مواهب الروح القدس
الوظائف الروحية
(اتي3؛ أع6: 1- 6)
كنا نتأمل فيما سبق في شهادة الكتاب المقدس عن المواهب الروحية، أما الآن فسنرى ما يقوله العهد الجديد عما يمكن تسميته “الوظائف الروحية”. وهي بالحقيقة وظائف، وبكل تأكيد روحية، وهي مرتبطة بكنيسة الله، وتُنْجَز فقط بقوة الروح القدس. هذه الوظائف هي تلك المختصة بالأساقفة والشمامسة.
المواهب الروحية لا تُمْنَح بواسطة الإنسان
لقد رأينا أن المواهب الروحية تفيض من رأس الجسد المرتفع؛ الرب يسوع المسيح، بينما هذه الوظائف الروحية - كما سنرى – تتم بواسطة اختيار الجماعة. إن المواهب الروحية لا يمكن أن تُمْنَح بواسطة الإنسان، لكن الوظائف المختلفة يمكن أن تُعَيَّن بواسطة الإنسان. وحينما أقول إن المواهب الروحية لا يمكن أن تُعطَى بواسطة الإنسان، فأنا لا أنسى ما يُخبرنا الروح القدس به عن تيموثاوس. إن الرسول بولس يحرضه قائلاً: «فَلِهَذَا السَّبَبِ أُذَكِّرُكَ أَنْ تُضْرِمَ أَيْضًا مَوْهِبَةَ اللهِ الَّتِي فِيكَ بِوَضْعِ يَدَيَّ» (2تي1: 6). وفي رسالة أخرى يقول له: «لاَ تُهْمِلِ الْمَوْهِبَةَ الَّتِي فِيكَ الْمُعْطَاةَ لَكَ بِالنُّبُوَّةِ، مَعَ وَضْعِ أَيْدِي الْمَشْيَخَةِ» (1تي4: 14). واضح إذًا أن قبول تيموثاوس لهذه الموهبة الروحية قد حصل بواسطة وضع يديّ الرسول بولس عليه. لكن ليكن مفهومًا أنه بالرغم من ذلك، فإن هذه الموهبة فاضت من الرب حيث سُميت «مَوْهِبَةَ اللهِ» (2تي1: 6). وكون يد بولس كانت الواسطة لتوصيلها، لأن الحرف اليوناني المُستخدَّم في 2تيموثاوس1: 6 يوضح هذا الأمر. إن الحرف المُستَّخدَّم يُعبِّر لا عن المصدر بل عن الوسيلة، لذلك قيل «بِوَضْعِ يَدَيَّ».
وحينما ننظر إلى العدد الرابع عشر من الأصحاح الرابع من الرسالة الأولى إلى تيموثاوس نجد أن تيموثاوس قَبِلَ الموهبة «مَعَ وَضْعِ أَيْدِي الْمَشْيَخَةِ». إن الحرف اليوناني المُستخدَّم هنا يتضمن المشاركة في العمل، وليس واسطة مساعدة. فوَضْعُ أَيْدِي الْمَشْيَخَةِ ليس له علاقة إطلاقًا في توصيل الموهبة، إلاّ من جهة هذا الأمر، وهو أنه كان لهم شركة كاملة وقلبية مع بولس في الفعل الذي بواسطته قَبِلَ تيموثاوس الموهبة الروحية.
إنني أذكر هذا الأمر لأنه يوجد قدر كبير من الالتباس، كما أيضًا من نقص المعرفة الكتابية في أذهان المسيحيين من جهة موضوع التعيين أو التنصيب، الذي يظن البعض أنه مقدمة هامة وضرورية لأي شخص لكي يكرز بكلمة الله. وإني أقول أمام الرب بكل جرأة وبلا خوف أو وجل، إنه لا يوجد في أي جزء من العهد الجديد مثال عن إنسان، أُفْرِزَ بواسطة الإنسان، لكي يكرز بالإنجيل. من الممكن أن نجد أمثلة لأُنَاس يضعون أيديهم على آخرين، كما في حالة تيموثاوس، وفي حالات أخرى سأذكرها لكم موجودة في الأصحاح الثالث عشر من سفر الأعمال، ويمكنكم أن تجدوا أمثلة لأشخاص أُفْرزوا لوظائف محلية في الكنيسة. كل ذلك مُسلَّم به بالتأكيد. لكنني أكرر، أنه بالنسبة للكرازة بالإنجيل أو التفويض أو الأذن للخدمة في الأمور الإلهية، لا نجد إطلاقًا في كل العهد الجديد أن إنسانًا يفرز إنسانًا لهذا الغرض. إن الرب فقط هو الذي يحتفظ بذلك الحق لنفسه.
هل الإنسان يعين أو يُنَصِّب الخدام؟
ربما يقول واحد، لكن ماذا عن الأصحاح الثالث عشر من سفر الأعمال؟ حسنًا، لنتحول إليه. إنه الفصل الأساسي الذي يرتكن إليه تعليم التعيين أو التنصيب. وهو أيضًا الفصل الذي تدعوك بعض الكنائس والطوائف المسيحية، لكي ترجع إليه، ليعطيك كما يعتقدون المستند الإلهي لتعليم التعيين لأُناس أُفرِزوا ليكرزوا بالإنجيل «وَكَانَ فِي أَنْطَاكِيَةَ فِي الْكَنِيسَةِ هُنَاكَ أَنْبِيَاءُ وَمُعَلِّمُونَ: بَرْنَابَا وَسِمْعَانُ الَّذِي يُدْعَى نِيجَرَ، وَلُوكِيُوسُ الْقَيْرَوَانِيُّ، وَمَنَايِنُ الَّذِي تَرَبَّى مَعَ هِيرُودُسَ رَئِيسِ الرُّبْعِ، وَشَاوُلُ» الذي نقرأ عن رجوعه وتوبته التي حدثت منذ وقت طويل في الأصحاح التاسع من سفر الأعمال، والذي كان يكرز بالإنجيل لفترة طويلة سابقة لما سُجِل هنا في الأصحاح الثالث عشر من سفر الأعمال. نعم، وأكثر من ذلك، قد أُعْتُرِفَ به كمعلم لفترة طويلة. هذا نجده في الأصحاح الحادي عشر من سفر الأعمال «ثُمَّ خَرَجَ بَرْنَابَا إِلَى طَرْسُوسَ لِيَطْلُبَ شَاوُلَ. وَلَمَّا وَجَدَهُ، جَاءَ بِهِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. فَحَدَثَ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي الْكَنِيسَةِ سَنَةً كَامِلَةً، وَعَلَّمَا جَمْعًا غَفِيرًا. وَدُعِيَ التَّلاَمِيذُ مَسِيحِيِّينَ فِي أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلاً» (أع11: 25، 26). هذا يعني، أن بولس كان يبشر، ويُعلِّم، منذ وقت طويل سابق لما هو مُسجَّل في الأصحاح الثالث عشر من سفر الأعمال. ولا يمكننا البتة الزعم بأن هذا المشهد يحمل معه الفكرة بأنه في ذلك الوقت قد تعين للعمل الرسولي، فهذا بعيد تمامًا عن الصحة، وذلك من كتابات الرسول بولس نفسه، لأنه في رسالته إلى أهل غلاطية يقول: «بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ النَّاسِ، وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَاللهِ الآبِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ » (غل1: 1). إن رسوليته لا علاقة لها إطلاقًا بالإنسان كما يقول. ولا مواهبه كنبي، ومُعلِّم، ومبشر، لأنه كان يمارس المواهب الثلاث وأكثر منها قبل وضع أيدي المعلمين والأنبياء عليه.
ماذا إذًا، يعني ما ورد في الأصحاح الثالث عشر من سفر الأعمال؟ «وَبَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ، قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ. فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا. فَهَذَانِ إِذْ أُرْسِلاَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ انْحَدَرَا إِلَى سَلُوكِيَةَ» (أع13: 2-4). هنا يلفت أنظارنا شيء هام، وهو عمل الروح القدس الحر والمُطلَّق. ولا أحتاج أن أقول إنَّ عمل الروح القدس هو دائمًا مستقل وحر، لأنه هو الله. وهو الوحيد على الأرض الذي له الحق أن يكون حرًا ومستقلاً، فهو روح الله.
لكن من الجهة الأخرى حيثما تزحف روح الاستقلال إلى داخل الكنيسة بأيّة طريقة كانت، فهذا خطية وليس من الله. وأكرر أن الشخص الوحيد الذي له الحق أن يكون حرًا ومستقلاً هو روح الله. أما الطريقة التي عمل بها في أنطاكية، أو الصوت الذي استخدمه هناك، فلست أقول شيئًا عن هذا، لكنه جعل صوته مسموعًا في الكنيسة في أنطاكية، وقال: «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ ... فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا»، ثم يختم بالكلمات: «فَهَذَانِ إِذْ أُرْسِلاَ» - من الكنيسة؟ كلا - «مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، انْحَدَرَا إِلَى سَلُوكِيَةَ». هل هناك أي شك من جهة دعوة الروح القدس هنا؟ إذا كان هناك في ذهن أي شخص شك، فهو سيتبدد، بمتابعتهما في رحلتهما التبشيرية الخاصة، التي تشغل تفاصيلها الأصحاحين الثالث عشر والرابع عشر من سفر الأعمال.
وحينما نصل إلى العدد الرابع والعشرين من الأصحاح الرابع عشر، نقرأ: «وَلَمَّا اجْتَازَا فِي بِيسِيدِيَّةَ أَتَيَا إِلَى بَمْفِيلِيَّةَ. وَتَكَلَّمَا بِالْكَلِمَةِ فِي بَرْجَةَ، ثُمَّ نَزَلاَ إِلَى أَتَّالِيَةَ: وَمِنْ هُنَاكَ سَافَرَا فِي الْبَحْرِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ حَيْثُ كَانَا قَدْ أُسْلِمَا إِلَى نِعْمَةِ اللهِ لِلْعَمَلِ الَّذِي أَكْمَلاَهُ. وَلَمَّا حَضَرَا وَجَمَعَا الْكَنِيسَةَ أَخْبَرَا بِكُلِّ مَا صَنَعَ اللهُ مَعَهُمَا وَأَنَّهُ فَتَحَ لِلأُمَمِ بَابَ الإِيمَانِ» (أع14: 24-27). ولا يوجد أبسط من هذا. كان الروح القدس يقودهما ليخرجا إلى الأمم في أسيا الصغرى. وقد كانت الكنيسة في أنطاكية في شركة قلبية كاملة مع ذلك الذي كان الروح القدس يقودهما إليه. وهذا جعلهم أن يضعوا الأيادي عليهما. هل لتعيينهما لهذه المهمة؟ كلا. بكل تأكيد كلا. لقد فعل الروح القدس ذلك. لكنهم وضعوا الأيادي عليهما كمن اتحدوا أنفسهم في الصلاة والاهتمام بما كانا مزمعين أن يفعلاه. وأعتقد أن ذلك مناسب تمامًا لنا لكي نفعله. فإذا كان لأي خادم لله شعور متميز وواضح أنه قد دُعيَّ ليذهب مثلاً إلى بلاد وثنية، ليكرز بكلمة الرب، وإذا كان شركاؤه في الخدمة، والكنيسة عامة، هم في اتفاق معه، حينئذٍ يصومون ويصلون ويضعون الأيادي عليه، كتعبير عن اتحادهم معه في خدمته للرب، وبذلك سيكونون داخل حدود المثال الذي تعطيه كلمة الله.
إن وضع الأيادي في الكتاب المقدس، يحمل معه غالبًا فكرة الشركة أو الاتحاد. وعندما تضع يدك على أي خادم لله، فأنت بذلك تتحد نفسك معه في العمل الذي هو مزمع أن يذهب ليفعله. أما التعيين في مفهومه العام، فهو مجرد بدعة من أفكار الناس. إن الظن بأن الناس يستطيعون أن يفرزوا إخوتهم - ليكرزوا بكلمة الله، كمن يعطونهم السلطان لذلك - ليس له سند إطلاقًا داخل حدود صفحات العهد الجديد.
إنه أمر عظيم الأهمية أن يكون هذا واضحًا، لأنه إذا امتلك أحد موهبة روحية، فإن الشخص الوحيد المسؤول أمامه صاحب تلك الموهبة هو الرب. إنه مسؤول أن يخرج لممارسة تلك الموهبة أمام الرب، وحيث يقوده الرب. إنه ليس ملكًا لإنسان، ولا خادمًا للكنيسة، وإن كان يُسَّر بأن يكون خادمًا للكل، إذا كان هذا يُسِّر سيده. ونحن نجد شواهد وبراهين كثيرة في العهد الجديد عن كيف كان الخدام يمارسون خدمتهم بسلطان الرب فقط ومشيئته، وليس مشيئة الإنسان. لنأخذ “أبلوس” كمثال. أراد بولس منه أن يذهب إلى كورنثوس (1كو16: 12)، لكن لم يكن في فكره أن يذهب في تلك اللحظة. ربما يعتقد البعض أن “أبلوس” سينحني أمام رغبة رسول الأمم المحبوب. كلا! لقد استعمل “أبلوس” فطنته كخادم للمسيح من جهة أين يذهب، ومتى يذهب. مع ذلك فإن بولس يُشير إلى حقيقة أنه طلب من “أبلوس” أن يذهب، لكنه لم يرد ذلك. إن شخصًا آخر غير بولس كان يمكن أن يترك ذلك بعيدًا عن رسالته، لكن بولس كان شخصًا ذا قلب متسع جدًا، وقد سجل الحادثة بلا شك ليُري أن مسؤولية الخادم يجب أن تكون دائمًا نحو الرب، وأنه ليس لأحد الحق أن يأمر خادم المسيح إلا الرب نفسه.
وأتحول الآن إلى موضوعنا الرئيسي في هذه المرة - وهو وظائف الشيوخ والشمامسة – وهي الوظائف الأكثر فائدة في الكنيسة. إن الرب يحب كنيسته، وهو نفسه رأس الجسد، رب الكنيسة التي اشتراها بدمه الثمين، والتي أعطاها روحه، والتي يحتضنها دائمًا في عواطف قلبه الرقيقة، لذلك يعطيها كل ما تحتاجه «فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضًا لِلْكَنِيسَةِ» (أف5: 29). «يَقُوتُهُ» أي يُطعمه، «يُرَبِّيهِ» أي يدفئه. والطعام والدفء هما اللذان يُعطيهما الرب لكنيسته. إنه يقوتها ويُربيها. إنه يعتني بها. ولا أشك أبدًا أن القوت يُقدَّم بواسطة مواهب الروح القدس. أما الدفء فهو مرتبط تمامًا بما نتأمل فيه في هذه الصفحات، بممارسة تلك الرغائب أو الاشتهاءات الروحية، والوظائف، والتي من جهتها يخبرنا الرسول بولس بأن من يشتهيها، يشتهي عملاً حسنًا.
(يتبع)
و. ت. ب. ولستون