أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يوليو السنة 2011
عمواس
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
لوقا 24)

كم تباينت الأحوال التي كانت عليها نفوس التلاميذ فى صباح يوم القيامة.  لقد كان بطرس متراجعًا، وتوما متشككًا، ومريم المجدلية تعيسة، والتلميذان المتجهان إلى عمواس مُحبطين.  لكن يا لها من بركة أن نرى الرب - بحكمة إلهية ونعمة تامة - يتعامل مع حالة كل نفس على حده.  فعنده كلمة يقولها لرد نفوس المتراجعين، وكلمة تعضيد وتشجيع للمتشككين، وكلمة تعزية للتعساء، وكلمة أمل تلمس قلوب المُحبطين وتصل إلى ضمائرهم.

ويمكننا أن نصف تلميذي عمواس بأنهما قديسان مُحبطان.  إنهما كباقى المؤمنين المدفوعين باحتياجاتهم، والمشدوهين من نعمته، انجذبوا إلى الرب يسوع.  لقد شاهدوا أعمال قوته القديرة، وسمعوا كلمات نعمته، وتبعوا مسلك محبته المقدس، وكانوا فى قناعة تامة من كونه هو المسيا الذى طال انتظاره، بل وكانوا فى تمام اليقين يتوقعون كسر نير عبودية الرومان عنهم، وتحرير إسرائيل بالقوة من كل أعدائه.  لكن للأسف! أسلم رؤساء الكهنة والولاة مسياهم إلى الموت.  وبدلاً من أن يأخذ عرشه كملك الملوك سُمِّر على صليب بين اثنين مذنبين، وبدلاً من أن يضع أعداءه موطئًا لقدميه داسه أعداؤه رغم كونه ابن الله.  وهكذا تحطمت – وبقسوة – كل أمنياتهما وانتظاراتهما، وأصبحا مُحبَّطين يائسين.
ولقد ظهرت نتيجة هذا الإحباط سريعًا، فأدارا ظهريهما لجماعة المؤمنين الصغيرة فى أورشليم، وبدون تردد مضيا «فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ» إلى بيتهما فى عمواس، وفيما هما ماشيان فى طريقهما كانا «يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ» (ع15)، وفيما هما يتحاوران كانا «عَابِسَيْنِ» (ع17).
وهكذا اليوم أيضًا ألا يوجد قديسون كثيرون مُحبطون وعابسون، يُديرون ظهورهم إلى جماعة الرب، ويمشون بعيدًا فى طريق منعزل؟ وهم يواصلون السير فى هذا الطريق الموحش، ألا يتحاورون كثيرًا وهم حزانى عابسي الوجوه؟
ولكن هل تساءلنا عن الأسباب الجذرية وراء إحباط تلميذي عمواس؟ لقد كانا مشغولين بأفكارهما الخاصة عن المسيح بدلاً من أفكار الله.  وبعقول مشحونة بأفكار بشرية لم يستطيعا أن يفهما الأفكار الإلهية – لقد كانا «بَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ» (ع25).  فكان عدم الإيمان وراء إحباطهما، وهو ما جعلهما يُديران ظهريهما لشعب الرب، وهو ما أطلق ألسنتهما ليتحاورا، فملأ قلبيهما حزن وأمسك أعينهما مقفلة عن معرفة الرب.  وما هى الفكرة التى ليست حسب الإيمان التى ملأت عقليهما؟ ببساطة هى أنهما اعتقدا أن يأتيا بالمسيح إلى ظروفهما لمجدهما الزائل، ولراحتهما وبركتهما الأرضية.
ألا نشبه فى أحيان كثيرة هذين التلميذين؟ أليست هذه فكرة سائدة فى المسيحية أن المسيح جاء إلى العالم ليصنع منه مكانًا أفضل وأسعد لنا؟ ألا نحاول فى بعض الأحيان أن نستحضر المسيح إلى ظروفنا لراحتنا الوقتية ومجدنا الأرضى؟ وبهذه الأفكار التى وضعناها فى عقولنا، ألا نشعر بالإحباط العميق حيال ظروفنا الصعبة وانتسابنا إلى شعب الرب، الذي يضم جماعة من فقراء ومزدرى هذا العالم فنشعر بصغر النفس واللوم الذى قد يصل إلى حد الشعور بالنقص والمعاناة؟
وبالرغم من ذلك، يا لروعة النعمة التى يواصل الرب بها السير مع هذين القديسين الماشيين مُحبطين! ويا لها من طريقة مباركة بها يرد نفسي هذين التلميذين الحزينين المكتئبين، ويشدد عزمهما وهما فى طريقهما إلى عمواس!  فهو أولاً «اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا».  إن الذي اقترب إليهما كان هو «يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا» (ع15).
لم يرسل الرب رسولاً ليُذكّر هذين القديسين الضالين بوجوده. فعندما تسير الأمور على ما يرام مع شعبه، نجد الملائكة والرسل والأنبياء والآخرين يتممون أمره كما نعلم جيدًا من مشاهد عديدة مدونة فى الكلمة.  لكن حيثما وُجد خروفٌ ضال – واهن العزم ومحبط – ستجد «يَسُوعُ نَفْسُهُ» يقترب منه ليرد نفسه.
هناك أمور تتم بين أي قديس ضال وبين «يَسُوعُ نَفْسُهُ»، لايمكن لأي غريب أن يتدخل فيها.  لقد قام الرب يسوع وظهر لسمعان وهي ذات القصة المباركة لمقابلة شخصية سرية بين مؤمن متخاذل كسير القلب وبين «يَسُوعُ نَفْسُهُ».  لكن بكل أسف كم تختلف الطريقة التى ننتهجها بعضنا مع بعض.  فإذا تاه أخ بعيدًا عنا فكم نميل لأن نبتعد نحن عنه، لكن فى يوم ابتعاد قديسيّ عمواس اقترب إليهما يسوع نفسه.  يا له من مخلص! عندما كنا بعيدين جاء إلينا، وعندما ابتعدنا اقترب إلينا.
ولما اقترب إليهما، ما أكرم الطريقة التى توَاصل بها معهما.  إنه يكشف لنا أولاً كل ما فى قلوبنا، وبحكمة إلهية ولطف متناهٍ استخرج للتلميذين من داخل قلبيهما ما يصعب عليهما التعامل معه، وكشف لهما عن أصل عدم الإيمان الذى كان من وراء خيبة أملهما إذ كانا «الْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ».
إن الرب لا يتوقف عند حد كشف ما بداخل قلوبنا لنا، رغم أهميته فى عملية رد النفس، لكنه ليس بكافٍ لرد النفس.  فبلا شك أننا نحتاج إلى أفكار صحيحة عن قلوبنا، لنعلم أننا إنما نتيه فى الطرق الخاطئة، لكن أيضًا يجب أن تكون عندنا أفكار صحيحة عن قلبه هو حتى تُستعاد أقدامنا إلى الطريق الصحيح.  وهذه هى الطريقة التى انتهجها الرب مع التلميذين، فبعد أن كشف لهما عما فى قلبهما كشف لهما عما فى قلبه هو.  وإذ كشف ما فى قلبه، حوّلهما من «الْبَطِيئَا الْقُلُوبِ» إلى ذوي “قلوب ملتهبة” (ع25، 32).  لقد أضرم قلبيهما بمحبته إذ كشف لهما عن محبة قلبه.
ولكى يكشف لهما محبة قلبه كان «يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ» وفيما هو يفسر لهما، استعرض أمامهما قصة آلامه المؤثرة وكذلك أمجاده (ع26).  لكن التلاميذ بأفكارهم البشرية المحدودة أرادوا أن يستبعدوا عنه آلامه وبالتالى كانوا ليحجزوا عنه أمجاده، فنحن نعلم أنه كان ينبغى أن يتألم لكي «يَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ».
فماذا - فى كل المكتوب - من الأمور المختصة بالمسيح يلمس القلب كآلامه وأمجاده.  وحينما نجد الآلام فإننا لسنا بعيدين عن الأمجاد.  فبينما يحدثنا مزمور 22 عن آلامه يُحدّثنا مزمور 24 عن أمجاده.  وكذلك أيضًا يتناول مزمور 69 موضوع الآلام ليتبعه مزمور 72 بموضوع الأمجاد.  وبنفس الطريقة تُستعلن آلام المسيح فى مزمور 109 لتتبعها أمجاده فى مزمور 110.  ونحن نتأمل فى آلامه وفى أمجاده تلتهب قلوبنا فينا إذ نتفكر فى مقدار المحبة التي قادته إلى الصليب، حتى يتسنى له أن يقودنا إلى المجد.
لقد كان التلميذان منشغلين بالأمور المختصة بهما، لكن الرب اقتادهما إلى «الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ» (ع27)، وعندما أرادا أن يأتيا بالمسيح إلى اهتماماتهما، قادهما إلى اهتماماته هو، بأن يعرفوه  كالمقام خارج هذا العالم الحاضر الشرير.
لقد كشف الرب قلبيهما وأعلن لهما قلبه، لكن لأي غرض؟ واضح أنه كان يرغب إلى أن يتوقا إلى صحبته فوق كل شيء آخر.  وهنا سيختبرهما ليرى إن كان قد وصل بهما إلى «عَاقِبَةَ الرَّبِّ».  فحدث إذ اقتربوا إلى القرية التى كانا منطلقين إليها أنه «تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ».  فحينما اقترب إليهما كان لكي يُعلق قلبيهما به، لكنه الآن سينطلق بعيدًا عنهما لكى يقود قلبيهما وراءه مشتاقة إليه.  ولقد تجاوبا مع اختبار الرب لهما بروعة فائقة؛ «فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: ﭐمْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ».  إنه يريدهما، وقد احتمل أهوال الصليب ليقتنيهما، ولكنه الآن يتعامل معهما حتى يصل أخيرًا بهما إلى أنْ يريداه.
هل عرفنا شر قلوبنا فى وجود محبة قلبه حتى تسنى لنا أن نقول إننا نتوق إلى صحبته فوق كل شيء آخر؟ إن بحثت فى كل طول وعرض كون الله الفسيح، فأين لي أن أجد من يعرف خباياي ويظل يحبني.  هذا ما يجعلنا نشعر بالراحة فى حضرته عن وجود أي من كان الأقرب والأغلى على الأرض لنا.
هذه هي محبته التى يُمكننا أن ننهل منها كما نريد؛ سواء من شخصه أو في صحبته. هذا ما وجده التلميذان عندما «أَلْزَمَاهُ».  والرب يحب أن يُلزَم – ألسنا نقرأ أنه «دَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا»؟
وبذلك نرى أن الرب أتى أخيرًا، وللحظات مختصرة إلى ظروفهما، لكن فقط لكي يُخرجهما من ظروفهما إلى أموره.  فإذ أظهر ذاته لهما اختفى عنهما.  لكن أيضًا ما أرق الطريقة التى أظهر بها ذاته لهما حيث «اتَّكَأَ مَعَهُمَا أَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا».  ألا يذكرنا هذا المشهد بمشهد العلية عندما «أَخَذَ خُبْزًا وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي».  لقد أعلن المشهد كله عمَن هو، مذكرًا إياهما بموته الفدائي.  لذلك قلما تعجبنا من أنه قد «انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ».  نعم ولكن كيف عرفاه؟  ليس كأيام ما قبل الصليب وهما مشغولان بظروفهما، بل كالذى مات لكنه حيٌّ إلى الأبد.  لقد اختفى عنهما فى الحال لأنه إن كنا قد عرفناه كالمقام فلا بد من معرفته بالإيمان، طالما أننا ما زلنا في هذا المشهد.  لذلك فإن الإحباط الذى تملك التلاميذ عندما فقدوه على الأرض تحوَّل إلى فرح عندما وجدوه فى القيامة.
وكانت النتيجة الفورية أنهما عادا من تيهانهما بالرغم من سيرهما قرابة 15 كم، وبالرغم من أن النهار كان قد مال وحلَّ الليل، إلا أنهما عادا أدراجهما فى شوق قلبي خالص لأن ينضما إلى الجماعة الصغيرة من شعب الرب المجتمعين معًا فى أورشليم.  وإذ وصلا إلى جماعتهما وجدا - لعميق بهجتهما - أنهما فى صحبة الرب المُقام، وفي صحبته لا مكان للعبوسة والإحباط فأعطت كل حيرتهما وحزنهما مكاناً “للتعجب” و“التعبد” و“الفرح”  (ع41، 52).

هاملتون سميث

 


هاملتون سميث