«يُغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: قَدْ أَخْطَأْتُ، وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ» (أى٣٣: ٢٧)
لا يوجد سفر مليء بالأحزان كسفر أيوب. ولا يوجد شخص ميزه الحزن وانكسار القلب كأيوب. وإننا نفهم شيئًا عن عمق أحزان أيوب من بداية حديثه مع أصحابه (ص٣)، حيث رفض وكَرِهَ يوم ميلاده (أي٣: ٣-١٩)، وطلب ورغب يوم مماته (أى٣: ٢٠-٢٦)، كره الليل الذي وُلد فيه، وتمنى أن يخلو من الهتاف وصوت الفرح (ع٧)، وطلب يوم الممات وفرح به، فهو واحد من المسرورين بالموت، والمُبتهِجين بالوصول للقبر (ع٢٢).
وبطول السفر تسبب أصحابه في المزيد من الأحزان، من خلال محاجتهم معه. ولا عجب أن وصفهم أيوب بأنهم «أَطِبَّاءُ بَطَّالُونَ كُلُّكُمْ» (أي١٣: ٤)، وأيضًا «مُعَزُّونَ مُتْعِبُونَ كُلُّكُمْ» (أي١٦: ٢).
ولكن بنهاية السفر، وبالتحديد في حديث “أَلِيهُو بْنُ بَرَخْئِيلَ الْبُوزِيُّ” نجد أربعة مصادر للأفراح في سفر الأحزان هذا. وكم يحتاج كل متألم أن يقف أمام هذه الينابيع الأربعة، إذا كان يبغي الفرح في عمق الضيق والتجربة.
المصدر الأول للفرح: الفداء ونتائجه (أي ٣٣: ٢٣-٢٨)
إن حقيقة فداء الرب لنا كافية لأن تملأ قلوبنا بالمسرة والفرح، يكفي أن نقرأ هذه الكلمات الرائعة «يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً» (أي٣٣: ٢٤).
وفي عمق تجربة أيوب كانت أصابع الله توجهه لفهم هذه الحقيقة الثمينة والمرتبطة بالفداء وخلفيته، وبلا شك أنه عندما تدرك النفس هذا الأمر لا بد أن تمتلئ بالفرح، فتختبر قول الكتاب: «يُعَايِنُ وَجْهَهُ بِهُتَافٍ، فَيَرُدُّ عَلَى الإِنْسَانِ بِرَّهُ. يُغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: قَدْ أَخْطَأْتُ وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيمَ وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ» (أي ٣٣: ٢٦، ٢٧).
عزيزي المتألم إذا أردت أن تُغَنِّي في عمق أحزانك وآلامك، انظر إلى صليب المسيح، وتأمل عمل الفداء الذي تم لأجلك هناك.
المصدر الثاني للفرح: الصلاة وانتظار الرب (أي٣٥: ٩، ١٠)
في سياق حديث “أَلِيهُو” عن إدانة أيوب للرب، واجه “أَلِيهُو” أيوب بفكرة أنه اتهم الله بأنه لا يلتفت إلى ظلم المظلومين. فقال لأيوب: «مِنْ كَثْرَةِ الْمَظَالِمِ يَصْرُخُونَ. يَسْتَغِيثُونَ مِنْ ذِرَاعِ الأَعِزَّاءِ» (أي٣٥: ٩). والحقيقة ليس أن الله لا يبالي بأولئك المظلومين، بل إنهم هم الذين لم يطلبوا الله، ولم يوكلوه في قضيتهم. ويُكمِل “أَلِيهُو” حديثه بالقول «وَلَمْ يَقُولُوا: أَيْنَ اللهُ صَانِعِي، مُؤْتِي الأَغَانِيِّ فِي اللَّيْلِ؟» (ع١٠). وكأنهم لم يتعلموا الاتكال على الرب، والصلاة لهذا الإله الذي هو «مُؤْتِي الأَغَانِيِّ فِي اللَّيْلِ». وفي بقية الحديث شجع “أَلِيهُو” أيوب على الصلاة وانتظار الرب، حيث يقول: «فَإِذَا قُلْتَ إِنَّكَ لَسْتَ تَرَاهُ، فَالدَّعْوَى قُدَّامَهُ فَاصْبِرْ لَهُ» (ع١٤). وعلينا أن نعرف أننا نستطيع أن نتمتع بالأفراح في دجى الليل، إذا ارتمينا على الله، وانتظرناه أكثر من المراقبين الصبح.
المصدر الثالث للفرح: التأمل في عظمة الله (أي٣٨)
تكلم الرب في حديث مطول مع أيوب عن عظمته وقدرته وإبداعه في خليقته، وهذا الحديث امتد من أصحاح ٣٨ حتى أصحاح ٤١. وفي بداية هذا الحديث سأل الله أيوب أين كان هو عندما أسس الأرض؟ عندما كان إبداع الله كالخالق كافيًا أن ينشئ بهجة وفرح في كل ملائكة السماء، فوصف الرب توقيت انتهاء الخالق من خليقته بهذا القول: «عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟» (أي٣٨: ٧). إن كانت الخليقة تجيب عن عظمة الخالق، فبلا شك أن التأمل فيها، والسباحة في أسرارها، لا بد أن تنشئ سرورًا وبهجة في قلوب البشر، مثلما أنشأت هتافًا وسرورًا في جميع ملائكة العلي.
المصدر الرابع للفرح: الخلاص من التجربة (أي٤٢)
لا عجب أن يكون الفرح الأخير في هذا السفر هو الفرح الناتج عن رد سبي أيوب، وعودة كل شيء له. فبالارتباط بنهاية التجربة لا بد أن تأتي التعزية والبهجة والبركة «فَجَاءَ إِلَيْهِ كُلُّ إِخْوَتِهِ وَكُلُّ أَخَوَاتِهِ وَكُلُّ مَعَارِفِهِ مِنْ قَبْلُ، وَأَكَلُوا مَعَهُ خُبْزًا فِي بَيْتِهِ، وَرَثُوا لَهُ وَعَزُّوهُ عَنْ كُلِّ الشَّرِّ الَّذِي جَلَبَهُ الرَّبُّ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ كُلٌّ مِنْهُمْ قَسِيطَةً وَاحِدَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ قُرْطًا مِنْ ذَهَبٍ» (أي٤٢: ١١). في هذا الفصل نقرأ عما صنعه أصدقاء أيوب، وما صنعه أيوب لهم، وعما صنعه الرب لأيوب، وما صنعه إخوة أيوب ومعارفه معه.
فأصدقاء أيوب قدموا محرقات لأجل أنفسهم لأنهم كانوا مُخطئين في كلامهم الذي نسبوه لله خلال حديثهم مع أيوب (ع٨). وما صنعه أيوب هو أنه صلى لأجل أصدقائه، ومن المؤكد أنه قبل أن يُصلى لأجلهم، كان قد غفر لهم تجريحهم وإساءاتهم له (ع١٠). وما صنعه الرب هو أنه رفع وجه أيوب ورد سبيه، وزاد لأيوب ضعفًا وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه (ع١٠، ١٢). وما صنعه إخوة أيوب ومعارفه هو أنهم أكلوا معه خبزًا وعزوه، ورثوا له، أي شعروا بثقل التجربة التي عَبَر فيها أيوب، بل وأعطوه عطايا. وبلا شك أن جو الأفراح هو الذي ميَّز لقاء أيوب مع أقاربه (ع١١).