أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2013
نبيٌّ يُمهد السبيل للمسيح
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
لا شك أن يوحنا المعمدان، في كثير من الوجوه، أحد أبرز الشخصيات التي يرسمها أمامنا الكتاب المقدس.  فكان موضوع نبوة ذكرت في العهد القديم (إش40).  ومولده كان بتدخُّل معجزي من قِبل الله (لو1: 7، 13).  وكان ممتلئًا من الروح القدس من بطن أمه (لو1: 15).  كما أنه كان مُرسَلاً من الله (يو1: 6)، كان مرسلاً ليُعد طريق الرب (مت3: 3).  وقال الرب عنه إنه لم يقم بين المولودين من النساء أعظم منه (مت11: 11)، وهي إشارة إلى عظمته بوصفه مُمهد السبيل أمام المسيا، وقد نال شرف تعميد الرب يسوع.

أما إشارة المسيح إلى عظمة يوحنا الوظيفية فواضحة من قوله: «وَلَكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ».  فأن يكون لك مكان في ملكوت السماوات هو موقف أفضل من أن تنادي أمام الملك وأنت خارج الملكوت، كما كان يوحنا.

تبدأ الأعداد التي نتناولها بمحاجة بين فريق من الكهنة واللاويين المُرسلين من أورشليم ليسألوا يوحنا عن هويته: «وَهَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا، حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: مَنْ أَنْتَ؟» (يو1: 19).  لا يوجد شيء من هذا القبيل في الأناجيل الأخرى.  ولكنه يأتي في توافق جميل واضح مع الجو الروحي لهذا الإنجيل، فضلاً عن التناغم التدبيري.  فهذه الحادثة تكشف لنا عن الجهل الروحي للقادة الدينيين اليهود.  فقد جاء النبي الذي يُمهد الطريق للرب في البرية تتميمًا لنبوة ذكرها إشعياء النبي، ولكن نظرًا لافتقار قادة أورشليم للتمييز الروحي، لم يعرفوه، ومن ثم أرسلوا وفدًا يسأل يوحنا: «مَنْ أَنْتَ؟».
فبينما كانت جموع الشعب تتجه زرافات إلى هذا الكارز الغريب في البرية، وكثيرون اعتمدوا منه، حدث ما أثار تفكير الناس بشأن يوحنا إن كان هو المسيح أم لا (لو3: 15)، فاحتار القادة الدينيون اليهود بشأنه، وأرسلوا إليه وفدًا للحديث معه عن كثب لعلهم يكتشفون حقيقة هويته ويطلعون على شهاداته: «فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَأَقَرَّ: إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ» (يو1: 20).  وقد تنم هذه الكلمات عن تلميح إلى الروح التي جرَّب بها الكهنة واللاويون يوحنا، وعن تركيبة وكنه اليهود الذين أرسلوهم.  فلم يكن المعمدان بالنسبة لهم سوى متطفلٍ.  فقد كان منفصلاً عن الأنظمة الدينية السائدة يومها؛ فلم يتدرب في مدارس الرابيين، ولم يكن له وضع معتبر بين خدام الهيكل البارزين، فلم يكن ينتمي إلى الفريسيين ولا الصدوقيين ولا الهيرودسيين.  فمن أين إذًا يستمد سلطانه؟ مَن الذي أرسله ليُنادي في الناس بالتوبة؟ وبأي حق يُعَمِّد الشعب؟

وبإمكان المرء أن يتخيل نغمة صوتهم وهم يسألونه: «مَنْ أَنْتَ؟».  فلا شك أنهم حاولوا إرهابه، ولعل ذلك يبدو من القول: «فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ».  فقد كان يقف بشجاعة على أرض صلبة، ولم تفلح مكانة المُرسِلين، ولا تهديد المُرسَلين إلى يوحنا في زحزحته عن موقفه: «فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ».  ليت لنا هذه الشجاعة عندما ينبري أحد للتحدي: «مَنْ أَنْتَ؟»!

«وَأَقَرَّ: إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ»؛ أما وقد وقف راسخًا في وجه التجربة، نجد الشيطان يُجربه أن يتطرف في الاتجاه المضاد.  فإذ فشل في إرهابه يحضه أن ينتفخ ويفتخر.  فلم يكن يسوع بعد ظهر علانية، وكان يوحنا محط الأنظار، كما نقرأ «وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ» (مر1: 5).  فالجموع أقبلت إليه، وكثيرون صاروا تلاميذه (يو1: 35)، فلماذا لا يُعلن نفسه مُدّعيًا إنه المسيا؟ ولكنه في الحال نفى هذه الأفكار الوقحة الشريرة.  والأرجح أن تلك الأفكار بثها الشيطان إلى ذهنه، وإلا فلماذا يُخبرنا الكتاب أنه: «اعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَأَقَرَّ: إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ».  ليت الرب يخلصنا من روح الافتخار الرديء، ويحفظنا أن ندعي شيئًا على خلاف حقيقتنا؛ فنحن لسنا إلا “خطاة مُخلَّصون بالنعمة”.

«فَسَأَلُوهُ: إِذًا مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟ فَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا» (يو1: 21).  ولكن لماذا سألوه إن كان هو إيليا؟ الإجابة: لأن اليهود كانوا يتوقعون في ذلك الوقت ظهور إيليا على الأرض.  وهذا الأمر مذكور في عدد من المواضع في الأناجيل.  مثلاً عندما سأل الرب تلاميذه: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟ فَقَالُوا: قَوْمٌ: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ» (مت16: 13، 14).  وفي مناسبة أخرى، عندما نزل الرب يسوع وتلاميذه من جبل التجلي، أوصَاهُم قَائِلاً: «لاَ تُعْلِمُوا أَحَدًا بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ»، ثم نقرأ إن تلاميذه سألوه: «فَلِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» (مت17: 9، 10).

والحقيقة إن توقع اليهود لظهور إيليا له أساس كتابي.  فالآيات الأخيرة في العهد القديم تقول: «هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ، فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ.  لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ» (ملا4: 5، 6).  هاتان الآيتان تُشيران إلى عودة إيليا إلى الأرض، ليؤدي خدمة فحواها إعداد الطريق لمجيء المسيا الثاني، على النحو الذي كانت عليه خدمة يوحنا المعمدان قبل ظهور المسيح العلني للجموع.  وعندما سأل اليهود يوحنا: «إِيلِيَّا أَنْتَ؟»، نفى بحزم: «لَسْتُ أَنَا».  والحقيقة أن يوحنا شُبِّه بإيليا التشبي في كثير من الوجوه.  كما أن خدمته تماثل كثيرًا خدمة إيليا المزمع أن يقوم بها في يوم قادم.  ومع ذلك لم يكن هو نفسه إيليا.  كان مُرسلاً أمام المسيح «بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ ... لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدًّا» (لو1: 17).

ثم سأل مُستجوبو يوحنا: «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟» (يو1: 21).  ولكن أي “نبي” يقصدون؟ والإجابة: إنه النبي الذي تنبأ عنه موسى.  والنبوة واردة في تثنية 18: 15، 18 «يُقِيمُ لكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي.  لهُ تَسْمَعُونَ ... أُقِيمُ لهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلكَ، وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ».  وكانت تلك نبوة من النبوات المسياوية الكثيرة التي يذخر بها العهد القديم، والتي وجدت إتمامها في شخص الرب يسوع المسيح.  سُئل يوحنا: «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟»، فَأَجَابَ مجددًا: «لاَ».
«فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ، لِنُعْطِيَ جَوَابًا لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟» (يو1: 22)؛ أسئلة فاحصة حقًا! «مَنْ أَنْتَ؟»، «مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟».  ولا يُجافي يوحنا الصواب إذا كان قد قال: “أنا ابن زكريا الكاهن.  أنا المملوء بالروح القدس منذ ولادته”.  أو لو كان أجاب: “أنا أعظم شخصية أرسلها الله إلى إسرائيل”.

«مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟» ... آه، يا له من سؤال فاحص للقلب!  ولعل الكاتب والقارئ يتعلمان درسًا من إجابة يوحنا، ويطلبان نعمة ليتبعا مثال اتضاعه الرائع؛ درس نحن في أمس الحاجة إليه في أيام افتخار لاودكية.

«قَالَ: أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ» (يو1: 23).  تلك إجابة يوحنا: «مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟»، «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ».  يا له من تواضع جذاب آسر! تواضع كثير الثمن في نظر الله، وفائق بين الآنية البشرية التي استخدمها، تبارك اسمه.  فها هو بولس الأعظم بين الرسل يُقرر إنه أصغر من أصغر القديسين (أف3: 8).  ويوحنا يقرر الأمر ذاته هنا: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ».

عزيزي القارئ: لو أنك سُئلت هذا السؤال بالذات: «مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟»، فماذا تكون إجابتك؟  يقينًا إنك لن تُجيب: “أنا قديس مفرز لله.  وأنا أعيش في جو من الروحانية السامية.  ولقد استخدمني الرب مرات عدة”.  مثل هذا الافتخار ينم عن أننا لم نتعلَّم بما فيه الكفاية مِن الشخص “الوديع والمتواضع القلب”، وستكون دليلاً دامغًا على أننا بعيدون كل البعد عن روح التواضع التي تُصرّح: ما نحن إلا «عَبِيدٌ بَطَّالُونَ» (لو17: 10).

وعندما أشار يوحنا إلى نفسه باعتباره “صوت صارخ”، استعمل ذات اللفظ الذي قاله عنه الروح القدس قبل سبعمائة سنة.  إذ كتب إشعياء النبي: «صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ.  قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا» (إش40: 3).  ولا يمكننا إلا أن نعتقد أن هذا اللقب كان من اختيار وتعيين الوحي المقدس لغاية خاصة.  وسبق أن أخبر يوحنا الحبيب، عندما كان بصدد الحديث عن ألقاب الرب يسوع، أن المسيح هو النور (يو1: 7)، إلا أن الرب نفسه أشار إلى المعمدان باعتباره «السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ» (يو5: 35)، ليُبين الاختلاف بينه كالنور وبين يوحنا؛ السراج.  وهنا نجد مفارقة أخرى: فالمسيح هو “الكلمة” في حين كان يوحنا “الصوت”.  فما هي الأفكار التي يمكن أن نجنيها بالتأمل في هذا اللقب؟

في المقام الأول: تكون الكلمة في الذهن قبل أن يعلنها الصوت.  وهكذا كانت العلاقة بين المسيح وسابقه.  صحيح أن يوحنا أُعلن على الملأ أولاً، ولكن المسيح، الكلمة، كائن منذ الأزل.

ثم إن الصوت ببساطة هو المركبة التي تُعبّر عن الكلمة أو تذيعها.  وهكذا كان يوحنا.  فموضوع إرسالية وغرض خدمته: أن يشهد للكلمة.
ثم إن الصوت يُسمع ولا يُرى، ولم يكن يوحنا يسعى إلى إظهار ذاته.  فعمله كان أن يلفت أسماع الشعب إلى رسالة الله حتى يمكنهم أن يقبلوا إلى “حَمَل الله”.  ليت الرب اليوم يُقيم خدامًا أشبه بيوحنا: فقط أصوات، تُسمع ولا تُرى!

أخيرًا نقول أن “الكلمة” تبقى بعد صمت الصوت.  فصوت يوحنا خمد بالموت، ولكن “الكلمة” يبقى إلى الأبد.
نخلص إلى أنه من اللائق أن يُطلق على الشخص الذي يُقدم المسيا إلى إسرائيل: “الصوت”.  وما أروع عمق كلمة الله! كم من الكنوز مذخرة في كلمة واحدة! ألا يدعونا ذلك إلى التأمل المتصل فيها، ومن ثم الصلاة بروح الاتضاع.

«أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ» ... أين الموضع الذي يجب أن يأخذه النبي المُرسَل من الله ليُمهد الطريق للمسيا؟ بالتأكيد في أورشليم.  فلماذا إذًا لم يصرخ يوحنا في الهيكل؟ لماذا؟  لأن يهوه فارق الهيكل.  كانت اليهودية كصدفة جوفاء فارغة، لها شكل خارجي جذاب، ولكنها بلا حياة في الداخل؛ أمة ناموسية يسود عليها الفريسيون الذين لم يُظهروا إيمان إبراهيم، ولا عملوا أعماله.  تلك هي الأمة التي جاء إليها يوحنا المعمدان.  إن الله لا يرضى أبدًا بالبر الذاتي الشكلي لليهود.  من ثم فإن “المُرسَل من قِبَل الله” بُعث من خارج الأنظمة والدوائر اليهودية السائدة يومها.

ولكن لماذا كرز المعمدان في البرية؟ لأن البرية تُمثل العقم والخواء الروحي الذي كانت عليه الأمة اليهودية.  كان يوحنا ينوح على نظام رفضه الله، وكل ما يتصل به كان في توافق مع هذه الحقيقة؛ فكان طعامه من نتاج البرية، ولباس النبوة كان يشهد عن الفشل الظاهر في كل ناحية.

«وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ: فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ، وَلاَ إِيلِيَّا، وَلاَ النَّبِيَّ؟» (يو1: 24، 25).  هذا السؤال النهائي مِن قَبَل سفارة أورشليم يؤكد ما قد ذكرناه في تعليقنا على الآية 20.  فقد كان القادة الدينيون اليهود يُنكرون على يوحنا الحق في التبشير، ويتحدون سلطانه في أن يعمد.  فهو لم يكن مُرسَلاً من السنهدريم: «فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ؟».  ويبدو أن يوحنا لم يُجب مباشرة عن السؤال الأخير، بل تحوَّل إليهم وشرع يُكلّمهم عن المسيح.
«أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا قَائِلاً: أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلَكِنْ فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ» (يو1: 26). 
استمر يوحنا ثابتًا واقفًا على أرض صلبة، فلم يُنكر أنه يُعمِّد بماء، ولكنه كان يسعى إلى أن يشغلهم بأمر أهم من مجرد طقس رمزي.  وهناك الكثير لنتعلَّمه من إجابة المعمدان هنا.  فهؤلاء كانوا منشغلين بأسئلة عن المعمودية، في حين أنهم متجنبون عن المسيح نفسه.  ما أشبههم بالكثيرين في يومنا! ما هي الفائدة التي يمكن أن يجنيها فريسيون مُرسَلون من الكهنة واللاويين بسؤالهم: “لماذا المعمودية؟” في حين أنهم ما زالوا في خطاياهم؟ حسنًا يفعل خدام الرب، والمعنيون بالعمل الفردي لربح النفوس للمسيح، إذا اتبعوا مثال المعمدان.  فالناس راغبون في مناقشة قضايا فرعية، بينما القضية المركزية الأساسية تبقى غير محسومة! ولكن يعوزنا أن نتجاهل كل محاورة ومراوغة تُحيد عن الهدف، ولنوجه نظر الضالين إلى المسيح، وحاجتهم إلى قبوله كربهم ومخلصهم.

«فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ» ... هل رأيتم كيف يفسر ذلك القول حالة إسرائيل، ويكشف جهلهم الروحي؟! وكيف أن هذا المبدأ ينطبق بشكل تراجيدي اليوم! حتى في الأماكن التي تُدعى مسيحية، وفي كثير من الدوائر الدينية التي دُعيَّ فيها باسم المسيح، ما زال صوت المعمدان يدوي: «فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ».  يا لعمى الإنسان الطبيعي! فالمسيح بروحه قائم في أوساط كثيرة ولكنه غير مرئي وغير معروف!

«هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، الَّذِي صَارَ قُدَّامِي (أفضل مني)، الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ» (يو1: 27).  يا لها من شهادة نبيلة! كم تُظهر هذه الكلمات المجد الإلهي لشخص يسوع الفريد!  اذكر مَن كان يوحنا المعمدان.  لم يكن شخصًا عاديًا: فهو موضوع نبوة وردت في العهد القديم، وابن كاهن، ووُلد بمعجزة إلهية بقوة الله، وكان ممتلئًا بالروح القدس من بطن أمه، ومُضطلعًا بخدمة جذبت إليه جموع غفيرة، ومع ذلك ينظر إلى المسيح كمن يحل في مرتبة سامية تفوقه بكثير.  فالمسيح من عالم آخر (إن جاز التعبير).  والمسيح أفضل منه بحيث إنه (المعمدان) ليس بمستحق أن يحل سيور حذائه.  فلم يجد تعبيرًا أقوى من هذا ليُعبّر به عن الاختلاف البين بينه وبين هذا الشخص الذي صار قدامه.  مُجَدَّدًا أقول كم تكشف هذه الكلمات عن المجد الإلهي لشخص المسيح!
«هَذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ» (يو1: 28) ... بالطبع ثمة سبب: لماذا سُرّ الروح القدس أن يخبرنا أين حدث ذلك الحادث.  ولا شك أن المفتاح يكمن في معنى كلمة “بَيْت عَبْرَة”.  وللأسف فإن ثمة اختلاف بين الدارسين حول هجاء كلمة “بَيْت عَبْرَة” في النسخة اليونانية.  ولكن بحسب الدارس العبري الثقة “Gesenius” نكاد نُجزم أن “بَيْت عَبْرَة” هي “بَيْت بارة” المذكورة في قضاة 7: 24 والتي تعني “بَيْت العبور” والتي سُميت كذلك لتظل تذكارًا لعبور الأردن في أيام يشوع.  وهي تقع وراء الأردن، ومن ثم هي رمز للموت، وهذا هو معنى المعمودية التي كان معنيًا بها النبي الذي يسبق المسيح.  والمعنى ليس غامضًا؛ فمدلول هذه الأسماء يتجاوب بكل وضوح مع وضع يوحنا وطابع إرساليته، فقد كان منفصلاً عن اليهودية، وهؤلاء الذين قبلوا دعوته للتوبة واعتمدوا منه معترفين بخطاياهم، عبروا من النظام اليهودي المرتد ليأخذوا مكانهم بين البقية القليلة المُستعدة للرب (لو1: 17).  حسنًا إذًا أن يكون اسم المكان الذي كان يوحنا يُعمد فيه “بَيْت عَبْرَة (بَيْت بارة)” أي بيت العبور (بيت المرور).



آرثر بنك