ربما لا يكون سفر إرميا هو أول الأسفار التي تتبادر إلى الذهن عندما نتكلَّم عن موضوع التأديب، إلا أن التأديب هو أحد الموضوعات المركزية في هذا السفر. وفى هذا المقال نحن بصدد التركيز على سبعة أعمال رمزية كان على إرميا القيام بها، وكل منها يُعلّمنا وجهة هامة للتأديب، ورسالة ضرورية لنا كمؤمنين اليوم.
الخلفية التاريخية
لقد تنبأ إرميا وقت سني أفول مملكة يهوذا؛ على مدار الأربعين سنة الأخيرة، بدءًا من السنة الثالثة عشر من مُلْك يُوشِيَّا (٦٢٩ق. م)، وكان عليه أن يُثبت حالة الشعب المتردية، حتى وهم تحت حكم الملك التقى يُوشِيَّا (إر٣: ٦). ثم كان عليه أن يواجه الملوك الأشرار يَهُوآحَاز ويَهُويَاقِيم ويَهُويَاكِين وصِدْقِيَّا. وكان عليه أن يشهد بداية “أزمنة الأمم” (لوقا٢١: ٢٤)، تحت حكم نَبُوخَذْنَصَّر مَلِك بابل، وموجات السبي الثلاث التي توالت (٦٠٦ق.م؛ ٥٩٩ق.م؛ ٥٨٨ ق.م)، والتي كان آخرها أيام حكم صِدْقِيَّا، وانتهت بخراب أورشليم التام.
وعلى هذه الخلفية المأساوية دُعيَّ إرميا ليُقدِّم رسالة غير مرغوب فيها: وهي أن ملك بابل سيأتي؛ ولا فائدة من محاولة مقاومة جيوشه أو حتى الهرب منها. وما هو السبب؟ لقد قرر الله أن يؤدب شعبه من أجل خطاياهم، وأما أفضل ما كان يُمكنهم فعله هو قبول ذلك التأديب، وأن يثقوا فى أنهم إذا تابوا، فهو فى نعمته سيقودهم إلى البركة.
أولاً: الفخاري والطين
واحدة من الأعمال التي كان على إرميا أن يُتممها، لكي يُوَضِّح رسالته، أن يذهب إلى بيت الفخاري ويراقبه وهو يصنع وعاءً (إر١٨: ١-١٠). لقد شهد إرميا كيف صنع الفخاري وعاءً على الدولاب وكيف «فَسَدَ الْوِعَاءُ»، فاستخدم الفخاري نفس الطين ليصنع منه وعاءً آخر. ما هو الدرس المقصود لإرميا أن يتعلمه من هذا؟ الله بنفسه يجيب عن هذا التساؤل:
«تَارَةً أَتَكَلَّمُ عَلَى أُمَّةٍ وَعَلَى مَمْلَكَةٍ بِالْقَلْعِ وَالْهَدْمِ وَالإِهْلاَكِ، فَتَرْجعُ تِلْكَ الأُمَّةُ الَّتِي تَكَلَّمْتُ عَلَيْهَا عَنْ شَرِّهَا، فَأَنْدَمُ عَنِ الشَّرِّ الَّذِي قَصَدْتُ أَنْ أَصْنَعَهُ بِهَا. وَتَارَةً أَتَكَلَّمُ عَلَى أُمَّةٍ وَعَلَى مَمْلَكَةٍ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، فَتَفْعَلُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيَّ، فَلاَ تَسْمَعُ لِصَوْتِي، فَأَنْدَمُ عَنِ الْخَيْرِ الَّذِي قُلْتُ إِنِّي أُحْسِنُ إِلَيْهَا بِهِ» (إر١٨: ٧-١٠).
كانت الرسالة واضحة: أنه ما زال هناك وقت ليهوذا ليتوب. ولو حدث هذا “لندم الله”، وإلا احتاج أن يُعاقبهم ويؤدبهم. والكلمة المقدسة تعلن أن «لَيْسَ اللهُ إِنْسَانًا... فَيَنْدَمَ» (عد٢٣: ١٩)، لكنه يندم عندما يرجع إليه الإنسان ويتوب.
لقد ساءت حالة إسرائيل وسادت الوثنية. لقد فسد الوعاء لكن لم يزل الطين طري بعد. كان هناك وقت للرجوع إلى الرب.
ثانيًا: الوعاء المكسور
فى الأصحاح اللاحق (إر١٩)، كان على إرميا أن يقوم بمشهد رمزي آخر. كانت مهمته هذه المرة تتضمن شراء “إِبْرِيقَ فَخَّارِيٍّ مِنْ خَزَفٍ”، ويأخذ معه من شيوخ الشعب ومن شيوخ الكهنة، ويذهب إلى “وَادِي ابْنِ هِنُّومَ”. وكان هذا المكان البغيض معروفًا بعبادة الأصنام، التي تضمنت إجازة الأولاد في النار، وتقديمهم ذبائح لِمُولَكَ (٢مل٢٣: ١٠). وكان على إرميا النطق بالقضاء هناك: «هأَنَذَا جَالِبٌ عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ شَرًّا، كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِهِ تَطِنُّ أُذْنَاهُ» (إر١٩: ٣). ثم كان عليه أن يكسر الإبريق: «ثُمَّ تَكْسِرُ الإِبْرِيقَ أَمَامَ أَعْيُنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَسِيرُونَ مَعَكَ، وَتَقُولُ لَهُمْ: هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هكَذَا أَكْسِرُ هذَا الشَّعْبَ وَهذِهِ الْمَدِينَةَ كَمَا يُكْسَرُ وِعَاءُ الْفَخَّارِيِّ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ جَبْرُهُ بَعْدُ» (إر١٩: ١٠، ١١).
فى هذه المرة لم يكن الوعاء من طين فيمكن إعادة تشكيله مرة أخرى، بل إبريق من خزف قد تقسى فى النار، لا يمكن سوى كسره فقط. إن الرسالة هنا واضحة لكنها خطيرة: هناك وقت يمكن أن يكون فيه التأديب للمنفعة، ولكن هناك وقت يكون هذا متأخرًا جدًا. وعلينا إذًا أن نحذر من قساوة القلب (عب٤: ٧).
نبويًا، يعلن الله بهذه الطريقة أنه سيدين إسرائيل؛ إبريق الخزف، لكنه سيكوّن شعبًا أيضًا؛ “يبنيه” و“يزرعه” ثانيةً (البقية اليهودية: انظر إش١٠: ٢٠-٢٢؛ إر٢٣: ٣؛ ٣١: ٧؛ رو٩: ٢٧).
لكل من الحادثتين الرمزيتين؛ وعاء الطين وإبريق الخزف، تطبيق خطير على غير المؤمنين أيضًا. هناك وقت مقبول فيه يعطى الله فرصة للتوبة، لكن عندما يتقسى القلب، أو يتدخل الموت، يكون الوقت متأخرًا جدًا، والنتيجة الحتمية لذلك هو تكسير الإناء الخزفي «كَمَا يُكْسَرُ وِعَاءُ الْفَخَّارِيِّ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ جَبْرُهُ بَعْدُ» (إر١٩: ١١). إلا أن ذات المبدأ ينطبق على التأديب - هذه هي الفكرة الأولية، كما هو واضح هنا.
ثالثًا: سلتا التين
فى الأصحاح ٢٤، رأى إرميا سلتا تين بعد السبي الثاني. تم السبي الأول أيام يَهُويَاقِيمَ. الآن، وبعد حوالي عشر سنوات «سَبَى نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ يَكُنْيَا بْنَ يَهُويَاقِيمَ مَلِكَ يَهُوذَا وَرُؤَسَاءَ يَهُوذَا وَالنَّجَّارِينَ وَالْحَدَّادِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَأَتَى بِهِمْ إِلَى بَابِلَ» (إر٢٤: ١) وكان صِدْقِيَّا ملكًا. فى هذا الوقت رأى إرميا سلتي التين:
«فِي السَّلَّةِ الْوَاحِدَةِ تِينٌ جَيِّدٌ جِدًّا مِثْلُ التِّينِ الْبَاكُورِيِّ، وَفِي السَّلَّةِ الأُخْرَى تِينٌ رَدِيءٌ جِدًّا لاَ يُؤْكَلُ مِنْ رَدَاءَتِهِ» (ع٢). ماذا يعنى هذا؟ مرة أخرى يمدنا الله بالجواب. بالنسبة للتين الجَيِّد يقول:
«كَهذَا التِّينِ الْجَيِّدِ هكَذَا أَنْظُرُ إِلَى سَبْيِ يَهُوذَا الَّذِي أَرْسَلْتُهُ مِنْ هذَا الْمَوْضِعِ إِلَى أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِلْخَيْرِ. وَأَجْعَلُ عَيْنَيَّ عَلَيْهِمْ لِلْخَيْرِ، وَأُرْجِعُهُمْ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ، وَأَبْنِيهِمْ وَلاَ أَهْدِمُهُمْ، وَأَغْرِسُهُمْ وَلاَ أَقْلَعُهُمْ» (ع٥، ٦).
أما التين الرديء - من الناحية الأخرى – فيُشير إلى صِدْقِيَّا مَلِكَ يَهُوذَا وَرُؤَسَاءَهُ، ومن يسيرون على دربه:
«وَكَالتِّينِ الرَّدِيءِ الَّذِي لاَ يُؤْكَلُ مِنْ رَدَاءَتِهِ، هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ، هَكَذَا أَجْعَلُ صِدْقِيَّا مَلِكَ يَهُوذَا وَرُؤَسَاءَهُ وَبَقِيَّةَ أُورُشَلِيمَ الْبَاقِيَةَ فِي هَذِهِ الأَرْضِ وَالسَّاكِنَةَ فِي أَرْضِ مِصْرَ» (ع٨).
كيف يكون هذا؟ لعلنا نكون قد اعتقدنا أن الذين بقوا فى أورشليم هم اليهود الأفضل، بينما الذين سبوا إلى بابل هم الأردأ. لماذا يقول الله عكس ذلك؟ لأن أولئك الذين أرادوا البقاء فى أورشليم رفضوا قبول تأديب الرب. لقد اعتقدوا أنه بإمكانهم تجنبه، سواء بالبقاء فى أورشليم للحرب أو بالهروب إلى مصر. نحتاج أن نضع فى اعتبارنا أنه منذ السبي الأول فى ٦٠٦ ق. م. سلم الله الحكم فى العالم إلى نَبُوخَذْنَصَّر (إر٢٨: ١٤؛ دا٢: ٣٧، ٣٨؛ ٥: ١٨، ١٩)، وكان المسار الوحيد الصحيح للتصرف هو الاعتراف بهذه الحقيقة، والتوبة عن الخطايا التي أدت إليها.
لم يكن هناك تين متوسط الحال؛ إما كان “جيدًا جدًا” أو “رديئًا جدًا”. وهذا دليل على أن الله لا يقبل الأرضية المتوسطة ولا الوضع الحيادي. التين الجيد هم من قبلوا التأديب واتضعوا تحته، وكان الله ليباركهم ويغير قلوبهم بالتمام: ”وَأُعْطِيهِمْ قَلْبًا لِيَعْرِفُونِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ، فَيَكُونُوا لِي شَعْبًا وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، لأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيَّ بِكُلِّ قَلْبِهِمْ» (إر٢٤: ٧).
وحقًا يُقال: “في يوم الخراب يُميز الإيمان تأديب الله، وينحني له خاضعًا. أما عدم الإيمان فيظل يقاومه”.
رابعًا: الرُبُط والأَنْيَار
لقد تدعمت هذه الرسالة وتبينت بالعمل الرمزي التالي، عندما كان على إرميا أن يأخذ “رُبُطًا وَأَنْيَارًا” ويضعها على عُنِقِه (إر٢٧: ٢). فأُعطيَّ لكل من صِدْقِيَّا وملوك الشعوب القريبة (ع٣) توضيحًا جليًا: «وَيَكُونُ أَنَّ الأُمَّةَ أَوِ الْمَمْلَكَةَ الَّتِي لاَ تَخْدِمُ نَبُوخَذْنَصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ، وَالَّتِي لاَ تَجْعَلُ عُنُقَهَا تَحْتَ نِيرِ مَلِكِ بَابِلَ، إِنِّي أُعَاقِبُ تِلْكَ الأُمَّةَ بِالسَّيْفِ وَالْجُوعِ وَالْوَبَإِ، يَقُولُ الرَّبُّ، حَتَّى أُفْنِيَهَا بِيَدِهِ» (ع٨).
لم تنتشر هذه الرسالة، بل كانت المقاومة حاضرة. فحَنَنِيَّا، واحد من الأنبياء الكذبة الكثيرين الذين ابتُليَّ بهم شعب الله في تلك الأيام «أَخَذَ حَنَنِيَّا النَّبِيُّ النِّيرَ عَنْ عُنُقِ إِرْمِيَا النَّبِيِّ وَكَسَرَهُ. وَتَكَلَّمَ حَنَنِيَّا أَمَامَ كُلِّ الشَّعْبِ قَائِلاً: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هكَذَا أَكْسِرُ نِيرَ نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ فِي سَنَتَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ عَنْ عُنُقِ كُلِّ الشُّعُوبِ» (إر٢٨: ١٠، ١١). لم يأخذ إرميا على عاتقه مهمة الرد على هذا الكذب، بل نقرأ ببساطة: «وَانْطَلَقَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ فِي سَبِيلِهِ». لكن الله تكلَّم قائلاً: «قَدْ كَسَرْتَ أَنْيَارَ الْخَشَبِ وَعَمِلْتَ عِوَضًا عَنْهَا أَنْيَارًا مِنْ حَدِيدٍ... قَدْ جَعَلْتُ نِيرًا مِنْ حَدِيدٍ عَلَى عُنُقِ كُلِّ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ لِيَخْدِمُوا نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ، فَيَخْدِمُونَهُ» (ع١٣، ١٤). وقُضيَّ على حَنَنِيَّا النَّبِيّ الكذَّاب بسبب مقاومته «فَمَاتَ حَنَنِيَّا النَّبِيُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ» (ع١٧).
نحن نقع في خطأين عند التعرض للتأديب: أولهما أن “نخور” تحته، والثاني أن “نحتقره” (عب١٢: ٥). لقد احتقره حَنَنِيَّا ومعه كثيرون. أما المسار الصحيح الوحيد هو أن نتدرب به. هذه هي رسالة “الرُبُط والأَنْيَار”. وعندما يتعامل الله معنا بالتأديب ونتدرب نحن به، حينئذ نُعْطَى ثمر بِرٍّ للسلام (عب١٢: ١١).
خامسًا: شراء الحقل
فى الأصحاح ٣٢ أُوكل لإرميا مهمة تبدو الأكثر لا منطقية من جميع الأعمال التي كُلِّفَ بها. كانت السنة العاشرة لملك صِدْقِيَّا، قبيل الخراب النهائي لأورشليم ببضعة أشهر، وكذا قبيل نهاية مملكة يهوذا.
كانت أورشليم محاصرة وجيوش الكلدانيين مرابطة حول المدينة. وكان إرميا يعلم ذلك: «هَا الْمَتَارِسُ! قَدْ أَتَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَأْخُذُوهَا، وَقَدْ دُفِعَتِ الْمَدِينَةُ لِيَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَهَا» (ع٢٤). وما يزيد الأمر سوءًا، وغير معقولية، هو أن إرميا كان سجينًا (ع٢)؛ سجينًا في مدينة محاصرة!
فى هذه الحالة الرهيبة، قال الرب لإرميا إن “حَنَمْئِيلُ بْنُ شَلُّومَ”، ابن عمه، سيأتي إليه ويعرض عليه قطعة أرض للبيع (ع٦، ٧). ما أسوأ هذا التوقيت للاستثمار في الأرض. كان إرميا يعلم نتيجة تلك الحرب أن الأعداء سينتصرون، وسيأخذون مدينة يهوذا وأرضه. فما النفع من شراء قطعة أرض؟ علينا ألا نتخيل أنها كانت مسألة سهلة عليه ليفعلها (اقرأ صلاته في ع ١٧-٢٥). لكن إرميا أطاع.
كان في كل هذا رسالة جميلة للنعمة. الله سوف يضع حدًا لسلطان الأمم. وسيأتي وقت للبركة. يجب أن تُشترى الأرض وتُباع ثانيةً. لقد تحدث إرميا عن العهد الجديد (إر٣١: ٣١-٤٠)، وكيف سيتعامل الله بالنعمة مع شعبه في يوم قادم، تبعًا لتوبة بقية من الشعب. وها الله يختبره بأن جعله يشتري الأرض. لو كان إرميا يصدق نبوته كان يجب أن يتممها، “ويضع ماله حيث تكلم فمه”، وقد فعل.
بهذه الطريقة، كان لمهمة شراء الأرض - التي تبدو غير منطقية - مدلول بديع:
«هأَنَذَا أَجْمَعُهُمْ مِنْ كُلِّ الأَرَاضِي الَّتِي طَرَدْتُهُمْ إِلَيْهَا بِغَضَبِي وَغَيْظِي وَبِسُخْطٍ عَظِيمٍ، وَأَرُدُّهُمْ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ، وَأُسَكِّنُهُمْ آمِنِينَ. وَيَكُونُونَ لِي شَعْبًا وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا. وَأُعْطِيهِمْ قَلْبًا وَاحِدًا وَطَرِيقًا وَاحِدًا لِيَخَافُونِي كُلَّ الأَيَّامِ، لِخَيْرِهِمْ وَخَيْرِ أَوْلاَدِهِمْ بَعْدَهُمْ. وَأَقْطَعُ لَهُمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا أَنِّي لاَ أَرْجِعُ عَنْهُمْ لأُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَأَجْعَلُ مَخَافَتِي فِي قُلُوبِهِمْ فَلاَ يَحِيدُونَ عَنِّي. وَأَفْرَحُ بِهِمْ لأُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَأَغْرِسَهُمْ فِي هذِهِ الأَرْضِ بِالأَمَانَةِ بِكُلِّ قَلْبِي وَبِكُلِّ نَفْسِي. لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: كَمَا جَلَبْتُ عَلَى هذَا الشَّعْبِ كُلَّ هذَا الشَّرِّ الْعَظِيمِ، هكَذَا أَجْلِبُ أَنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ الْخَيْرِ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ إِلَيْهِمْ. فَتُشْتَرَى الْحُقُولُ فِي هذِهِ الأَرْضِ الَّتِي تَقُولُونَ إِنَّهَا خَرِبَةٌ بِلاَ إِنْسَانٍ وَبِلاَ حَيَوَانٍ، وَقَدْ دُفِعَتْ لِيَدِ الْكَلْدَانِيِّينَ. يَشْتَرُونَ الْحُقُولَ بِفِضَّةٍ، وَيَكْتُبُونَ ذلِكَ فِي صُكُوكٍ، وَيَخْتِمُونَ وَيُشْهِدُونَ شُهُودًا فِي أَرْضِ بِنْيَامِينَ وَحَوَالَيْ أُورُشَلِيمَ، وَفِي مُدُنِ يَهُوذَا وَمُدُنِ الْجَبَلِ وَمُدُنِ السَّهْلِ وَمُدُنِ الْجَنُوبِ، لأَنِّي أَرُدُّ سَبْيَهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ» (٣٢: ٣٧-٤٤).
إن هذا الحدث المميز يوضح واحد من أروع جوانب التأديب: النعمة. فبالرغم من صدق طرق الله التأديبية، «إِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا» (غل٦: ٧)، لكن حتى في القضاء والتأديب يتعامل الله بالنعمة. وعلى الرغم من وجود نتائج حتمية للفشل (مثل سني السبي السبعين)، لكن تصميم الله هو للبركة.
سادسًا: الحِجَارَة فِي الْمَلْبِنِ
بعد خراب أورشليم؛ المناسبة التي من أجلها كتب إرميا المراثي، انتهى الأمر بإرميا أن يكون هو الرجل الوحيد الحر في المدينة. ويا لسخرية الأمر! لقد سبى “نَبُوزَرَادَانُ” البعض، وأمر البعض بالبقاء، وأما إرميا فترك له اختيار إلى أين يذهب (إر٤٠: ٤).
ولقد قرر أولئك الذين قيل لهم أن يمكثوا في المدينة أن يهربوا من نير نَبُوخَذْنَصَّر إلى مصر. وكانت الخلفية لهذا التصرف، هو أن “جَدَلْيَا بْنِ أَخِيقَامَ” الوالي الذي أقامه ملك بابل على الأقلية التي بقيت في أورشليم قد قُتل (إر٤١: ١٦-١٨). في اللحظة الأخيرة، اتضح لهم أنهم لم يسألوا الرب إن كان هذا هو السبيل الذي يريدهم فيه. ولما جاوبهم بالنفي، رفضوا الاستماع إليه (يمكنك قراءة هذه القصة الأسيفة في إرميا٤٢).
ثم في مصر، حيث أُخذ إرميا، وعلى ما يبدو بالقوة، كانت كلمة الرب إليه أيضًا. هذه المرة طُلب منه أن يضع حجارة كبيرة في الملاط المرصوف: «خُذْ بِيَدِكَ حِجَارَةً كَبِيرَةً وَاطْمُرْهَا فِي الْمِلاَطِ، فِي الْمَلْبِنِ الَّذِي عِنْدَ بَابِ بَيْتِ فِرْعَوْنَ فِي تَحْفَنْحِيسَ». وكان عليه أن يفعل ذلك «أَمَامَ رِجَال يَهُودٍ». وأن يقول لهم: «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: هأَنَذَا أُرْسِلُ وَآخُذُ نَبُوخَذْرَاصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ عَبْدِي، وَأَضَعُ كُرْسِيَّهُ فَوْقَ هذِهِ الْحِجَارَةِ الَّتِي طَمَرْتُهَا فَيُبْسِطُ دِيبَاجَهُ عَلَيْهَا. وَيَأْتِي وَيَضْرِبُ أَرْضَ مِصْرَ» (إر٤٣: ٩-١١).
أليست هذه رسالة مدهشة؟ كانت الأحجار لتثبّت جيدًا في الملاط (الطين) المرصوف كشهادة خطيرة على تلك الكلمات. وتحققت نبوة إرميا في وقت لاحق. جاء نَبُوخَذْرَاصَّر وأخذ مصر؛ هو ذات نَبُوخَذْرَاصَّر الذي خافوا منه في أورشليم، فهربوا منه إلى مصر!
إن تأديب الله ليس دائمًا فوريًا، لكنه أبدًا مصمم بإتقان، متناسب وفعال. لو هربنا من التأديب، ستلاحقنا أسبابه التي استوجبته، والنتيجة تكون أسوأ. لو بقي هؤلاء الناس في أورشليم وقبلوا النير البابلي، لعاشوا في بلادهم. لكنهم إذ هربوا إلى مصر، فقد طالهم نبوخذنصر، واستعبدهم هناك، وماتوا هناك (إر٤٢: ٢٢).
سابعًا: السفر المطروح في البحر
أخيرًا نأتي إلى السفر الذي طرح في النهر. يعود بنا إرميا ٥١ فى الزمان إلى السنة الرابعة من حكم صِدْقِيَّا (ع٥٩)، وكان إرميا لم يزل في أورشليم، عندما ذهب صِدْقِيَّا إلى بابل (قبل أن يتمرد على نَبُوخَذْنَصَّر كما هو مسجل في ٢ملوك ٢٤: ٢٠)، وصاحبه إلى هناك “سَرَايَا بْنَ نِيرِيَّا بْنِ مَحْسِيَّا” منسق رحلته.
لقد تسلم إرميا رسالةً من الرب بخصوص بابل وكتب هذه الرسالة في سفر يتضمن كل القضاء الآتي على بابل من قبل الرب؛ الأمة التي اختارها ليؤدب بها شعبه:
«وَقَالَ إِرْمِيَا لِسَرَايَا: إِذَا دَخَلْتَ إِلَى بَابِلَ وَنَظَرْتَ وَقَرَأْتَ كُلَّ هذَا الْكَلاَمِ، فَقُلْ: أَنْتَ يَا رَبُّ قَدْ تَكَلَّمْتَ عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ لِتَقْرِضَهُ حَتَّى لاَ يَكُونَ فِيهِ سَاكِنٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْبَهَائِمِ، بَلْ يَكُونُ خِرَبًا أَبَدِيَّةً. وَيَكُونُ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ قِرَاءَةِ هذَا السِّفْرِ أَنَّكَ تَرْبُطُ بِهِ حَجَرًا وَتَطْرَحُهُ إِلَى وَسْطِ الْفُرَاتِ وَتَقُولُ: هكَذَا تَغْرَقُ بَابِلُ وَلاَ تَقُومُ، مِنَ الشَّرِّ الَّذِي أَنَا جَالِبُهُ عَلَيْهَا وَيَعْيَوْنَ» (إر٥١: ٦١-٦٤).
كان القضاء على بابل نهائيًا «هكَذَا تَغْرَقُ بَابِلُ وَلاَ تَقُومُ». كم كانت معاملات الله مع بابل مختلفة عن معاملاته مع شعبه. لقد أدب شعبه من وجهة رد نفوسهم (أو - بأكثر تحديد - الجزء من الشعب الذي يكون معه التأديب مؤثرًا؛ أي البقية). أما بابل، من الناحية الأخرى، فستنال القضاء النهائي.
من هذا التباين نتعلم سمة هامة للتأديب: فهو ليس مُرتبًا للإهلاك، بل لرد النفس وللبركة (انظر الفقرة الخامسة بعنوان “شراء الحقل”). ربما يجتاز المؤمنون التأديب، لكنهم لن يدانوا مع العالم. والرسول بولس يعلن ذلك تحديدًا بالقول: «لأَنَّنَا لَوْ كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا، وَلكِنْ إِذْ قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا، نُؤَدَّبُ مِنَ الرَّبِّ لِكَيْ لاَ نُدَانَ مَعَ الْعَالَمِ» (١كو١١: ٣١، ٣٢).
كلمة “التأديب” فى سفر إرميا
بالإضافة إلى تلك الأعمال الرمزية واستخدام الله لنَبُوخَذْنَصَّر لتأديب شعبه، يشير إرميا أيضًا إلى الله “مُصحِّحًا” أو “ضاربًا” أو “مُوبِّخًا” – أي مُؤدِّبًا – إياهم. وتُذكر نفس الكلمة العبرية المشيرة إلى ذلك سبع مرات فى السفر: ٢: ١٩؛ ٦: ٨؛ ١٠: ٢٤؛ ٣٠: ١١؛ ٣١: ١٨(مرتان)؛ ٤٦: ٢٨.
ويُعبّر أصحاح ٣٠: ١١ عن ذلك بالقول: «لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأُخَلِّصَكَ. وَإِنْ أَفْنَيْتُ جَمِيعَ الأُمَمِ الَّذِينَ بَدَّدْتُكَ إِلَيْهِمْ، فَأَنْتَ لاَ أُفْنِيكَ، بَلْ أُؤَدِّبُكَ بِالْحَقِّ (but I will correct thee with judgment)، وَلاَ أُبَرِّئُكَ تَبْرِئَةً».
الخلاصة
يعلمنا سفر إرميا العديد من الدروس الأدبية بالارتباط بالتأديب:
- عندما يزيغ قلب الشعب عن الله يتعامل معهم بالتأديب.
- هدف التأديب هو رد النفس والتصحيح الذي يأتي بالتوبة.
- رد الفعل الصحيح تجاه تأديب الله هو قبوله (لا بعدم اكتراث، بل بتعلم الدرس الذي يريد الله توصيله لنا).
- الهروب من التأديب يجعل الأمر أسوأ.
- الخضوع لتأديب الله يأتي بالبركة.
- الله يدين العالم، لكنه يُؤدب شعبه.
- حتى في التأديب يُظهر الله النعمة.