أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2013
مجرد مصادفة أم تدبير العناية الإلهية؟ - الله في سفر أستير
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
 «وَمَنْ يَعْلَمُ إِنْ كُنْتِ لِوَقْتٍ مِثْلِ هَذَا وَصَلْتِ إِلَى الْمُلْكِ!» (أس4: 14)

هل هناك ما يُسمى بالصدفة في حياة المؤمن؟  هل يُصادف أن نتواجد في المكان الصحيح في الوقت الصحيح، أو في المكان الخطإ في الوقت الخطإ؟  أم أن الله يتحكم في مصائرنا لدرجة أن يختار الأشخاص الذين نقابلهم، والأماكن التي نزورها في الأوقات التي يراها هو مناسبة؟  هل الأمر صدفة بحتة أم ترتيب إلهي؟
الإجابة عن هذا السؤال بسيطة ومعقدة في الوقت نفسه: بسيطة لأنها مباشرة وتتلخص في كلمتين فقط “ترتيب إلهي”.  والكتاب المقدس لا يُعلّمنا فقط أن الله قدير ويتحكم في كل شيء في كل وقت، بل أيضًا يُرتب ويقود الأحداث وفقًا لمقاصده الأبدية.  والرسول يقول في أفسس1: 11 إن الله «يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ».  ونقرأ في مزمور 33: 11 «أَمَّا مُؤَامَرَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الأَبَدِ تَثْبُتُ.  أَفْكَارُ قَلْبِهِ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ».  لا شيء يحدث من قبيل الصدفة، وما يبدو من الخارج أنه حظ طيب أو سيء، هو في الواقع نتيجة تنفيذ مشيئة الله.

سؤال مُعقَّد


ومع ذلك فإن إجابة السؤال السابق مُعقَّدة في الوقت نفسه، وذلك من وجهة النظر البشرية، بسبب قدراتنا المحدودة.  فإننا في أحيان كثيرة لا نرى الصورة بأكملها لنعرف ما يعمله الله ولماذا يعمله «لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ »، هكذا يعلن الله في إشعياء 55: 9.  في بعض الأحيان يسمح الله لإرادة الإنسان الرديئة، ولإرادة إبليس أيضًا أن تتحقق، وتتسبب في حوادث معينة، ولا ندرك مداها بسهولة.
لكن يجب أن نعترف بأنه «مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ!» (رو11: 33).  لا نستطيع أن نفهم كيف يسمح الله بكل هذا الشر، وبالفظائع التي يرتكبها البشر، ولا يزال في الوقت نفسه «يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ» (أف1: 11)، لأن هذا أمر يفوق بكثير قدرات فهمنا المحدودة.
لا نستطيع أن نرى بوضوح متى وأين يتدخل الله وسط نواميس الطبيعة، ويعمل عجائب وأمورًا خارقة، كما لا نستطيع أن ندرك أيضًا أية علاقة توجد بين صلوات المؤمن، سواء كانت مستجابة أم لا، وبين نتائج مقاصد الله، ومشيئته المرتبة مسبقًا.  لكننا نعلم أن «طِلْبَةُ الْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيراً فِي فِعْلِهَا» (يع5: 16) وأن «كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ» (رو8: 28).

إذًا إجابتنا حسب الكتاب المقدس عن سؤالنا الأساسي هي العناية الإلهية وليس الصدفة أو الحظ - مهما اختلف شكله أو هيئته أو طريقته - لكن علينا أن نُقرّ بأن فهمنا الكامل للإجابة بعيد المنال، لأن الخيوط المُعقَّدة لنسيج أعمال الله على مر التاريخ علينا أن نقدر قيمتها لا أن نُحقّق في أسبابها (مز131؛ 139).

الله يعمل


عندما نقرأ سفر أستير سنتعلم أن نُقدِّر أعمال العناية الإلهية، لأنها الموضوع الرئيسي له.  لم يُذكر اسم الله مرة واحدة في هذا السفر، إلا أننا نرى أن الله يعمل من وراء الستار لتتميم مقاصده.  الترتيب الإلهي وليس الحظ هو الذي كان يدبر كل الأحداث في حياة أستير.  لا نقرأ عن اسم الله، لكن يده واضحة من بداية السفر إلى نهايته.

وفي الواقع أن مفهوم العناية الإلهية يُرى بوضوح في سفر أستير، لأن الله اختار ألا يُبرز اسمه واضحًا، بل يضعه فيما بين السطور.  وهنا نجد درسًا عمليًا لنا، في كثير من الأحيان لا يظهر الله نفسه بوضوح في تعاملاته معنا، لكن بالرغم من ذلك فإننا واثقون أنه يعمل في صمت باستمرار في حياتنا ليُتمّم إرادته الصالحة «وَاثِقًا بِهَذَا عَيْنِهِ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (في1: 6).

جرت أحداث سفر أستير حوالي عام 475 قبل الميلاد في بلاد فارس، أي إيران حاليًا.  كان اليهود قد أُجبروا على ترك وطنهم قبل ذلك بعدة سنوات (586  بل الميلاد)، ووقعوا في الأسر عندما غزا جيش بابل بقيادة نبوخذنصر أرضهم وحرق الهيكل.  وبعد سقوط بابل في يد الفرس عام 539 قبل الميلاد، أصدر الملك الفارسي كورش الكبير مرسومًا يسمح لليهود بالعودة إلى أرض يهوذا، فرجع حوالي 50 ألف يهودي إلى أورشليم في تلك الفترة، لكن اختار بعضهم البقاء في المناطق المجاورة لبابل، والبلاد التابعة للإمبراطورية الفارسية.

ونجح بعض اليهود تحت الحكم الفارسي، وقلة منهم تقلدت بعض المناصب السياسية، فمثلاً دانيال ونحميا توليا مناصب عليا في حكومة فارس (دا6: 1؛ نح1: 11).  ومردخاي - ابن عم أستير وولي أمرها - تولى أيضًا وظيفة حكومية يُشار إليها من بعيد في عبارة «كَانَ مُرْدَخَايُ جَالِسًا فِي بَابِ الْمَلِكِ» (أس2: 21)، ومع ذلك نرى بعض العداء للجنس اليهودي في ذلك الوقت، كما نقرأ في أستير3: 13؛ 9: 1.
هذا هو الإطار التاريخي الذي جعل هامان - ذا المنصب الحكومي الكبير والشخصية الشريرة في هذه القصة - واثقًا كل الثقة أن مُخطَّطه لقتل اليهود الموجودين بالإمبراطورية سيتم على أكمل وجه (أس3: 8، 13).  وكان الأمر يبدو أنه لا أمل لليهود في النجاة بتاتًا.  لقد تم إلقاء القرعة حرفيًا (أس3: 7)، ومخطط إبليس للقضاء على شعب الله - الذي سيأتي منه المسيا كما تقول النبوات - كان يبدو كاملاً من جميع النواحي، لكن عناية الله كانت تعمل في الخفاء.

المكان الصحيح والوقت الصحيح


اشتعل غضب الملك أحشويروش عندما رفضت الملكة وشتي أن تستعرض جمالها في وليمة الملك (أس1: 10-12).  وطرد الملكة وشتي فتح الباب لملكة جديدة لتحصل على هذه المكانة المتميزة لدى الملك.  يا له من ترتيب إلهي! وانتهى الأمر بأن جاءت أستير الجميلة إلى المكان الصحيح، في الوقت الصحيح، واختيرت لتكون الملكة الجديدة.  ترتيب إلهي آخر!

لنتوقف برهة لنتعلم درسًا عمليًا.  أَليس محتملاً أن الله رتب لاستخدام حسن مظهرك أو مواهبك التي تنفرد بها، لمجده؟ فكر في كل العوامل التي حدثت لتترتب حياة أستير بهذا الشكل.  حتى الحالة المزاجية للملك تحسنت تمامًا في يوم ظهور أستير, وهو حدث ذو دلالة معينة خاصة، عندما نعلم من مصادر خارج الكتاب المقدس أن أحشويروش كان ملكًا قاسيًا ومتقلب المزاج بدرجة مخيفة.  وذلك يساعدنا في فهم آيات مثل أستير4: 11 «إِنَّ كُلَّ عَبِيدِ الْمَلِكِ وَشُعُوبِ بِلاَدِ الْمَلِكِ يَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ دَخَلَ أَوِ امْرَأَةٍ إِلَى الْمَلِكِ، إِلَى الدَّارِ الدَّاخِلِيَّةِ وَلَمْ يُدْعَ، فَشَرِيعَتُهُ وَاحِدَةٌ أَنْ يُقْتَلَ، إِلاَّ الَّذِي يَمُدُّ لَهُ الْمَلِكُ قَضِيبَ الذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَحْيَا»! «فَشَرِيعَتُهُ وَاحِدَةٌ أَنْ يُقْتَلَ»، أي يصدر مرسومًا بقتل مَن يدخل إليه دون استدعاء منه.  نرى مرة أخرى العناية الإلهية تعمل وذلك بإحضار أستير إلى المكان والموقع اللذين يهدفان إلى إنقاذ شعب الله وفقًا لخطته ومقاصده الإلهية.

يجدر بنا أن نلاحظ أن الله لم يضع أستير في موقف مثير للشبهات.  الليلة التي قضتها مع الملك (أس2: 14-16) لم تكن بهدف ممارسة الرذيلة معه، فكل النساء في “حرملك” الملك كن يعتبرن زوجات للملك، الذي كان معروفًا بتعدد الزوجات، لكن أستير لم تكن زانية.
«لِوَقْتٍ مِثْلِ هَذَا» (أس4: 14) ربما ينطبق مباشرة على المنصب أو الوظيفة التي وضعك الله فيها في الوقت الحالي.  لا تفكر أبدًا في أمور مثل الصدفة أو الحظ بل في العناية الإلهية.
وفى تلك الأيام سمع مردخاي اثنين يتآمران لقتل الملك أحشويروش، ووصلت تلك المعلومة إلى الملك عن طريق أستير، وكُتبت في سفر أخبار الأيام أمام الملك (أس2: 21-23).  ولم تمض أيام كثيرة حتى ثبت أن كل تلك الأحداث كانت من تدبير العناية الإلهية.  ثم ذات ليلة طار نوم الملك، وأمضى الوقت في قراءة تذكار أخبار الأيام، وبالتالي قرأ قصة إخلاص مردخاي، وقرر أن يُكافئه (أس6: 1-3).  هل ترى كم كان الله متحكمًا في كل الأمور، حتى في القلق الذي أصاب الملك، وفى قراءاته تلك الليلة؟

وفى تلك الأثناء وصل هامان الشرير إلى القصر ليطلب الإذن بصلب مردخاي.  كان هامان يكره ذلك اليهودي الأمين لأنه يرفض السجود لأي شخص حتى لـهامان العظيم.  بادر الملك يسؤال هامان: «مَاذَا يُعْمَلُ لِرَجُلٍ يُسَرُّ الْمَلِكُ بِأَنْ يُكْرِمَهُ؟» (أس6: 6).  لمعت عينا هامان وهو يفكر في الطرق المتعددة التي يمكن أن يكرمه بها الملك في المدينة، مثل إلباسه اللباس السُّلطانيّ الذي يلبسه الملك، ووضع تاج الملك على رأسه، ولم يخطر بباله أبدًا أن الملك كان يفكر في مردخاي.  خمَِّن مَن كان عليه قيادة موكب تكريم مردخاي؟  إنه هامان!  يا له من ترتيب إلهي!

امتحان إيمان

اقتنعت أستير في النهاية بأن عليها أن تتصرف لأجل شعبها، حتى لو اضطرها الأمر لأن تضحى بحياتها (أس4: 15-17).  ولأن العناية الإلهية أحضرت أستير إلى ذلك المنصب ذي الامتيازات العديدة، فذلك لا يعني أن حياتها ستكون سهلة، أو أن الله لن يمتحن إيمانها.  الله يمتحن إيماننا! نرى ذلك في يعقوب1: 3؛ 1بطرس1: 7.  هل تُمتحن في الوقت الحالي في المنصب الذي وضعك الله فيه؟ هل تستطيع أن تقول بالإيمان كما قالت أستير: «فَإِذَا هَلَكْتُ هَلَكْتُ» (أس4: 16).

لم يكن من قبيل المصادفة أن أحشويروش مد قضيب الذهب لأستير، بل وعرض عليها نصف إمبراطورية فارس (أس5: 2، 3).  أمر لا يُصدَّق! كان كل ما تأمل فيه أستير أن يُعطي لها الملك فرصة صغيرة تستعطفه فيها لأجل شعبها، لم تتوقع أبدًا أن يُعطى لها شيكًا بحساب مفتوح.  إنها العناية الإلهية! الله ما زال هو «الْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا» (أف3: 20).  ماذا كنت تطلب لو أن نصف إمبراطورية فارس عُرضت عليك؟

خلاص أمة

كنتيجة لشجاعة أستير وإخلاصها لشعبها تم الحكم بالصلب على هامان الشرير «فَصَلَبُوا هَامَانَ عَلَى الْخَشَبَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا لِمُرْدَخَايَ» (أس7: 10)، وتم إنقاذ الشعب اليهودي.  طبعًا من وجهة النظر الإلهية كان الترتيب الإلهي السبب في كل ما حدث.  يد الله كانت تتحكم حتى في القرعة التي ألقاها هامان (أس3: 7)، بحيث أن يكون لليهود فرصة ثمانية شهور ليُرتبوا وسائل الدفاع عن أنفسهم.  يقول الحكيم: «الْقُرْعَةُ تُلْقَى فِي الْحِضْنِ، وَمِنَ الرَّبِّ كُلُّ حُكْمِهَا» (أم16: 33).  القرار الذي لا يُرَدّ الذي أصدره الملك الفارسي بقتل كل اليهود (أس8: 8) كان أيضًا جزءًا من خطة الله.  والمرسوم الجديد الذي يخالف “شريعة مادي وفارس” لم يؤد فقط إلى حماية الشعب اليهودي، بل أدى إلى إبادة كل أعدائهم.  وما زال اليهود يحتفلون حتى الآن بـيوم “الفوريم” كل سنة، ويتذكرون كل هذه الأحداث.

العناية الإلهية واضحة في كل أحداث سفر أستير، وليس الصدفة.  وكل أحداث حياتنا اليوم أيضًا مرتبة ترتيبًا إلهيًا، وليس للحظ أي دور فيها، وهي جزء من خطة الله لنا لبركة نفوسنا.



ديفيد ريد