أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2013
أيام القضاة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
مقدمة

سفر القضاة سفر مأسوي من أوجه متعددة، بالرغم من أنه أُفتُتح بملاحظة سامية وفكرة في غاية النُبل ألا وهى اتكال سبطين من أسباط إسرائيل على الرب، وانشغالهما بامتلاك الأرض التي لهما بحسب قصد الله.  وبلا شك كان هناك أناس يعملون بحسب فكر الرب، لكن عندما نصل إلى نهاية السفر نجد أن الحالة قد وصلت إلى أحط مستوى «فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ.  كُلُّ وَاحِدٍ عَمِلَ مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْه» (قض21: 25).  لم يكن هناك هدف ولا نظام ولا ناموس ليتّبعوه، بل تفشت بينهم الاستقلالية وعدم الانضباط.  ويا لها من نهاية مؤسفة لبداية واعدة! ومع أن هذا السفر يحوي قممًا عالية من الإيمان والشجاعة، لكنه يحوي أيضًا أعماقًا سحيقة من الخطية والجموح والشر.  إن تلك الأيام تُشبه من نواحي عديدة الأيام التي وقعت قرعتنا فيها.  فهناك الكثيرون من شعب الله مهتمون بالحالة، ويسعون إلى مؤازرة الرب لهم ليُتمّموا ما يُرضيه، لكن بالأسف هناك الكثيرون أيضًا مِن المعترفين باسم المسيح، لكنهم ليسوا مكترثين بمجده ولا بحقه.

يتضمن هذا السفر أحداثًا شيّقة جدًا من تاريخ تعاملات الله مع شعبه إسرائيل التي يسبقها قيادة مزدوجة ومُباركة مِن قِبَل موسى ويشوع.  فكان موسى هو المُحرر العظيم للشعب من مصر، ومُعطي الناموس والقائد في البرية؛ رجل الله العظيم، الرجل الذي كلَّم الرب «وَجْهًا لِوَجْهٍ كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ» (خر33 :11)، والذي وهب نفسه لله بكل معنى الكلمة، ويشوع خليفته هو مَن قاد الشعب إلى الأرض مُمتلكًا منها الكثير وتاركًا للشعب مثالاً بحياته، مُحرضًا إياهم ألا يعبدوا آلهة أخرى، والذي - بالرغم من كل ما صادفهم - استطاع أن يقول: «أَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ» (يش24: 15).  ثم يتبع ذلك مباشرة الافتقاد العظيم الذي بدأ براعوث الموآبية ثم نعمي، وهو ما مهد الطريق لتقديم حَنَّة وصموئيل وداود وسليمان؛ قمم إسرائيل الشامخة التي ارتفعت بقوة الله وقدرته.  وبين هاتين المجموعتين العظيمتين من قمم المجد والبركة، نجد واديًا من الظلام والفشل والزيغان عن الله.  لكن شكرًا لله من أجل من أضاءوا بشدة فيه - من رجال ونساء - اشتعلت داخلهم الرغبة في الأمانة لله؛ الرغبة في الإخلاص له في أيام ندر فيها المُخلصون.

العلاقة بين سفري القضاة وراعوث وبيننا اليوم

بالتأمل في قيادة ربنا يسوع المسيح، وكل ما تمَّمه في بداية فترة الكنيسة نتيجة عمل الصليب، يُمكننا القول: يا لها من نصرة! ويا له من مجد كان هناك! بل ويُمكننا أيضًا أن نشكر الله من أجل أن ما قد بدأ هناك ما زال موجودًا إلى اليوم.  ويا له من يوم رائع حينما تبرهنت قوة روح الله للجميع فتغيَّرت النفوس، وتأسست الكنائس، واتسعت دائرة الشهادة لله في كل العالم!  لقد كان زمانًا لا يُضاهيه زمان في البركة والازدهار الروحي، لكن بكل أسف لم يمضِ على هذا الزمان طويلاً حتى وصل إلي نهايته.  وبدأت الانقسامات والمشاكل والخطية والانشقاقات، وبعد رحيل الرسل بالكاد بقى أثر لما بدأ بالفعل يوم الخمسين، إذ زحف الكثير من الشر والتعاليم الخاطئة إلى الداخل.

لكن الله في رحمته منح الشفاء.  وعلى مر تاريخ الكنيسة نجد رجالاً ونساءً لله يَسْمُون فوق الحالة السائدة في وقتهم، بالإيمان بالله، وبالاتكال عليه، رافضين الإذعان للحالة، ومشغولين بالنصرة لمسرة الله ولمجده.  إن تاريخ الكنيسة مُرصَّع بتلك الأسماء التي نكن لها كل احترام، من رجال ونساء، قد حاربوا ببسالة من أجل الحق على مدى العصور، ولولا أمانتهم (نتكلم إنسانيًا) لما وُجِدنا حيث نحن اليوم.  وبالأسف تراجع العديد من تلك الحركات العظيمة برحيل قوادها، فبعد الممارسة الحية لهؤلاء الأبطال يأتي التراجع ثم الفشل، لينتهي بالترك.  هذا ما يُصيب كل حركة روحية إلى يومنا هذا، لكن ما زال بإمكاننا أن نقول: شكرًا لله رغم ترك الكثيرين، فإنه يظل هناك من يتوقون لأن يكونوا أمناء له، بخوفه وبقوة روحه.  إنه تحدٍ كبير لقلوبنا، فهل هذا هو توجّهنا، رغم الانحدار السائد في أيامنا؟ ولعل دراسة سفر القضاة تمدنا بالمعونة والتحفيز حتى نشتاق - فوق كل شيء - أن نكون هنا لله، رغم كل ما حولنا.

الحالة بعد موت يشوع

«وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ يَشُوعَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوا الرَّبَّ: مَنْ مِنَّا يَصْعَدُ إِلَى الْكَنْعَانِيِّينَ أَّوَلاً لِمُحَارَبَتِهِمْ؟ فَقَالَ الرَّبُّ: يَهُوذَا يَصْعَدُ.  هُوَذَا قَدْ دَفَعْتُ الأَرْضَ لِيَدِهِ.  فَقَالَ يَهُوذَا لِشَمْعُونَ أَخِيهِ: اِصْعَدْ مَعِي فِي قُرْعَتِي لِنُحَارِبَ الْكَنْعَانِيِّينَ، فَأَصْعَدَ أَنَا أَيْضًا مَعَكَ فِي قُرْعَتِكَ.  فَذَهَبَ شَمْعُونُ مَعَهُ» (قض1: 1-3)
إن ما نقرأه في مستهل الأصحاح الأول من سفر القضاة هو في غاية التشجيع.  فكل مِن سبطي يهوذا وشمعون كانا راغبين في امتلاك ميراثهما، فأظهرا سمتين نبتغى التحلي بهما اليوم، أولهما: أنهما اتكلا على الله.  لقد سألا الرب ما ينبغي أن يفعلاه.  وثانيًا: أنهما ذهبا بالفعل لاقتناء ما يريدان.  لاحظ القول في العدد الأول: «أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوا الرَّبَّ: مَنْ مِنَّا يَصْعَدُ إِلَى الْكَنْعَانِيِّينَ أَّوَلاً لِمُحَارَبَتِهِمْ؟».  هذا هو سر الفلاح أمام الله؛ الاتكال على الله.  لقد مضى القائد الأعظم, رحل يشوع عنهم، فكان من الوارد أن يقولوا في يأس: ليس من يقودنا ولا من يساعدنا.  لكنهم لم يفعلوا ذلك بل تحولوا إلى الله.

في كل الكتاب نجد أن الفشل يتبع موت القائد، وهذا ما حدث أيضًا في العهد الرسولي عندما حذر الرسول بولس شيوخ أفسس في أعمال 20: 29-30 قائلاً: «لأَنِّي أَعْلَمُ هَذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ.  وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ».  لقد كانت قوة قيادة الرسل وسلطانهم وتوجههم كافٍ لأن تبقى مثل هذه الأمور الشريرة بعيدة أثناء حياتهم، لكن بعد رحيلهم عن المشهد يبدو وكأن حاجزًا هائلاً قد رُفع، وبدأ رجال الإثم في العمل.  وطالما صارت الأمور على هذا المنوال.  ففي المسيحية مهما علا شأن القائد فإنه يتضاءل بالمقارنة مع قائدنا الأعظم شخص ربنا يسوع المسيح؛ ولأن قديسي الله لا يمكن أن يسيروا بلا قائد، لذلك بإمكاننا دائمًا أن نرجع إلى الرب يسوع المسيح “رئيس خلاصنا” (عب2: 10)؛ إنه دائمًا رأس الجسد، وسيظل هكذا، ولا يمكن لأي شخص أن يأخذ هذا المجد منه.  إنه رئيس الكهنة الأعظم (عب8: 1)؛ ابنٌ على بيت الله.  هو الشخص المُتاح دائمًا لشعبه، وحسنٌ قيل إن الله يخفي خدامه ثم يعمل.  ومهما كان الخادم عظيمًا، فإنه يُمكن الاستغناء عنه.  وهذا مما يُشجعنا ولا شك.
وبالرغم مِن حزننا لعدم توافر رجال الله بيننا، مقارنة بالأيام التي مضت، وخاصة مِن الذين يشرحون لنا كلمة الله، ويروننا الطريق للحياة بموجب الحق وفهمه، ممَن كنا سنقدِّر لهم عونهم لنا اليوم، لكنهم ليسوا بموجودين، وعلينا الاستمرار في السير.  لكن الرب يسوع قد تفضل علينا بوجوده معنا ليشجعنا ويُعيننا رغم الصعاب.  من هنا حصلنا على أعظم تشجيع ممكن.  فالاتكال على الله في الصلاة، سواء فرديًا أو جماعيًا، وكذلك الشركة العملية مع بعضنا البعض، هما وسيلتان يمكننا استخدامهما كل حين لنتحدى بهما نزعات تلك الأيام الشريرة.

عندما وجد الرب هذا الاتكال وتلك الشركة وسط شعبه، كان معهم «وَدَفَعَ الرَّبُّ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِّزِيِّينَ بِيَدِهِمْ» (قض1: 4).  لم يكن يشوع يتقدمهم في ذلك الوقت ليقود الحرب، لكن الرب بنفسه كان معهم.  وعلى أية حال كان الرب هو مُحررهم حتى حينما كان يشوع قائدًا لهم، وبالرغم من تقدمه الصفوف، ومن كونه المتحدث الرسمي عنهم، والرجل الذي استخدمه الله، لكن كان الرب هو مَن انتصر في الحروب.  هو الرب الذي ساعد موسى، والذي ساعد داود فيما بعد، وبكل تأكيد هو مَن ساعد كل قديس على مر العصور.  لم يظهر هنا أو هناك إنسان غير عادي، بل ببساطة كانوا جميعًا رجالاً مُتكلين على الله، مُستعدين لمعونة بعضهم البعض، فدفع الرب أعداءهم ليدهم.

ربما لا نعمل أعمالاً معجزيه أو غير عادية لكننا نتعلم مِن هذه الجزئية أنه عندما نُمارس الاتكال على الرب، ونسعى لمساعدة بعضنا البعض، فهناك شيء ذو قيمة مِن ميراثنا نضمنه بالفعل.  وهكذا نتمسك به بطريقة عملية، ونتمتع به بطريقة أعمق، لو تحقق هذا الأمر المزدوج – الصلاة والشركة مع بعضنا البعض؛ الشركة مع أولئك الذين يمكننا السجود والسير معهم، ومواجهة المشاكل اليومية، واجدين التشجيع والقوة معًا.  لذلك يجب أن نظل مُصلّين ومُجتمعين، وواجدين الفرح في صحبتنا معًا.  لقد كان ميراث إسرائيل ميراثًا أرضيًا، لكنهم فشلوا في الحفاظ عليه نظرًا لعدم أمانتهم وعدم طاعتهم.  ونحن نعلم أن لنا نحن أيضًا ميراثًا (في المسيح)، ولنا أيضًا ميراث في المستقبل سنشترك فيه معًا، ونشكر الله من أجله.  كما أن لنا أيضًا مجالاً واسعًا من البركات الأبدية الروحية مركزه المسيح ومحفوظ لنا فيه، وكل منا مسؤول أمام الله ومُميَّز بأن يتقدم إلى تلك الأمور ويتمتع بها الآن.  ونحن لا نتمتع بهذه البركات إذا احتفظنا بها على رفوف مكتباتنا، أو حتى إذا أدركناها بعقولنا.  ربما يوجد حق معين يمكن معرفته والتمتع به بهذه الطريقة، لكن هذه الحقائق يجب أن تمسك بزمام حياتنا وتحكمها حتى يتسنى للكل أن يروا أنها صاحبة الصوت الأعلى في حياتنا.  هذه الحقائق هي ما تعنينا حقًا؛ إنها ميراثنا وهذا ما نؤمن به فعلاً، وما نسعى لأن نقتنيه، ولأن نحتفظ به، ولا يمكننا ذلك إلا إذا عبَّرنا عمليًا عن اتكالنا التام على الله، وأيضًا إذا تعاملنا مع بعضنا البعض بالشركة العملية.
(يتبع)
فرانك والاس


فرانك ولاس