أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2011
جبعة - خواطر في سفر هوشع
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

خواطر في سفر هوشع (10)

إلى مياه الراحةِ، إلى مراعٍ دائمةِ الخضرةِ، بعيدًا عن هَلَعِ خدور الأسود، حيث الحق الذي هو حسب التقوى يسود، يصحبُنا السيد من بالنعمةِ يجود، بدروس الأزمانِ نافعةً، فالأزمان لا تعود، فهيا يا من انتهت إلينا أواخرُ الدهورِ، نحتسي الخلاصاتِ سائغةً، فالسلافُ لنا الآن والختامُ قُصوى الحبور.

قارئي، أُذَكِرُّك أننا في المقالات السابقة، درسنا مقدمةً واسعةً عن هذا السفر، ثم وقفنا أمام أربع تشبيهات للأسباط العشرة ضمن عديدٍ فيه، ثم شرحنا أربعَ آياتٍ عسرةَ الفهمِ، ثم وقفنا وقفةً تأملية وعملية أمام أربع آيات منه، وبدءًا من مقالتنا هذهِ، سنقف أمامَ محطاتٍ مختلفةِ، عبَرَ بها هذا الشعب فى تاريخِهِ، وأظهَرَ فيها أقساطًا وافِرة من دفائن شرور قلبِهِ، بل ومن مستعلنات ووقاحات أفواهِهِ، نعلق على محطةٍ منها:
جِبعة
  ««اِضْرِبُوا بِـالْبُوقِ فِي جِبْعَةَ بِـالْقَرْنِ فِي الرَّامَةِ.  اصْرُخُوا فِي بَيْتِ آوَنَ.  وَرَاءَكَ يَا بِنْيَامِينُ» (هو5: 8).
وليست هذهِ هى المرة الوحيدة، التي تُذكر جِبعةُ بفضائحها في هذا السفر، فنقرأ:
«قَدْ تَوَغَّلُوا، فَسَدُوا كَأَيَّامِ جِبْعَةَ.  سَيَذْكُرُ إِثْمَهُمْ.  سَيُعَاقِبُ خَطَايَاهُمْ» (هو9: 9).  
«مِنْ أَيَّامِ جِبْعَةَ أَخْطَأْتَ يَا إِسْرَائِيلُ.  هُنَاكَ وَقَفُوا.  لَمْ تُدْرِكْهُمْ فِي جِبْعَةَ الْحَرْبُ عَلَى بَنِي الإِثْمِ» (هو10: 9).
من الواضح أن الكلمة المشتركة بين هذه الآيات الثلاث هي: “جِبعةَ” وقبل أن نتكلم عن هذه المحطة بشيءٍ من التفصيل، نستلفتُ نَظَرَكَ إلى بعض التعليقات الهامة على هذه الآيات الثلاث لحُسن فهمِها.  
من المهم جدًا، أن نتذكر أن هوشع هو نبي الأسباط العشرة، وأن الذي فعل الجرائم في جِبعةَ هو بنيامين وهو ليس من الأسباط العشرة بل من السبطين، وهذا نفهمه من قضاة 19: 20 مع أن الأسباط لم تكن قد انقسمت بعدُ آنذاك.  إذًا النبي لا يلوم الأسباط العشرة، على حادثة جِبعةَ على وجه التحديد، بل على اقترافهم ذات الشرور التي حَدَثَت في جِبعةَ وانتشارِها بينهم.  مع هذا الفارق أن بنيامين الذي اقتَرَفَ حادثة جِبعةَ بالفعل، أدركته الحرب ووقع عليه شيء من القضاء وإن كان لم يتب بالفعل، وأما الأسباط العشرة، الذين «فَسَدُوا كَأَيَّامِ جِبْعَةَ»، لم يكن قد أدركهم القضاء بعدُ آن كتابة السفر.  
وبهذا التوضيح، نستطيع أن نفهم ثلاثَ نقاطٍ هامة في معاني الآيات السابق ذكرها:
1- في هوشع9: 9 «قَدْ تَوَغَّلُوا، فَسَدُوا كَأَيَّامِ جِبْعَةَ ...»، فالنبي يقصد أن الأسباط العشرة في فرط فسادهِم، شاكلوا شرور جِبعةَ، مع أنهم ليسوا منها.  ومن هذا نتعلم درسًا هامًا، وهو أننا يمكن أن نكونَ خارج دوائر معينة ولكننا نقترف ذات شرورِها، ولكن في دوائِرنا الخاصة.  فنحن لسنا سكان سدوم، ولكن لنحذر شرورَها، ولسنا سكانَ جِبعةَ ولكن لنحذر فسادَها، ولسنا من «بَابِلُ الْعَظِيمَةُ، أُمُّ الزَّوَانِي وَرَجَاسَاتِ الأَرْضِ» (رؤ17: 5)، فلنحذر من أن نُمارِس مبادئها الفاسدة بعد أن أخذنا مكاننا خارج المحلة. فلنتذكر: «... وَلاَ تَشْتَرِكْ فِي خَطَايَا الآخَرِينَ.  اِحْفَظْ نَفْسَكَ طَاهِرًا» (1تي5: 22)   
2- في هوشع5: 8 «اِضرِبوا بالبوق في جِبعةَ بالقرنِ في الرامةِ. اصرخوا في بيتِ آونَ. وَرَاءَكَ يا بنيامينُ». العبارة معناها: “انفخوا في أبواق الحرب في جِبعةَ والرامة، وأطلقوا صيحةَ القتالِ في بيتِ آون - تَقَدَم يا بنيامين” ومن هذا نفهم أن النبىَّ مع أنه يتكلم عن القضاء الذي كان سيحل بالأسباط العشرة، ولكنه يُنبِّر أن بنيامين المقتَرف الفعلى لجريمة جِبعةَ، سوفَ لا يُعفَى من القضاءِ هو أيضًا، مع أن الزمان طال على الحادثة. فيقول له النبىُّ: «تقدم يا بنيامين»، أي “تقدم لنيل نصيبَكَ من القضاءِ أنت أيضًا”، وهذا يعلمنا أن الربَ الذي نتعامل معه، مع أنه في نعمتِهِ، لا يذكُرُ شر الخطا وينسى كُلَ ما مضى، ولكن قداسته تختزن لنا القضاء إن لم نتب معترفين بشرِنا، فلنتذكَّر: «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمينٌ وعادِلٌ حتى يغفِرَ لنا خطايانا ويطهرنا من كُلِ إثم» (1يو9:1).
3- في هوشع 10: 9 «من أيامِ جِبعةَ أخطأتَ يا إسرائيلُ. هناك وقفوا. لم تدركهم في جِبعةَ الحرب على بَني الإثم». و«بنو الإثم»، هنا يُقصد بهم بنو بليعال من سبط بنيامين، الذين اِقترَفوا جرائِمَ جِبعةَ، و«الحرب على بَني الإثم»، هى التي شنَّها إسرائيل بأسباطه على بنيامين، بموافقةٍ من الرب.  فبالنسبة لبنيامين، مُقترف الجريمة، لقد أدركته الحرب وأضنته، وأما الأسباط العشرة، الذين يخاطبهم هوشع، الذين شاكلوا شرور جِبعةَ فيما بعد. “لم تُدركهم الحرب، التي أدركَت بني الإثم ( بني بنيامين)”.  فكأن النبىّ يُنذرهم، أن القضاء، قاب قوسين أو أدنى من الوقوع. فلنحسب أن: «أناةَ ربِنا خلاصًا» (2بط15:3).
ولكن ما هى جِبعة؟  
جِبعة: اسم عبري معناه “تل”.  وهو اسم لعدة قرى منها:
1- جِبعةُ الله (1صم10: 5)
2- جِبعةُ بنيامين (يش28:18؛ قض10:20؛ 1صم2:13)
3- جِبعةٌ في جبال يهوذا (يش15: 57)
4- جِبعةُ شاول: (1صم10:26؛ 4:11؛ 34:15؛ 6:22؛ 19:23؛ إش29:10).  وهى نفس جِبعةَ بنيامين، وكانت عاصمة مُلك شاول (طبقًا لقاموس الكتاب المقدس).
ومن الآيات التي اقتبسناها من سفر هوشع، نفهم أن النبىَّ يتكلم عن جِبعةَ بنيامين، وما الذي حَدَث في هذه المحطة؟ أُجيبُكَ بكلماتٍ من النص الكتابي، من شأنِها أن تجعل عيون النادمين هاطلةً بل وقلوبَ التائبين داميةً.  وما الخسارة؟ لماذا لا؟ وبالأحرى إذا عرفنا أن «الحزن الذي بحسب مشيئة اللهِ، ينشئ توبةً لخلاصٍ بلا ندامة» (2كو7: 10).  فلقد اجتمعت الجماعةُ كرَجُلٍ واحدٍ من دان إلى بئر سبع وقرروا أن يصعدوا على جِبعةَ بالقرعة ليفعلوا بها «حسب كل القباحة التي فَعَلت بإسرائيل» (قض20: 10) وما هى هذه القباحة؟ أو أقولُ بكلمة أدق: وما هى هذه القبائح؟
1- أليس إلى هذا المكان، مال اللاوي المتغرب من بيت لحم يهوذا مع سريتِهِ، ظنًا منه أن جِبعةَ بنيامين أفضل من مدينة اليبوسيين، فالدارُ دارُنا والأخرى لأعدائنا؟ ولكن أنحن في جِبعةَ أم في سدوم؟
2- أليس في ساحة هذه المدينة دخل اللاوي وظل في ساحتِها، دون أن يضُمَه أحدٌ إلى بيتِهِ، إلا ذلك الرجل الشيخ الآئب من شُغلِهِ من الحقلِ مساءً ؟ فأظهر أهل جِبعة لا مبالاتهِم وبُخل أخلاقِهم وبجاحة نظراتِهم التي طالما غمروا بها الغريب المُسافر مع سريتِهِ، اختزنوا له أشر مخططات قلوبِهم.
3- أليس أمام بيتٍ في هذه المدينة اجتمع بنو بليعال، بغرائز مستعِرَة، ملؤها الشذوذ، وبحناجرَ مُضرَمَةٍ من جهنم فقالوا: «أخرِج الرجل الذي دَخَل بيتَك فنعرِفَه»؟ (قض19: 22).
4- أليس من أمام ذلك البابِ عينِهِ، حمل اللاوي سُريتَه على الحمارِ، جثةً، مع أنها هامدة ولكنها تنطق بفحشاء ودعارة جِبعة، ودخل بها إلى مكانِها وقطعها مع عظامها إلى إثنتي عشرة قِطعة وأرسلها إلى جميع تخوم إسرائيل؟ ولماذا؟ ألِتصور النجاسة أم بشاعة وشر الإرهاب؟ أم الإثنين معاً؟!
5- أليس سكان جِبعة هذه، هم الذين ارتضوا احتضان الشر مشفقين عليه، فلم يذعنوا لإخوتِهم عندما طالبوهم: «فالآن سلموا القوم، بني بليعال الذين في جِبعة لكى نقتلهم وننزع الشرَ من إسرائيل» (قض20: 13)، فلم يُرِد بنو بنيامين أن يسمعوا لصوت إخوتِهم؟
6- ألم يظهر رِجال هذه المدينة شراستهم، كما استماتتهِم لاحتضان النجاسة، فأهلكوا من رجال إسرائيل اثنين وعشرين ألف رَجُلٍ في اليومِ الأول، وأيضاً ثمانية عشرَ ألف رجُلٍ في اليوم الثاني؟
7- ألم تحدث كلُ هذه المهازل التي يتندى لها الجبين - ولا يكفيني التعبير - فلو صبَّ الجبينُ أنهارًا من العرق، والأفئدةُ أنهارَ دَمٍ، ما غسلت عارَ وشرَ أوزار بل وفضيحة جِبعة، وتابوتُ عهد الله بينهم في تلك الأيام، وفينحاس بن ألِعازار بن هارون واقفٌ أمامَه في تِلك الأيام؟ (قض19: 28،27).  فمن لنا برمح فينحاس بن ألِعازار، الذي إن هَزَّهُ هزةً صائبةً، لَقتَلَ براعِمَ الشرِ قبلَ ترعرعِهِ، وإن بدا في رجُلٍ وامرأةٍ واحِدة (عد25).  وهذه هى محطة جِبعةَ بكل فضائحها.
صديقي..
أتُصدِق أن كُلَ هذا صَدَرَ من شعب الله؟
أتُصدِق أن هذه المهزله حدثت بين شعبٍ غطت السحابة يومًا خيمة الإجتماع بل وملأ بهاءُ الربِّ المسكنَ أمامهم؟ (خر40: 34) أتُصدِق أن هذا الشعب كان عليه أن لا يرتحل أو يحل إلا طبقًا لارتفاع السحابة أمام عيونهم؟
أتُصدِق أيضًا أن هذه الحقيقة لم تكن مخفاة عنهم، فالكتابُ يُسَطِّر: «لأن سحابةَ الربِ كانت على المسكنِ نهارًا. وكانت فيها نارٌ ليلاً أمام عيونِ كُلِ بيت إسرائيل في جميع رحلاتِهم (خر40: 38)؟!
وأخيرًا، هل علمت لماذا أرسَلَ الربُ هوشع النبىَّ منذِرًا بالقضاء للأسباط العشرةِ؟
بل لماذا أرسَلَ القضاء بالفعلِ أخيرًا؟
بطرس نبيل

بطرس نبيل