أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2010
خواطر في سفر هوشع (5)
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

قارئي العزيز، يا مَنْ تُتابع معنا الدراسة في سفر هوشع، يا مَنْ تبذل جَهدًا كبيرًا لدراسة هذا السفر النفيس أو لدراسة كلمة الله بصفة عامة، غائصًا في أعماقها، قاطفًا من شهيِّ أثمارها وناهلاً من فيض ينابيعها. يا لحظوتِكَ… «فالسماء للعلو، والأرض للعمق، وقلوبُ الملوكِ لا تُفحص» (أم 25: 3). إنه جهدٌ لذيذٌ جعل أحدهم يتغنى «تقدمت عينايَ الهُزُعَ لكي ألهج بأقوالك» (مز 119: 148).

وقفنا في المرات السابقة أمام بعض المشاهد التصويرية، التي أبرزت لنا قُبح وفساد أفرايم (الأسباط العشرة)، كامرأة زنى، كبقرةٍ جامحة، كجفنةٍ ممتدة تُخرِج ثمرًا لنفسها، وفي النهاية كابنٍ غير حكيم، والآن تعالَ لنقف أمام بعض من آيات هذا السفر، التي تبدو للقارئ أنها عسرة الفهم والتي تشرح لنا شر هذه الأُمة أيضًا. وسنختار أربعًا منها:

  1. «على حسبما كثروا، هكذا أخطأوا إليَّ، فأُبدِلُ كرامتهم بهوانٍ. يأكلون خطية شعبي، وإلى إثمهم يحملون نفوسهم، فيكون كما الشعب هكذ الكاهن. وأُعاقبهم على طرقهم، وأرد أعمالهم عليهم» (هو4: 7-9).
  2. «بشرِّهم يُفرِّحون الملك، وبكذبهم الرؤساء، كلهم فاسقون كتنُّورٍ مُحمى من الخبَّاز، يُبطِّل الإيقاد من وقتما يعجن العجين إلى أن يختمر، يوم مَلِكِنَا يمرض الرؤساء من سورة الخمر. يبسط يده مع المستهزئين» (هو7: 3-5).
  3. «لأنهم صعدوا إلى أشور مثل حمارٍ وحشيٍ مُعتزلٍ بنفسه، استأجر أفرايم مُحبين. إني وإن كانوا يستأجرون بين الأمم، الآن أجمعهم فينفكون قليلاً من ثِقل ملك الرؤساء» (هو8: 9، 10).
  4. «جاءت أيام العقاب، جاءت أيام الجزاء، سيعرف إسرائيل. النبي أحمق، إنسان الروح مجنون من كثرة إثمك وكثرة الحقد» (هو9: 7).

والآن هلم لنقف أمام ثلاثٍ من هذه الآيات التي سردناها، وسأُرجئ الآية الرابعة للمرة القادمة إن تأنى الرب في مجيئه:

الآية الأولى: «على حسبما كثروا، هكذا أخطأوا إليَّ، فأُبدِلُ كرامتهم بهوانٍ. يأكلون خطية شعبي، وإلى إثمهم يحملون نفوسهم، فيكون كما الشعب هكذ الكاهن. وأُعاقبهم على طرقهم، وأرد أعمالهم عليهم» (هو 4: 7-9).

إن معنى هذه الآية يبرز لنا ليس شر هذا الشعب فقط بل والكهنة أيضًا، وأين نجد هذا المعنى؟ «على حسبما كثروا، هكذا أخطأوا إليَّ...». وما فعله الشعب هو عكس ما فعله الله معهم تمامًا، أو قل إذا شئت هو عكس سياسة الله بصفة عامة. فنحن نقرأ من البداية أن الله استخدم كل الظروف المعاكسة، بل والآلام المختلفة التي تجرعها هذا الشعب في أرض مصر، وجعلها معًا تعمل لخيرهم ولنموهم، فها الكتاب يقول: «ولكن بحسبما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا...» (خر 1: 12). فاستخدم الله مجموع الذل لخيرهم. أما هم فاستخدموا مجموع الخير الذي أغدقه عليهم الرب لإغاظته، فلقد أكثرهم الله فماذا كان رد فعلهم؟ «على حسبما كثروا، هكذا أخطأوا إليَّ...»!!! ولكنَّ هناك سؤالاً آخر مَنْ هم الذين «يأكلون خطية الشعب»؟ إنهم الكهنة المقامون على الشعب. وهكذا فإن هوشع في العدد السابع، يتكلم عن الشعب في مجموعِهِ، وأما في العدد الثامن فهو ينتقل سريعًا، وفجأةً للحديث عن فضيحة الكهنة، “إنهم يأكلون خطية الشعب” أو “يأكلون ذبيحة خطية الشعب” ومعنى الآية، “إلى الإثم يحرضون نفوس الشعب، أي يشجعونهم على عمل الشر”!!! يا للفضيحة!!! ولماذا؟ ليُكثِر الشعب من الخطأ، وبالتبعية يُكثر من تقديم الذبائح، وعلى سبيل الربح القبيح والطمع والتحريض على إغاظة الرب يزداد نصيب الكهنة في الأكل. أو بتشبيه أبسط، هل رأيت رجل مرور، يقف في الشارع بين السيارات، يُحرض السائقين على كسر قوانين المرور، وما إن ينصاع السائقون لمشورته، يجمع الغرامة منهم في الحال ثم يأخذها لنفسه ويستمر في ذلك. وعلى هذه الصورة المخزية يُعلق هوشع بالوحي: «فيكون كما الشعب هكذا الكاهن» وهذا تقرير عن فساد الشعب، والكهنة على حدٍ سواء.

الآية الثانية: «بشرِّهم يُفرِّحون الملك، وبكذبهم الرؤساء، كلهم فاسقون كتنُّورٍ مُحمى من الخبَّاز، يُبطِّل الإيقاد من وقتما يعجن العجين إلى أن يختمر، يوم مَلِكِنَا يمرض الرؤساء من سورة الخمر. يبسط يده مع المستهزئين» (هو 7: 3-5)

إن كنا في الآية السابقة رأينا شر الشعب والكهنة على حدٍ سواء، وهذا هو الفساد الديني الذي كان يعيشه هذا الشعب، ففي هذه الآيات، نجد شر الشعب والرؤساء على حدٍ سواء، وهذا يشرح لنا لا الفساد الديني ولكن السياسي الذي أظهره رؤساء هذا الشعب وملوكه أيضًا. فهناك آية يذكرها إرميا النبي تلخص هذه المأساة الكبرى: «كخزي السارق إذا وُجِدَ هكذا خزي بيت إسرائيل هم وملوكهم ورؤساؤهم وكهنتهم وأنبياؤهم» (إر 2: 26)

في هذه الآيات، لا نجد الكهنة يُحرضون الشعب على فعل الشر مثل الآيات السابقة، ولكن نجد الملوك والرؤساء يفرحون بالكذب والإثم. وكلمة “كلهم” في العدد الرابع، تعود على الشعب والملوك والرؤساء معًا. «كلهم فاسقون»! يا للفضيحة، كلهم داعرون، وملأتهم روح الوثنية. وعندما يُشبههم النبي هوشع “بالتنور المُحمى من الخبَّاز، الذي يُبطل الإيقاد من وقتما يعجن العجين إلى أن يختمر”، يقصد أن يرينا كيف أن هذا الشعب تحوَّل إلى مناخٍ بل إلى تربةٍ جاهزة لتترعرع فيها الوثنية بل والكفر والإلحاد، فلماذا يُحمى التنور ثم يُبطَّل الإيقاد؟ أليس ليعمل الخمير عمله إلى النهاية؟ ثم يستطرد هوشع قائلاً في العدد الذي يليه:«يوم مَلِكِنَا يمرض الرؤساء من سورة الخمر...» يوم ملكنا، يعني تنصيبه للملك أو يوم ميلادهِ. ويا للفضيحة، لأنه عوضًا أن تُستغل هذه المناسبات في الرجوع للرب وتقديم الشكر له وأخذ مشورتهِ للدور الجديد، يفرحون في شرب الخمر حتى يمرضون.

الآية الثالثة: «لأنهم صعدوا إلى أشور مثل حمارٍ وحشيٍ مُعتزلٍ بنفسه. استأجر أفرايم مُحبين. إني وإن كانوا يستأجرون بين الأُمم، الآن أجمعهم فينفكون قليلاً من ثِقل ملك الرؤساء» (هو 8: 9، 10)

بكل أسف، ليست هذه المرة الوحيدة التي فيها يُشبَّه إسرائيل بالحمار، فها إشعياء النبي يعقد المقارنة بين الحمار وإسرائيل في حماقتهِ، وبكل أسف كانت الأفضلية للحمار فيقول: «الثور يعرف قانيه والحمار مِعْلفَ صاحبهِ، أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم» (إش 1: 3). وأما في هذه الآيات، لا يُشبَّه إسرائيل فقط بالحمار ولكن بالحمار الوحشي والمعتزل بنفسهِ أيضًا، و«المعتزل يطلب شهوته…» (أم 18: 1). ولكن ما معنى بقية الآيات؟ «استأجر أفرايم محبين»، أي أنه حاول الفرار من القضاء الذي كان عليه أن يخضع لله ويقبله. «استأجر محبين» واستأجرهم من بين الأُمم، أي أن الشعب أخذ يتضافر مع الأُمم الوثنيين ويتودَد إليهم لمعونتهِ، بل أخذ يتودد لملك أشور الذي يُقال عنه هنا “ملك الرؤساء”، سواء بدفع الجزية أو قل الرشوة إذا شئت لكي يتحوَّل عنهم، ولكن ماذا نتوقع يا قارئي العزيز، عندما يتصلب الإنسان ويتجبر على الله؟ هل يمكن أن يسلم؟ فها الرب يتوعد لهم على فم هوشع: «… الآن أجمعهم فينفكون قليلاً من ثِقل ملك الرؤساء»، أي أنهم سيفُرُّون حقيقة، ولكن قليلاً ثم يواجههم القضاء بعد ذلك.

والآن يا قارئي العزيز، بعد شرح هذه الآيات الثلاث، هل تصورت مدى فساد هذه الأُمة، كهنةً وشعبًا؟ رؤساء ودون. فجر وعناد، قسوةٌ واستبداد وكل نبيٍ حث قلوبهم على التوبة قابلوه بالرفض والاستبعاد. ولكن من الناحية الأخرى، هل يتجسد أمام قلوبنا أناة السيد؟ صلاح قلبه وعفوه؟ ذاك الذي «لا يذل من قلبه، ولا يُحزن بني الإنسان» (مراثي 3: 33) وإن أذل، فالذل عنده وسيلة وليس هدفًا ليصل بقلوبنا إلى الخضوع له وطاعته.

هيا نطيع حسنًا هذا المُعلِّما

فنعرفُ شيئًا هنا من فرحِ السما

بطرس نبيل