا وصلنا إلى الأيام التي تسبق مجيء الرب مباشرة.
من ضمن ما قاله المسيح في هذا الحديث: «عَلَى الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ. اَلْبَحْرُ وَالأَمْوَاجُ تَضِجُّ، وَﭐلنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَانْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى الْمَسْكُونَةِ، لأَنَّ قُوَّاتِ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ». ثم يقول: «وَمَتَى ابْتَدَأَتْ هَذِهِ تَكُونُ فَانْتَصِبُوا وَارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ» (لو21: 25-28).
وعبارة “كرب” التي وردت في حديث الرب السابق تعني، في الأصل اليوناني الذي كُتب به العهد الجديد: “ضغطات من كل جانب”. وعبارة “حيرة” في الحديث ذاته، تعني حرفيًا بحسب الأصل اليوناني أيضًا “لا مخرج”. وعليه فإن عبارة «على الأرض كرب أمم بحيرة» هي وصف في منتهى الدقة للأزمات السياسية التي نعيشها اليوم، حتى لم يعد أحد، ولا أقدر السياسيين، يدري كيف يمكن حلها. وهذا كله صوت قوي، بحسب تعليم هذه العظة، على أننا نعيش في الأيام الأخيرة.
ولكننا نود أن نلفت النظر أننا بحسب هذه الكلمات الرائعة، نقف في مباينة كاملة مع الناس، لأننا نتبع عالمًا مختلفًا. فهذه الحيرة وهذا الارتباك من جانب البشر، يقابله من جانب المؤمنين أن يرفعوا رؤوسهم لأن نجاتهم تقترب!
لا موجب للخوف
إن الله معنا في هذه الظروف. وعندنا مزمور، كانت فيه الأهوال رهيبة، حتى إن الجبال نفسها تزعزعت وانقلبت إلى قلب البحار! لكن بني قورح استطاعوا أن يرنموا: «الله لنا ملجأ وقوة. عونًا في الضيقات وُجد شديدًا، لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحر». وكما بدأ بنو قورح مزمورهم بالقول “الله لنا”، فإنهم ختموه بالقول: «رب الجنود معنا، ملجأنا إله يعقوب» (مز46: 1، 2، 11). وبين بداية هذا المزمور الفائضة بالتعزية، ونهايته الممتلئة بالثقة، ترد هذه الكلمات العجيبة: «هلم انظروا أعمال الله، كيف جعل خِرَبًا في الأرض» (مز46: 8). وهذا الآية تذكرنا بكلمات النبي: «هل تحدث بلية في مدينة والرب لم يصنعها؟» (عا3: 6). إنه مسيطر على الكل، وبسماحه حدث ما حدث. إن إلهنا العظيم الذي لا يسقط عصفور دون إرادته، ولا شعرة من رؤسنا دون أذنه، لا يعقل أن يكون هذا الذي حدث دون علمه أو دون إذنه. ومع أنه يقدر أن يمنع الشر، ولكنه عادة يسمح به، ومنه يُخرج مجدًا عظيمًا لاسمه، وخيرًا جزيلاً لشعبه.
إخوتي الأحباء: ارفعوا أعينكم عما يفعله الأشرار، وانظروا أعمال الله! تأملوا كيف أن الله من وراء كل الخراب، يتمم مقاصده الصالحة، وكلمته التي لا يمكن أن تسقط أبدًا. ثبتوا عيونكم إلى العلاء واعرفوا أنه ما زال على العرش، ولن يتم مطلقًا سوى ما نوى أن يتممه.
صحيح تبدو اليوم يد الشيطان عاملة بقوة، ذاك القتال للناس من البدء، ولكن ثقوا أن الرب لم يفقد السيطرة. وما أروع كلمات الوحي في زمن أكثر صعوبة بكثير من أيامنا، عندما يُسْتَعلن الأثيم، ويتحول جنون البشر لا أن يحاربوا بعضهم بعضًا، بل أن يحاربوا الرب نفسه، الظاهر بمجده من السماء، يقول الوحي: «لأن الله وضع في قلوبهم أن يصنعوا رأيه» (رؤ17: 17).
كان يوسف رائعًا لما قال لإخوته: «ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله»، وأيضًا «لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم» (تك45: 5، 8). لقد رأى الله في كل ما حدث له. ومع أن قصته كانت مليئة بالمآسي المفجعة، ولكن الله لم يفقد قط الخيوط من يده، وكان دائمًا يعمل للهدف الذي أعلنه من البداية. وبالنسبة لنا نحن أيضًا، أعلن الله لنا النهاية من البداية، فلماذا نضطرب ونقلق؟
نحن نثق في صلاح الله المطلق، وقدرته غير المحدودة، وحكمته التي فوق الأفهام. ولذلك فإنه عندما تساءل المرنم: «إذا انقلبت الأعمدة (الأساسات التي تحفظ المجتمع) فالصديق ماذا يفعل؟» كانت الأجابة عن هذا التساؤل: «الرب في هيكل قدسه. الرب في السماء كرسيه. عيناه تنظران، أجفانه تمتحن بني آدم. الرب يمتحن الصديق»
نعم نحن لا نفهم الكثير مما حدث، ولا نفهم لماذا حدث، ولكننا «نعلم أن كل الأشياء - ويقينًا من ضمنها ما حدث ويحدث - تعمل معًا للخير للذين يحبون الله» (رو8: 28).
دعوة للتوبة والاستعداد
مثل هذه الأحداث تتكرر من آن لآخر في أيامنا، وينتج عنها الكثير من الخوف، لأن الناس يشعرون أننا نسير نحو كارثة. ولكني أقول إن هذا الخوف قد يكون بركة لصاحبه، لو استفاد منه، كما فعلت راحاب قديمًا، عندما سمعت فذاب قلبها، ولم يبق فيها روح (يشوع2). لقد طلبت علامة أمان من الرسولين، مدركة أن أريحا بأسوارها العالية والشامخة ستزول عاجلاً، وستنهار أسوارها حتمًا. وقبلها نوح، إذ أدرك أن العالم القديم سيهلك، تمامًا كما سيحدث لهذا العالم الحاضر الشرير، فإن هذه المعرفة أيضًا أنتجت خوفًا مقدسًا، كان بركة عظمى له (عبرانيين 11: 7). هذا ما أتمناه لكل قارئ، إذا لم يكن قد ضمن خلاصه الأبدي في المسيح. عزيزي، الكل سينهار عن قريب. هذا ما قالته الكلمة النبوية، وهذا ما نراه يحدث في أيامنا. وحقًا إنه من قبل رب الجنود أن الشعوب يتعبون للنار والأمم للباطل يعيون (حب2: 13). لا تدع إذًا عدو النفوس أو المعلمين الكذبة يقولون لك سلام سلام وليس سلام. أو يقولون لك إن كل شيء باق هكذا من بدء الخليقة. «لأَنَّ هَذَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ: أَنَّ السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُنْذُ الْقَدِيمِ وَالأَرْضَ بِكَلِمَةِ اللَّهِ قَائِمَةً مِنَ الْمَاءِ وَبِالْمَاءِ، اللَّوَاتِي بِهِنَّ الْعَالَمُ الْكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَهَلَكَ. وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الْكَائِنَةُ الآنَ فَهِيَ مَخْزُونَةٌ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَيْنِهَا، مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَهَلاَكِ النَّاسِ الْفُجَّارِ» (2بط3: 5-7).
عزيزي: لا تدع إبليس يعمل على تهدئة روحك القلقة، قبل أن تنال السلام الحقيقي لا الوهمي بالإيمان في المسيح. ولا تكن كالرجل الجاهل الذي صوَّره المسيح في ختام عظة الجبل، الذي بنى بيته على الرمل. ولما كان في أشد الاحتياج إلى بيت ليحتمي فيه من السيول والأمطار والرياح، اكتشف أن بيته صار أثرًا بعد عين.
عزيزي، لا تبن قصورًا من الرمال وعلى الرمال، فمن سيتبع المعلمين الكذبة ولا يستعد بالتوبة والإيمان، سيكتشف أنه هو ومن بنى على كلامه بلا ساتر يحميهم في يوم الدينونة الرهيب.
وقبل أن أختم مقالي دعني أقول لك: «استعد للقاء إلهك».
يوسف رياض