-2 عُرْفَة
في الإشارة المختصرة عن عُرْفَة نرى الحالة المحزنة لمن يعترف حسنًا لكنه يفتقر إلى أية علاقة حيوية بالله وبشعبه.
إنه أمر خطير أن تجد إلى أي مدى يمكن للطبيعة أن تقدم اعترافًا واضحًا، لكنه كما حذرنا الرسول بولس أنه في الأيام الأخيرة سيكون هناك الكثيرون ممن «لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى وَلَكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا» (2تي3: 5).
إننا نرى صورة التقوى بكل وضوح في عُرْفَة التي ربطت نفسها بنُعْمِي في البداية كمؤمنة حقيقية؛ فنقرأ أن كلاً من راعوث وعُرْفَة كانتا «مَعَهَا» وأيضًا «سِرْنَ فِي الطَّرِيقِ لِلرُّجُوعِ إِلَى أَرْضِ يَهُوذَا» (ع7). فيبدو لنا وكأن عرفة قد قطعت كل صلة بحياتها الماضية قاصدة أرض عمانوئيل.
ثم يأتي الاختبار: ها فرصة مواتية لعرفة لترجع إذ قالت نُعْمِي لِكَنَّتَيْهَا: «اذْهَبَا ارْجِعَا كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِ أُمِّهَا» (ع8). وكانت عُرْفَة تتمتع بقدر كبير من المشاعر الطبيعية الرقيقة، لأننا نقرأ أنهن «رَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ وَبَكَيْنَ أَيْضًا» (ع14). وبالطبع بدا وكأن عُرْفَة ستجتاز الامتحان، لأنها بدت وكأنها قد اتخذت قرارًا حاسمًا بأن توقع قرعتها مع نُعْمِي وشعب الله لذلك اشتركت مع راعوث في القول «إِنَّنَا نَرْجِعُ مَعَكِ إِلَى شَعْبِكِ»، وبالإضافة إلى ذلك هي لا تفتقر إلى المشاعر الطبيعية لأننا نقرأ «فَقَبَّلَتْ عُرْفَةُ حَمَاتَهَا» (ع9، 10، 14).
وبالرغم من ارتباطها بنُعْمِي، وبالرغم من دموعها وكلماتها الطيبة وقبلاتها، إلا أنها تحوَّلت عن نُعْمِي وإله نُعْمِي وأرض البركة، وعادت أدراجها إلى شعبها وآلهتها وأرضها، حتى إننا لا نعود نسمع عنها أيضًا. لقد كان قلبها مرتبطًا بأرض ميلادها، فقدمت اعترافًا حسنًا في مظهره، لكنه اعتراف فقط. وكانت لها صورة التقوى لكنها افتقرت إلى قوتها؛ أي الإيمان البسيط بالله.
-3 رَاعُوث:
في تناقض لافت للنظر مع عُرْفَة تُستعرض أمامنا قصة رَاعُوث التي أصبحت شاهدة لنعمة الله. لقد تركت أرض موآب كعُرْفَة، وربطت نفسها بنُعْمِى، وهى أيضًا أعطت اعترافًا صحيحًا، وتكلَّمت بكلمات جميلة كذلك، وتحركت عواطفها بعمق مثل عُرْفَة، وأجهشت بالبكاء. ولكن كان عند راعوث ما هو أكثر من ذلك، وفى تناقض تام مع عُرْفَة، أظهرت كل العلامات المُصاحبة للخلاص؛ وهي الإيمان والرجاء والمحبة. ونحن نذكر أنه في جزء من الرسالة إلى العبرانيين يُحذّرنا الرسول من أن الَّذِينَ اسْتُنِيرُوا مَرَّةً، وَذَاقُوا البركات السَّمَاوِيَّةَ، وشاركوا في المميزات الخارجية التى للدائرة المسيحية التى يسكن فيها الروح القدس، هؤلاء إذا ارتدوا، برهنوا على أنهم لم يتمتعوا بعلاقة حيوية مع المسيح. لكنه يقول، محدثًا أولئك الذين يكتب إليهم «وَلَكِنَّنَا قَدْ تَيَقَّنَّا مِنْ جِهَتِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ أُمُوراً أَفْضَلَ، وَمُخْتَصَّةً بِالْخَلاَصِ»، ثم يقدِّم ثلاثة من هذه الأمور "الْمَحَبَّةِ" و"الرَّجَاء" و"الإِيمَانِ" (عب6: 9-12). وبكل روعة تتميز راعوث بهذه الأمور الثلاثة.
مع عرفة كان هناك فقط الاعتراف الخارجي للمحبة، فأمكنها أن تُقبِّل نُعْمِي ثم تتركها، مثلما حدث ليهوذا في وقت متأخر أنه قبَّل المسيح ثم أسلَمهُ. أما راعوث فقد تميَّزت بالمحبة الحقيقية المتفانية. فلا يُقال عنها إنها قبَّلت نُعْمِي، ولكن بالرغم من عدم وجود تعبير المحبة الخارجي، كانت تحمل المحبة الحقيقية، فنقرأ «فَقَبَّلَتْ عُرْفَةُ حَمَاتَهَا، وَأَمَّا رَاعُوثُ فَلَصِقَتْ بِهَا» (ع14). فالمحبة عندما تكون حقيقية لا تتخلى عن غرضها، ويجب أن تكون في شركة مع مَنْ تُحبه، ولذلك تضيف راعوث لنُعْمِي «لاَ تُلِحِّي عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَكِ وَأَرْجِعَ عَنْكِ ... حَيْثُمَا مُتِّ أَمُوتُ وَهُنَاكَ أَنْدَفِنُ ... إِنَّمَا الْمَوْتُ يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكِ» (ع16، 17).
وبالإضافة إلى ذلك فإن إيمانها تساوى مع عواطفها. وفي قوة إيمانها تغلَّبت على جاذبية أرض ميلادها وبيت أمها وشعبها وآلهتها، وقَبِلت طريق السياحة والترحال، فقالت: «حَيْثُمَا ذَهَبْتِ أَذْهَبُ»، كما احتضنت نصيبها كالغريبة، دون أن تعرف لها بيتًا محددًا حيث تقول: «حَيْثُمَا بِتِّ أَبِيتُ»، مُقرنةً نفسها مع شعب الله «شَعْبُكِ شَعْبِي»، وفوق الكل وضعت ثقتها في الله الحي الحقيقي، إذ تُضيف: «إِلَهُكِ إِلَهِي». والموت لا يُمكن أن يُرجِعها إلى موآب فقالت: «حَيْثُمَا مُتِّ أَمُوتُ وَهُنَاكَ أَنْدَفِنُ». إنها في الحياة وفي الموت وحَّدت نفسها تمامًا مع نُعْمِي، فصار شعب نُعْمِي شعبها، وإله نُعْمِي إلهها. مع أنه لم يكن أمامها في ذلك الوقت غير أرملة متقدمة في الأيام ومنكسرة. لقد ألقت نصيبها مع نُعْمِي في ترملها وفي تغربها وفي فقرها.
وأخيرًا تميَّزت بالرجاء لأننا نقرأ أن نُعْمِي «رَأَتْ أَنَّهَا مُشَدِّدَةٌ عَلَى الذَّهَابِ مَعَهَا»، وكأنها في نور العالم الآخر زهدت بالعالم الحاضر.
واختيار راعوث هذا في نظر الإنسان العالمي هو حماقة شديدة. فأن تترك راحة موآب ومسرات بيتها وأهلها وأرض ميلادها، لتتخذ رحلة برية لا تعلم عنها شيئًا، إلى أرض لم ترها من قبل، لترافق أرملة فقيرة مكسورة الخاطر، لتعيش وسط شعب لا تعرفه، فبالمنطق والعيان يبدو أن هذا جنون وقمة الغباء. كما يبدو أيضًا أنه جنون الاقتران بفقراء وأدنياء وضعفاء هذا العالم، وترك العالم الديني العظيم، للاشتراك في عار المسيح خارج المحلة، لأنه «لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ» (1يو3: 2)، وليس سوى الإيمان الناظر إلى النهاية المجيدة هو الذي يمكنه أن يسلك هذا الطريق. فما كان من صحبة راعوث لامرأة طاعنة في السن ووحيدة وحزينة، سوى البداية لقصة رائعة ستنتهي بزواجها من بوعز جبار البأس والغني. والأروع من ذلك هو أن اسمها سيُحفظ في سلسلة نسب ربنا يسوع. وفى ضوء ما بعد القصة، مَن يا ترى يمكنه القول بأنها أخطأت إذ اختارت قرعتها مع نُعْمِي العجوز؟ فعُرْفَة التى اختارت العالم وراحته، ذهبت مع المجهول، أما راعوث التى أعطت ظهرها للعالم، فقد انتقلت إلى المجد والكرامة.
وموسى في يومه، مع كل امتياز الطبيعة الممنوح له، ومع كل مجد هذا العالم الذي كان أمامه، أصبح مثالاً لامعًا للإيمان. فقد أدار ظهره لمسرات الخطية وكنوز مصر، حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر. إنه ترك العالم وكل أمجاده ليجد نفسه في مشهد البرية، رفيقًا لشعب فقير ومتألم. وفي نظر العالم فإنه غباء مطلق! ولكن الإيمان أمكنه أن يقول بحق: «لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ». ويجب على الإيمان أن ينتظر ستة عشر قرنًا قبل أن يُظهَر ماذا سيكون. وقد سُمح لنا أن نرى ظهور موسى في المجد على جبل التجلي في شركة مع ابن الإنسان. ومنظر المجد هذا سوف لا يخفت. وفي النهاية يدخل موسى إلى أمجاد ملكوته الآتي في شركة مع ملك الملوك، لكي يُظهَر أن أمجاد هذا العالم التي رفضها، إنما كانت صغيرة بالفعل إذا قُورنت بثقل المجد الذي اكتسبه.
كذلك في يومنا هذا فإن طريق الإيمان يبدو في نظر العالم قمة الغباء. أن ترفض مجد العالم وتوّحد نفسك مع شعب الله الفقير والمحتقر، وأن تخرج خارج المحلة حاملاً عاره، فهذا يُعتبر للمنطق الإنساني والنظرة الطبيعية أنه جهالة. ولكن الإيمان يُجيب «لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ». وحكم الإيمان أن «خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا» (2كو4: 17)، وسيكون للإيمان مكافأته المجيدة. وعندما ينفجر نهار المجد، ويتغير الإيمان إلى العيان، واليوم العظيم لعُرس الخروف يأتي، فإن هؤلاء القديسين الفقراء والمحتقرين سوف يُظهَرون معه، ويكونون مثله، كالعروس امرأة الخروف.
وفضلاً عن ذلك، فالأشياء التي ترافق الخلاص؛ الإيمان والمحبة والرجاء، عند ممارستها فإنها تُنتج غرضًا في القلب. هكذا كان الأمر مع راعوث، فإنها لم تحسب المدينة التي تركتها، ولم تتأسف باطلاً عليها، بل مع نُعْمِي «ذَهَبَتَا كِلْتَاهُمَا حَتَّى دَخَلَتَا بَيْتَ لَحْمٍ» (ع19). إنه حسن لنا جدًّا إن كنا ننشط بالإيمان والمحبة والرجاء، وننسى الأمور خلفنا، لنبلغ إلى الأشياء التي أمامنا، ونتتبع الغرض «لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (في3: 14).
هاملتون سميث