أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2011
إبراهيم 2 - دروس ورموز
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
عند اليهود مثل يقول: “إن السراج حين يُضيء على واحد، فهو يضيء على مئة شخص”.  كان تارح أبو إبراهيم سراجًا تحت السرير، ولوط ابن أخي إبراهيم سراجًا تحت المكيال، بينما كان إبراهيم سراجًا موضوعًا على منارةَ، فأضاء على الجميع.  ينطبق عليه كلام الرب يسوع «أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ.  وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ» (مت5: 14-15).
 كما أن الحبل لا يصنعه خيط مُفرد، هكذا خلق الإنسان لا تصنعه فضيلة واحدة.  ومَنْ ذا الذي يقطع حبلاً مثلوثًا؟ وعندما يُضفر عنصر الإيمان مع الرجاء والمحبة في إنسان، يكون له خُلق كامل.  وإذا كنا نجد الإيمان هو الصفة الغالبة في إبراهيم، لكنه بلا شك كان منسوجًا مع الفضيلتين الروحيتين الأخريين؛ الرجاء والمحبة.  وكل صفة منهما واضحة متميزة في وجود متناسب.  وإنما الإيمان بينهما له لمعان خاص بسبب الظروف التي اجتاز فيها إبراهيم.
هذا المبدأ عينه ملحوظ في الرسائل، فإن الغاية التي يهدف إليها الرسول بولس هي الإيمان مع أنه كتب كثيرًا عن الرجاء والمحبة.  بينما هدف الرسول بطرس هو الرجاء مع أنه لم ينحصر في هذا الرجاء وحده، بل تكلم عن المحبة والإيمان.  ويوحنا كانت غايته المحبة، لكنه يقول: «وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ» (يو20: 31).  وأيضًا «وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُ هَذَا الرَّجَاءُ بِهِ، يُطَهِّرُ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ طَاهِرٌ» (1يو3: 3).
تنقسم حياة إبراهيم إلى ثلاث مراحل، كل مرحلة منها تبدأ بهذه العبارة: «بَعْدَ هَذِهِ الأُمُورِ» أو «وَحَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الأُمُورِ» (تك15: 1؛ 22: 1).
أما هذه المراحل فهي: (1) الدعوة واستجابة الإيمان (2) الوعد واستجابة الرجاء (3) التجربة أو الامتحان واستجابة المحبة.  هذه الأوجه الثلاثة تتوافق كثيرًا مع الأبعاد الثلاثة التي يقول عنها العلماء بين الناس إنها تلازم تقريبًا كل شيء.  وهي الطول والعرض والعمق.  وليس هناك ما هو أطول من الرجاء، ولا أعرض من المحبة، ولا أعمق أو أوثق من الإيمان (عب11: 1).  
ومن الأصحاح الحادي عشر إلى الرابع عشر من سفر التكوين، نرى الدعوة واستجابة الإيمان، ومن الخامس عشر إلى الحادي والعشرين نرى الوعد واستجابة الرجاء، ومن الثاني والعشرين نرى الامتحان واستجابة المحبة «أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هَذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلَكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ» (1كو13: 13).
يعتبر إبراهيم نموذجًا قل أن يظهر له نظير أو مثيل في جسارة الإيمان، مع أننا نعلم أن الإيمان ظهر قبل إبراهيم في مؤمنين كثيرين، إلا أنه لم يظهر بهذه الكيفية مثلما ظهر في إبراهيم.  فلم يكن إبراهيم ذلك الإنسان الحالم صاحب الأوهام والخيالات أو حتى الأمنيات، بل الرجل الذي  تملكته الرؤيا السماوية والمجد الإلهى العظيم، فخرج في رحلة معالمها غير معروفة «فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي» (عب11: 8).  وفى رحلته لم يكن قصبة تحركها الريح، بل كان على يقين شديد أنه في الطريق الصحيح ويتجه نحو الهدف الأعلى والأمجد والأسنى، وهو مدفوع بعنصر فعال وبأقوى قوة يمكن أن تحرك أي إنسان، والتي بدونها هيهات أن يفعل هذا أفضل الأبطال أو أقوى الأقوياء، أقصد “الإيمان”.  ومن دون تردد أو أية شبهة أعطى ظهره للوطن والأرض والأهل والأصحاب ووجهه عبر الفيافي والقفار.  وفى ثقة لا تتدانى أو تتراخى أو تتزعزع راح يضرب رمال الصحراء بعصاه سائرًا خلف الذى دعاه.
بهذا الإيمان أيضًا وقف إبراهيم على أعلى ربوة من الأرض التى رحل إليها يتطلع إلى وطن أفضل من شنعار، وينتظر مدينة أبقى من مدينة الإنسان (بابل)؛ «الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ المدينة» (عب11: 10).  ومع أن ما يراه ليس سوى رمال وأعداء، إلا أنة كان يرى غير المنظور ويلامس غير الملموس.  لم يكن يعلم كيفية الوصول إليها، لكنه كان يدرك أن الذى دعاه يرى أفضل منه، ويعرف أفضل مما يعرفه.  وفى هذا كان سر انتظاره وكفايته، بل وسلامه العميق، وذلك لأنه كان يسلك بالإيمان لا بالعيان.  وليس بعجيب حين نراه بعد ذلك يدخل بجسارة الإيمان بغلمانه الثلاث مئة والثمانية عشر فى معركة عجز عن مواجهتها ملوك سدوم وعمورة ومدن الدائرة، ويُحوِّل الهزيمة إلى نصر، ويسترد لوطًا ابن أخيه ويسترجع الأسرى والأسلاب.
تصل الدعوة إلى خاطئ بين الخطاة فتُخرجه من موضعه الذي هو فيه، وهذا المدعو يدخل في حلبات من الصراع متشابكة متتابعة يختبر فيها ضعفات وأخطاء.  وهذا الدور ينتهي به إلى نُصرة على الأعداء ويتخطى العقبات مثل إبراهيم على تلال ساليم، وهناك يختبر بركة ملكي صادق الذي يخرج لاستقباله ويباركه باسم الله العلي.
يضيف التلمود اليهودي بعض اللمسات المظهرية على رواية التوراة، فيقول إن إبراهيم كان ابنًا صالحًا وقد قام بتكسير أصنام أبيه، وأن نمرود أراد أن يقتله .. إلخ.  لكن في يشوع 24 تختلف الرواية، فإن إبراهيم وُلد وتربى في أور بين الوثنيين (وكانت أور مركز عبادة إله القمر)، في ظل أسوار بابل، وتحت عبودية نمرود بن حام الملك الجبار.  ومن هناك دعاه الله حيث يسير به إلى أرض يُرحَّب له فيها، وفي طريقه إلى تلك الأرض كان عليه أن يترك خلفه مدينة العالم بابل، في رحلة شاقة، لكن الله رافقه وبحكمته أرشده، وبنعمته عضده، وبقوته ظلله وحفظه.  وكل هذا واضح المعنى.
والمؤمنون مثل إبراهيم مدعوون بكلمة الله بطريقة توقظ فيهم مشاعر الاستجابة لها.  وهذه الدعوة فردية يختبرها كل منهم.  وبالدعوة ينفصلون عن خطاياهم السالفة ومعاشراتهم، ويتقدسون لمستقبل مجيد. وعبر رحلة الحياة - التي هي برية بالنسبة لهم - يختبرون سحابة العناية الإلهية ترافقهم إلى أن يصلوا إلى نهر مُنعش، مياهه باردة يفصل بين حاضرهم ومستقبلهم، ولا بد لهم أن يعبروه، وإبراهيم كان العابر لأن هذا هو معنى كلمة عبراني.  البعض يعبرونه وسط أمواج عالية، والبعض يعبرونه على اليابسة «لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا وَلَكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ» (1كو15: 51).
كل مؤمن ينبغي أن يتبع طريق أبي المؤمنين «يَذْهَبُونَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى قُوَّةٍ» إلى أن «يُرَوْنَ قُدَّامَ اللهِ فِي صِهْيَوْنَ» (مز84: 7) والله يستقبلهم؛ رئيس كهنة الله العلي الذي على رتبة ملكي صادق يرحب بهم في مدينة الله التي مسالكها بر وسلام، وهناك يباركهم.
إن فريقًا من جماعة الرب عبروا فعلاً، وفريقًا يعبره الآن.  البعض يرمي بنفسه إلى مياه النهر، والبعض يتأهب على الشاطئ كما يصفهم كاتب ”سياحة المسيحي“ ليعبروا إلى حيث تملك النعمة.  هناك يُودِّعون جميعهم الليل ليستقبلوا النهار الأبدي.
حياة إبراهيم المُظفرة، شابتها بعض الهزائم، وامتزجت فضائلها ببعض الهفوات.  ولا يسرنا أن نغض الطرف عن هزائم وهفوات مثل هذه، من خادم لله عظيم وبارز مثل إبراهيم.  وعلى صفحات المكتوب سُجلت هذه الهزائم والهفوات لأجل تعليمنا وإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور (1كو10: 11) وأخيرًا هي ضعفات رجل شريف القصد. نقول إنها هفوات الفضيلة وليست أخطاء الرذيلة.
أول هذه المآخذ أنه تباطأ في أن يفرز نفسه عن بيت أبيه وعن عشيرته، عندما دعاه الله أن يفعل ذلك، وبدلاً من أن يلبي الدعوة بسرعة وبنشاط، نقرأ أن تارح أخذ زمام الأمور «أَخَذَ تَارَحُ أَبْرَامَ ابْنَهُ، وَلُوطًا بْنَ هَارَانَ ابْنَ ابْنِهِ، وَسَارَايَ كَنَّتَهُ امْرَأَةَ أَبْرَامَ ابْنِهِ، فَخَرَجُوا مَعًا مِنْ أُورِ الْكِلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ.  فَأَتُوا إِلَى حَارَانَ وَأَقَامُوا هُنَاكَ» (تك11: 31).
أمام دعوة مثل هذه، كان يجب أن لا يعترف إبراهيم بروابط عائلية لأن دعوة الله وجهت لإبراهيم.  قد يكون من مصلحة تارح أن يرافق ابنه إبراهيم.  لكن ماذا كانت النتيجة؟  أنهم ارتحلوا إلى حاران البلد الآهل بالسكان والمركز التجاري الهام، حيث تتلاقى عندها مسالك القوافل.  لكن بالنسبة لرجل الإيمان كانت حاران هي القفر المُجدب، وهذا هو معنى اسمها “جفاف”.  وهناك مكثوا إلى أن حصل موت تارح، وكان موته حلاً لهذا النير المتخالف، وتحرر أبرام.
يؤخذ على أبرام أيضًا ذلك الاتفاق غير الصادق مع امرأته ساراي (تك20: 13)، بل إن أبرام أخطأ بنزوله إلى مصر ولو بقصد التغرب هناك.  كذلك تُسجل عليه غلطته في قضية هاجر.  لقد تباطأ الجسد في أور، وتسرع الجسد في قضية هاجر، وفي كليهما فشل الإيمان الذي هو الفضيلة المميزة عند إبراهيم.
حصل هذا مع موسى ـ أحلم إنسان في الأرض لما نَفَذ حلمه عند مريبة (عد20: 11)، كما حصل هذا مع داود عندما نزل إلى جت (1صم29: 8، 9).  وحصل هذا مع ايليا عندما خاف من كلام إيزابل ومضى لأجل نفسه، وحدث هذا أيضًا مع سليمان ومع أيوب، ومع بولس بعد رجوعه إلى أورشليم حين أخذ الرجال وتطهر معهم ودخل الهيكل (أع21: 26).
أيها الأحباء: لا ننسى أنها هفوات الفضيلة من رجل عظيم شريف القصد، لكن ليتنا نتعلم.
شنودة راسم

شنوده راسم