خواطر في سفر هوشع (11)
هَلُمُّوا إلى سبيل الكلمةِ، فها سبيلُ الفاهمين، هَلُمُّوا إلى دفقِ البهجةِ، فها ثروةُ المغتنمين، هَلُمُّوا إلى النبراسِ والمنهجِ، فها دليلُ السائحين، إلى كلمةِ اللهِ جديدةً وقديمةً، فها كنوزُ المتعلِّمين.
قارئي، في مقالتنا السابقة، وقفنا أمام محطةٍ، عبر بها هذا الشعب، وأفرغ فيها ما لديه من سمومِ الشرِ الناقعة، التي امتلأ بها قلبهُ وقلوبُ البشرِ على وجهِ العموم وهى جبعة. وعرِفنا أن بنيامين كان هو المقترف الفعلي لجريمةِ جِبعةَ، فلقد أدركته الحربُ هناك بل أخبَرَه النبىُ أن القضاء سيحل به هو أيضًا. وأما الأسباط العشرة وهم موضوع نبوة هوشع، فلقد «فَسَدُوا كَأَيَّامِ جِبْعَةَ» (هو9: 9)، بل وتَلَطَّخوا بأوزارِها، فأخبرهم النبىّ بقرب وقوع القضاء، الذي كان وشيكًا أن يحل بهم.
وفي مقالتِنا هذه، نعودُ فنقفُ أمام محطتين أُخرَيين، وقف بهما هذا الشعب، بل وقبعَ فيهما، فنُعلِقُ عليهما، لما لنا في ذلك من عِبَرٍ جزيلةٍ في تاريخ الأقدمين: الجلجال وبيت آون .
1- «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ زَانِيًا يَا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَأْثَمُ يَهُوذَا. وَلاَ تَأْتُوا إِلَى الْجِلْجَالِ وَلاَ تَصْعَدُوا إِلَى بَيْتِ آوَنَ وَلاَ تَحْلِفُوا: حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ» (هو4: 15).
2- «اِضْرِبُوا بِالْبُوقِ فِي جِبْعَةَ، بِالْقَرْنِ فِي الرَّامَةِ. اصْرُخُوا فِي بَيْتِ آوَنَ. وَرَاءَكَ يَا بِنْيَامِينُ» (هو5: 8)
3- «عَلَى عُجُولِ بَيْتِ آوَنَ يَخَافُ سُكَّانُ السَّامِرَةِ» (هو10: 5)
4- «كُلُّ شَرِّهِمْ فِي الْجِلْجَالِ. إِنِّي هُنَاكَ أَبْغَضْتُهُمْ. مِنْ أَجْلِ سُوءِ أَفْعَالِهِمْ أَطْرُدُهُمْ مِنْ بَيْتِي. لاَ أَعُودُ أُحِبُّهُمْ. جَمِيعُ رُؤَسَائِهِمْ مُتَمَرِّدُونَ» (هو9: 15)
5- «إِنَّهُمْ فِي جِلْعَادَ قَدْ صَارُوا إِثْمًا، بُطْلاً لاَ غَيْرُ. فِي الْجِلْجَالِ ذَبَحُوا ثِيرَانًا، وَمَذَابِحُهُمْ كَرُجَمٍ فِي أَتْلاَمِ الْحَقْلِ» (هو12: 11)
6- «وَتُخْرَبُ شَوَامِخُ آوَنَ، خَطِيَّةُ إِسْرَائِيلَ. يَطْلُعُ الشَّوْكُ وَالْحَسَكُ عَلَى مَذَابِحِهِمْ، وَيَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: غَطِّينَا، وَلِلتِّلاَلِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا» (هو10: 8)
أولاً: الجلجال
في الاقتباسات الستة التي اقتبسناها نقرأُ عن الجلجال ثلاثَ مراتٍ:
«لاَ تَأْتُوا إِلَى الْجِلْجَالِ» (هو4: 15)، «كُلُّ شَرِّهِمْ فِي الْجِلْجَالِ» (هو9: 15)، «فِي الْجِلْجَالِ ذَبَحُوا ثِيرَانًا» (هو12: 11)
ليس في نبوة هوشع فقط نقرأ عن شرِ الشعبِ في الجلجال، لكن في نبوةِ عاموس أيضًا الذي كان معاصِراً لهوشع نقرأ:
«هَلُمَّ إِلَى بَيْتَِ إِيلَ، وَأَذْنِبُوا إِلَى الْجِلْجَالِ، وَأَكْثِرُوا الذُّنُوبَ، وَأَحْضِرُوا كُلَّ صَبَاحٍ ذَبَائِحَكُمْ، وَكُلَّ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عُشُورَكُمْ. وَأَوْقِدُوا مِنَ الْخَمِيرِ تَقْدِمَةَ شُكْرٍ، وَنَادُوا بِنَوَافِلَ وَسَمِّعُوا. لأَنَّكُمْ هَكَذَا أَحْبَبْتُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ» (عا4: 5،4).
وأيضًا: «لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ: «اطْلُبُوا فَتَحْيُوا. وَلاَ تَطْلُبُوا بَيْتَ إِيلَ، وَإِلَى الْجِلْجَالِ لاَ تَذْهَبُوا، وَإِلَى بِئْرَِ سَبْعٍ لاَ تَعْبُرُوا. لأَنَّ الْجِلْجَالَ تُسْبَى سَبْيًا، وَبَيْتَ إِيلَ تَصِيرُ عَدَمًا» (عا5: 5،4).
وبإضافة هذين الاقتباسين إلى الاقتباسات السابقة، يتكون لدينا ست عبارات مؤسفة عن الجلجال، لا تبعثُ إلا على الحزنِ والألمِ وأضيفُ عليها سابعة من مكانٍ آخر:
1- «لاَ تَأْتُوا إِلَى الْجِلْجَالِ» (هو4: 15)
2- «كُلُّ شَرِّهِمْ فِي الْجِلْجَالِ» (هو9: 15)
3- «فِي الْجِلْجَالِ ذَبَحُوا ثِيرَانًا» (هو12: 11)
4- «إِلَى الْجِلْجَالِ وأكثروا الذنوب» (عا4: 4)
5- «وَإِلَى الْجِلْجَالِ لاَ تَذْهَبُوا» (عا5: 5)
6- «لأَنَّ الْجِلْجَالَ تُسْبَى سَبْيًا» (عا5: 5)
وأما السابعة التي تقود قلوبَ الشعبِ وقلوبَنا إلى أنهارِ الدموع:
7- «وَصَعِدَ مَلاَكُ الرَّبِّ مِنَ الْجِلْجَالِ إِلَى بُوكِيمَ وَقَالَ: ... وَكَانَ لَمَّا تَكَلَّمَ مَلاَكُ الرَّبِّ بِهَذَا الْكَلاَمِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الشَّعْبَ رَفَعُوا صَوْتَهُمْ وَبَكُوا. فَدَعُوا اسْمَ ذَلِكَ الْمَكَانِ بُوكِيمَ (أي الباكين). وَذَبَحُوا هُنَاكَ لِلرَّبِّ» (قض2: 1-5).
ولقد حان موعد السؤال: ما هو الجلجال؟
الجلجال هي كلمة عبرية معناها “متدحرج” ونجد هذه الكلمة: يتدحرج، فائضةً بالألطافِ، من قلبِ منبعها، فعندما قال الرب ليشوع: «الْيَوْمَ قَدْ دَحْرَجْتُ عَنْكُمْ عَارَ مِصْرَ. فَدُعِيَ اسْمُ ذَلِكَ الْمَكَانِ الْجِلْجَالَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ» (يش5: 9)، أراد الرب بذلك، لا أن يُدحرِجَ عنهم عارَ العبودية فحسب، ولقد كان دحرجَه عنهم بالفعلِ، آن خروجِهم من أرض مصر، ولكنه أراد أن يُدحرِجَ أيضًا عنهم، كل ما لحق بهم من دنسٍ وأرجاسٍ علِقت بهم طوال اختلاطِهم بشعوبٍ أخرى. أراد أن يُخلص قلوبهم من سحرِ نيلٍ, يُنيلُ القلب مقصدهُ دون أن يتوجهَ القلبُ منتظرًا، مَن يستمطرُ له مطرَ السماءِ والمِنن. وأراد أن يُخلصهم من قلوبٍ منصرفةٍ إلى قدورِ لحمٍ كانت تغلي وتطيبُ لأسيادِهم، لجحوظِ عيونِهم من الشحمِ، إلى “غلةِ الأرض”، التي ما أن تناولوها، إلا وغدت عيونُ أذهانِهم، برؤى الإيمان بل وبمنظرِ رئيس جند الربِ مكتحلة.
وكيف يتحقق ذلك؟ الإجابة: بتجديد علامةِ العهدِ، أقصد الختان. بل أقصد مفهومَه. فالختان علامةٌ، تتم بقطع لحمِ الغرلةِ، فتميز مَن انتسبوا ليهوه عن غيرهم من الشعوبِ حولَهم، وتظل تؤكد الحقيقة: لستم كسائرِ الشعوب، ما لكم وطبائعُهم؟ بل ما لكم وخِصالُهم؟ بل ما شأنُكم وبرامج أفكارِهم؟ أليس في انتسابِكم ليهوه إعلانًا عن كمالِ انفصالِكم بل ونهاية حُسبانِكم بين تعدادِهم؟
وإذا اعترضتني يا صديقي قائلاً: عفوًا، هذه ليست خصال من هم حولي وطبائعهم، بل هذه هى ذاتي وهذه هي “الأنا”. هذه هى كَبوَاتي وأنا من يجني الهناءَ أو العنا. أقول لك: وهل من شكٍ في شأنِ مَن يُمسكَ بسكاكينَ من صوّان ويقطع لحمَ غُرلَتِه، ولا يشفق على آلامِهِ حتى وإن كان ابن تسعٍ وتسعين سنةٍ أنه يعقد النية، ليس بالموت للعالم فقط ولكن بموتِهِ عن ذاتِهِ أولاً؟ وهذا ما تمَّ بالفعلِ في الجلجال، فضلاً عن ذكرياتٍ أخرى يضوعُ عطرُها في قلوبِ المخلصين. ولكن يا للفجيعة! كيف تحوَّل مكان تدحُرُج العارِ، إلى مكانٍ متدفق بشرورِ هذا الشعبِ والأوزار؟ (هو9: 15). أَهو ذبحٌ للإرادةِ الذاتية وختان أم هو محاكاة للشعوبِ الوثنية وذبح الثيران؟ (هو2: 11). أهو فِصحٌ وفطيرٌ وفريكٌ وغلةُ الأرض في الجلجال أم هو أمرٌ قضائي بإخلائه وعدم الذهاب إليه والترحال؟ (هو4: 15؛ عا5: 5). أَهو مكانٌ موفورٌ بالذكرياتِ المقدسةِ أم موضِعٌ ينتظره القضاء والسبىُ لمسالكٍ مُنَجَّسة؟ (عا5: 5). أَيمكِنُ بهذا المقدار أن نُحَوِّل الحق أفسنتينًا ونُلقي البرَّ إلى الأرض؟ (عا5: 7).
فهيا نستفيق يا من «صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ» و«نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ» (رو6: 5).
ثانيًا: بيت آون
في الاقتباسات الستة التي اقتبسناها من نبوتَى هوشع وعاموس نقرأ عن بيت آون أو بيت إيل سبعَ مراتٍ:
1- «لاَ تَصْعَدُوا إِلَى بَيْتِ آوَنَ» (هو4: 15)
2- «اصْرُخُوا فِي بَيْتِ آوَنَ» (هو5: 8)
3- «عَلَى عُجُولِ بَيْتِ آوَنَ يَخَافُ سُكَّانُ السَّامِرَةِ» (هو10: 5)
4- «وَتُخْرَبُ شَوَامِخُ آوَنَ» (هو10: 8)
5- «هَلُمَّ إِلَى بَيْتَِ إِيلَ» (عا4: 4) 6- «وَلاَ تَطْلُبُوا بَيْتَ إِيلَ» (عا5: 5)
7- «وَبَيْتَ إِيلَ تَصِيرُ عَدَمًا» (عا5: 5)
ولقد حان موعِدُ السؤال: ما هو بَيْتِ آوَنَ؟
بَيْتِ آوَنَ هو بيت إيل، وبيتُ إيل هو اسم عبري معناه بيت الله. وعندما وصل أبرام إلى أرض الموعِد، ظَهَر له الرب مجدِدًا له الوعود، فنصب خيامَه في الأراضي المرتفِعة، قرب بيت إيل وبنى هناك مذبحًا للربِ (تك12: 8)، فضلاً عن أننا لا ننسى وكيف ننسى، أن هذا هو المكان الذي صادفه يعقوب وهو في رحلتِهِ صوبَ حاران، وفاض فيه قلبُ الواعِد الأمين بوعدِ الوعود له: «وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ» (تك28: 14)؟ كان هذا المكان هو المسرح الوضَّاء، الذي عليه تجلت المناظر النبوية، التي كان ولا يزال الرب يحتفظ بها لنفسِهِ حتى إلى أزمنة رد كلِّ شىءٍ، ولكنه أسعَدَ بها شاردَ الفلاةِ، أقصدُ السُلَّمَ المنصوبةَ على الأرضِ ورأسُها يَمَسُّ السماء، الذي عليه ملائكة الله يصعدون وينزلون، وهذا عين ما سينعم به ابنُ الإنسان في ملكِه الألفي السعيد (يو1: 51). ويُشتَهر هذا المكان أيضًا، بأن تابوت العهد بقِىَ فيه بعض الزمنِ (قض20: 27). ولكن مهلاً يا قارئي، فهاك فجيعة تطن لها الآذان، وتقشعِرُّ لها الأبدان بل وتحكي بها الأزمان، ففى ذات الموضعِ عينِه أقام يربُعام بن نباط العجلين الذهبيين اللذين عملهما (1مل12: 28-33). ولذا فلقد تبدَّل بيت إيل أي بيت الله ببيت آون أي بيت الأصنام: «لاَ تَصْعَدُوا إِلَى بَيْتِ آوَنَ» (هو4: 15)، «اصْرُخُوا فِي بَيْتِ آوَنَ» (هو5: 8). ولقد تبدلت موسيقى السماء التي عزفت لقلبِ شريدِ الخرائب بصراخ القضاء: «اصْرُخُوا فِي بَيْتِ آوَنَ» (هو5: 8). ولقد حلت محل مشاهد الإعلان النبوي، عجولٌ وشوامخ: «عَلَى عُجُولِ بَيْتِ آوَنَ» (هو10: 5)، «وَتُخْرَبُ شَوَامِخُ آوَنَ» (هو10: 8)، بل وتبدلت وعودُ السماءِ بوعيدِها، وعِوضَ أن تملأ النفس رجاءً بل وحنينًا للعودةِ إلى بيتِ إيل بعد الرحلة، صارت تعلنُ قضاءً وسبيًا: «وَبَيْتَ إِيلَ تَصِيرُ عَدَمًا» (عا5: 5).
جبعة، الجلجال، وبيت إيل، محطات لا تُثبت إلا فشل الشعب وخيانته، فلقد اكْدَرَّ الذَّهَبُ، بل وتَغَيَّرَ الإِبْرِيزُ الْجَيِّدُ (مرا4: 1) ولكنها ترينا قداسة الله بل وعفوَه دون أن يمتهن حقوق قداستِهِ.
لستُ أنـكِرُ إني مـرارًا خُنتُـكَ
لا لست أنكِر خوفي وضعفي دونك
لا أُنكِر.. لا أُنكِرُ
بطرس نبيل