إن عمق الصداقة دليل على نُبل الشخصية. ومحبة يوناثان لداود هي واحدة من الصداقات النموذجية في التاريخ، خصوصًا إذا قوبلت بغيرة شاول وغدره.
فولاء يوناثان كان بمثابة تشجيع كبير لداود أثناء سنوات رفضه. ولا يوجد في التاريخ نظير لتخلي يوناثان عن عرشه من أجل خاطر داود، الذي كان بمثابة مُزاحم ومنافس له.
فنُبل شخصية يوناثان ظهر في هذا: أنه بالرغم من ولائه الشديد لداود إلا أنه لم يُحرِّض داود ضد أبيه شاول، الذي كان ما زال “مسيح الرب”. لقد كان على النقيض تمامًا من أبيه؛ فبينما كان شاول يكره داود ويحاول قتله بشتى الطرق، كان يوناثان يحب داود، وحاول مساعدته وانقاذه من نوايا شاول القاتلة.
لقد كانت محبة داود ويوناثان الأخوية مؤسسة على إيمانهما المشترك، فكلاهما كان بطلاً ومحاربًا، ولكن شجاعتهما نبعت من معرفتهما أن الله دائمًا في صف شعبه (1صم14: 6-17: 47)، فبدأت صداقتهما في يوم هزم داود جليات، واستمرت حتى موت يوناثان، عندما كتب داود عن عمق صداقتهما (2صم1: 26).
إيمان يوناثان العظيم
يظهر إيمان يوناثان بالله في 1صموئيل 14، حيث حقَّق انتصارًا كبيرًا على الفلسطينين بفضل ثقته العظيمة في الله. فعبر هو وحامل سلاحه خلف خطوط الأعداء بدون علم أبيه، شاول الملك (14: 1-5). «فقال يوناثان للغلام حامل سلاحه تعال نعبر إلى صف هؤلاء الغلف لعلَّ الله يعمل معنا، لأنه ليس للرب مانع عن أن يخلص بالكثير أو بالقليل» (14: 6). كان إيمان يوناثان مؤسسًا على علمه أن الله سوف يخلص شعبه، لأنه فعل هكذا في الماضي. وبالفعل أسلم الله الفلسطينيين ليد إسرائيل (14: 12).
علاقة يوناثان وداود
بدأت صداقة داود ويوناثان بعدما قتل داود جليات «وكان لما فرغ (داود) من الكلام مع شاول أنَّ نفس يوناثان تعلَّقت بنفس داود وأحبه يوناثان كنفسه» (1صم18: 1). ومثل يوناثان، نحن نظهر حبنا وولاءنا تجاه من هو ابن داود، بل من هو أعظم من داود، الرب يسوع.
إن ما أضرم محبة يوناثان الشديدة لداود هو قتل جليات، ونحن عندما نفكر فيما عمله الرب يسوع من أجلنا، تزداد محبتنا وتكريسنا له (1كو15: 54-58).
كان يوناثان ابنًا لشاول، وبالتالي فهو وريث العرش، ولكن داود كان قد مُسح لهذه الوظيفة من قِبل الله، فبدلاً من أن يحقد على داود، والذي صار مزاحمًا له، أحبه يوناثان! هنا نرى نعمة الله التي لا مثيل لها في تعامله معنا. ترجع محبة داود ويوناثان إلى ذاك الذي في يده جميع قلوب الناس، وهو يحركها كيفما يشاء.
عهد يوناثان مع داود
«وقطع يوناثان وداود عهدًا ... وخلع يوناثان الجبة التي عليه وأعطاها لداود مع ثيابه وسيفه وقوسه ومنطقته» (18: 3-4). العهد الذي قطعاه يعني أنهما سوف يلتصقان ببعضهما ويساعد أحدهما الآخر. من الصعب أن تجد صداقة مشابهة لصداقتهما. داود وهو راعٍ صغير لم يكن يملك ثيابًا تتناسب مع وضعه الجديد كبطل قومي، ولهذا أعطى له يوناثان جبته وسيفه وقوسه ومنطقته. لقد جرَّد نفسه من كل ما يملك من أجل خاطر داود، ألا ينبغي علينا أن نظهر مثل هذا التكريس تُجاه من هو أعظم من داود؟
شفاعة يوناثان لداود
نقرأ في 1صموئيل 19: 2-7 المزيد عن الصداقة الحقيقية بين يوناثان وداود. ونرى أيضًا كيف حذَّر يوناثان داود من خطر القتل الذي كان مُعرَّضًا له من قِبل شاول الملك، ونصحه باتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك. لقد تصرَّف يوناثان كالمُصالح، وتشفَّع لداود أمام شاول، وتوسَّل لأبيه من جهة داود. لقد ذكَّر أباه، أن داود بتخليصه لإسرائيل من الفلسطينيين، أنقذ عرش الملك، ولم يخطئ في حقه قط، فحذَّر أباه أن لا يخطئ بسفك دمٍ بريءٍ.
كان لشفاعة يوناثان تأثير مؤقت على أبيه. فبينما حلف شاول بأنه لن يقتل داود، فقد حاول قتله بعد ذلك برمحه (18: 6-10). وهذا كُتب من أجل تعليمنا (1كو10: 11). فكم من مرة كان توقُّف غير المؤمنين عن طرقهم الشريرة مؤقتًا ليرجعو إليها بعد وقت قصير، فهم مثل خنزيرة مغتسلة عادت إلى مراغة الحمأة (2بط2: 22).
حوار داود مع يوناثان
يحتوي 1صموئيل 20 على حوار طويل بين داود ويوناثان، والذي فيه قال داود: «ماذا عملت؟ وما هو إثمي، وما هي خطيتي أمام أبيك حتى يطلب نفسي؟» (20: 1)، حيث نرى إن الضمير المتكلم يتكرر كثيرًا، ليُظهر حالة ذهنه. فلم يكن الله في حساباته مطلقًا في هذا الوقت، فما قاله بعد ذلك يظهر بوضوح الخوف الذي تملَّكه، هذا الخوف الناتج من عدم الإيمان «إنه كخطوة بيني وبين الموت» (20: 3). هذا الكلام يكشف أنه لم تكن لداود في تلك الأثناء ثقة في الله، بل كانت شركته بالرب مقطوعة.
نحن الخاسرون عندما نفشل في معرفة الرب في كل طرقنا. فعندما تنقطع شركتنا مع الله، نستسلم للتجربة والخطية. وعندئذ اتَّفق داود مع يوناثان على أن يكذب من أجله، فكان متوقَّع حضور داود إلى القصر في وقت الأكل، ولكنه خاف من الحضور، فأخذ الإذن من يوناثان بالاختفاء ثلاثة أيام، قائلاً له: «وإذا افتقدني أبوك فقل قد طلب داود مني طلبة أن يركض إلى بيت لحم مدينته لأن هناك ذبيحة سنوية لكل العشيرة» (20: 6). ألا يتكلم هذا محذرًا إيانا من العواقب الوخيمة للشركة المقطوعة مع الرب.
يوناثان يسعى لمساعدة داود
عندما رأى يوناثان صدمة داود وحزنه، لم يكن له من الشجاعة الأدبية التي تؤهله للاعتراف بأن أباه يريد قتل داود. فحاول تهدئة داود بالهروب من الواقع قائلاً: «حاشا. لا تموت. هوذا أبي لا يعمل أمرًا كبيرًا ولا أمرًا صغيرًا إلا ويخبرني به. ولماذا يخفي عني أبي هذا الأمر. ليس كذا» (1صم20: 2). كان هذا كذب، لأن شاول كان قد سبق وقال علانية ليوناثان وعبيده أن يقتلوا داود (1صم19: 1). لم يجهل يوناثان برمي شاول الحربة على داود، ولا بالتعليمات المعطاة للعبيد بقتله (19: 11)، ولا بالرسل الذين بُعِثوا للقبض عليه (19: 20)، ولا عندما تبع شاول داود في الرامة (19: 22). فبالرغم من علم يوناثان بأن أباه يتوق إلى دم داود، إلا أنه قال له: «لأنه لو علمت أن الشر قد أُعدّ عند أبي ليأتي عليك، أ فما كنت أُخبرك به؟» (20: 9).
يوناثان يتَّصل بداود
وضع الصديقان خطة للاتصال. ودعت الخطة إلى استخدام يوناثان قوسه وسهامه. وهذا لن يثير الشك، لأنه كان محاربًا وكثيرًا ما خرج للرماية. كان على داود أن يختبئ في الحقل. فإذا تجاوزت الرمية داود فهذا معناه أنه في خطر وعليه الهرب، ولكن إذا رمي السهم قريبًا أمام داود فهذا معناه أنه في أمان، وعليه أن يعود.
في اليوم الثالث أخذ يوناثان قوسه وخرج للحقل. ولم يكن شاول يعلم أنه مزمع على توصيل رسالة لداود. وكان شاول قد أظهر بصورة واضحة أنه يريد قتل داود. فطار السهم في الهواء ونزل على الجانب الآخر من داود. وهذا معناه أنه عليه بالهرب. حينئذ طلب يوناثان من حامل سلاحه أن يأخذ القوس والسهام ويدخل بهما المدينة. ثم تكلم يوناثان مع داود وذكَّره بعهدهما. حفظ يوناثان العهد من جانبه وظل أمينًا لداود حتى موته، وهكذا أيضًا كان داود أمينًا مع يوناثان ونسله.
غضب شاول على يوناثان
جلس شاول للأكل في أول يومين، وكان مكان داود خاليًا (1صم20: 14- 27). فسأل الملك يوناثان لماذا لم يحضر داود للطعام، فكان جواب يوناثان أن داود استأذنه كيما يذهب إلى بيت لحم إلى ذبيحة العشيرة. فانصبَّ غضب شاول على ابنه وشتمه وشتم أمه (20: 30- 31). فخرجت كلمات شريرة وفاسدة من هذا الملك التعيس المتروك من الله، وفي غضبه رمي ابنه بالحربة كي يقتله (20: 33). وهذا يوضح كراهية الشيطان لكل من يأخذ جانب مسيح الله، كما اتَّخذ يوناثان صف داود.
في الصباح التالي حدث الفراق بين الصديقين، فتقابل يوناثان مع داود، وقبَّل أحدهما الآخر وبكيا معًا. ومن ذلك اليوم فصاعدًا، أصبح داود في خطر.
نموذج كتابي للصداقة الحقيقية
تبرز العلاقة بين داود ويوناثان كنموذج للصداقة الحقيقية بين رجلين، بالرغم من وجود عوائق كبيرة، فنقرأ في 1صموئيل 23 أنهما تصرفا كصديقين حميمين «وأقام داود في البرية في الحصون ومكث في الجبل في برية زيف. وكان شاول يطلبه كل الأيام ولكن لم يدفعه الله ليده، فرأى داود أن شاول قد خرج يطلب نفسه. وكان داود في برية زيف في الغاب. فقام يوناثان بن شاول وذهب إلى داود إلى الغاب وشدَّد يده بالله. وقال له لا تخف لأن يد شاول أبي لا تجدك، وأنت تملك على إسرائيل وأنا أكون لك ثانيًا، وشاول أبي أيضًا يعلم ذلك. فقطعا كلاهما عهدًا أمام الرب. وأقام داود في الغاب وأما يوناثان فمضى إلى بيته» (1صم23: 14- 18).
نجد في هذه الفقرة ثلاثة أمور فعلها يوناثان مع صديقه:
أولاً: ذهب يوناثان إلى حيث كان داود مختبئًا في البرية، وشدَّد يده. كان داود محبطًا شاعرًا بالمرارة والاستياء. ويوناثان لم يُقلِّل من مشكلة داود، ولم يدَّعِ أنه لا داعي للقلق، ولا تصرف كما لو كان عنده الحل. إنه لم يستخدم المنطق الإنساني ليشجع داود، ولكنه شدَّد يده بالله.
ثانيًا: شجع داود قائلاً: «أنت تملك على إسرائيل». فلقد أكد وعد الله في حياة داود. فكونه أكبر أبناء شاول، وكرسي العرش من حقه، فهذا لم يجعله يحقد على داود، بالعكس ساعد داود على إدراك قصد الله في حياته، وهذا هو أسمى صور الصداقة.
ثالثًا: صرَّح يوناثان وداود بولائهما أحدهما للآخر، فقطعا عهدًا أمام الرب. فالتزما بالصداقة الحقيقية. فهما على استعداد بان يلتصقا ببعضهما ويساعدا بعضهما حتى النهاية. هكذا كانت العلاقة الجميلة بين داود ويوناثان.