وقعت حادثة في إسرائيل في مدينة “جِبْعَةَ الَّتِي لِبَنْيَامِينَ”، مِن رجال من المدينة، جاءوا ليلاً، وأخذوا امرأة مُتغربة مِن بيت رجل شيخ، «فَعَرَفُوهَا وَتَعَلَّلُوا بِهَا اللَّيْلَ كُلَّهُ إِلَى الصَّبَاحِ» (قض19: 25)، مما أدى إلى موتها، وعلمت كل أسباط إسرائيل بالأمر، فأسرعت واجتمعت كل الجماعة لتعلم ما حدث بالفعل، وعندما تحققوا من الأمر تكدرت الجماعة، واتحدت في غرض واحد، وهو معاقبة الجناة على هذه الجريمة النكراء (قض20: 1).
بالتأكيد كان عليهم أن يطلبوا إرشاد الرب كيف يجب أن يتصرفوا في هذه القضية، لأن وجهة نظرنا في موضوع كهذا ليس محل ثقة، ووجهة نظر الله مختلفة عنا من أوجه متعددة. ويقينًا كان مِن الصواب أنهم رجعوا إلى سبط بنيامين ليُسلموا لهم المذنبين للمحاكمة والقضاء، لكن بنيامين رفضَ أن يفعل هذا، واضعًا نفسه مع المجرمين في كفة واحدة (قض20: 13، 14). ويا له مِن أمر خطير، فإن مَن يأوي المجرمين يُعرِّض نفسه لذات الحكم الواقع على المذنبين!
فقام رجال إسرائيل – ما عدا بنيامين - وصعدُوا إِلى بيت إِيل وسألُوا الله: «مَنْ يَصْعَدُ مِنَّا أَوَّلاً لِمُحَارَبَةِ بَنِي بَنْيَامِينَ؟ فَقَالَ الرَّبُّ: يَهُوذَا أَوَّلاً» (قض20: 18). ومعنى الاسم “يَهُوذَا” هو “حمد” أو “تسبيح”. وهذا بكل تأكيد يعنى ضمنًا أن اعتبارات مجد الله هي دائمًا في مقدمة الاعتبارات عند مواجهة الشر وإدانته. إذًا بلا شك كان قصد الله أن يضرب إسرائيل بنيامين، لكن بالرغم من ذلك خسر إسرائيل المعركة الأولى بقتل 22000 من رجاله بيد بنيامين! (أصحاح 20: 21). ولكن لماذا انهزموا؟! لأنهم لم يحكموا على ذواتهم أولاً، لأنه ليس لنا - على أي حال - أن نحكم على الشر، إن لم نحكم على ذواتنا أولاً أمام الله. بل إنهم لم يتفكروا حتى في توَّجه قلوبهم آنذاك، هل يجب أن يكون توَّجه غضب وغيرة للبر فقط؟ كلا، بل كان يجب أن تأتى حقيقة شر الأُمَّة بهم إلى الاتضاع أمام الله.
على الأقل هم يبكون الآن أمام الرب ويتساءلون علنًا إن كانت حربهم مع إخوتهم خطأ، حتى إنهم سألوا الرب قائِلِين: «هَلْ أَعُودُ أَتَقَدَّمُ لِمُحَارَبَةِ بَنِي بَنْيَامِينَ أَخِي؟ فَقَالَ الرَّبُّ: اصْعَدُوا إِلَيْهِ» (قض20: 23). إن الرب لم يُغَيِّر فكره مِن جهة خطورة الشر، بل يجب أن تأخذ الدينونة مجراها، لكن مرة أخرى يُعاني إسرائيل من هزيمة مذلة أمام بنيامين «فَخَرَجَ بَنْيَامِينَ ... وَأَهْلَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْضًا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ إِلَى الأَرْضِ. كُلُّ هؤُلاَءِ مُخْتَرِطُو السَّيْفِ» (قض20: 25). وكانت مفاجأة مروعة أخرى.
هل كانت تلك الهزيمة ضرورية؟ نعم كانت! فلم يكن الله متعاملاً فقط مع بنيامين، بل مع كل إسرائيل الذين كانوا بحاجة لأن يتعلموا أن الحكم على الشر ليس بالأمر الهين. دعونا لا نظن أبدًا أنه من حقنا أن ندين الشر في الآخرين. في الواقع كانت مسؤولية إسرائيل أن يحكم، لكن كان ينبغي أن يكون حكمهم نيابة عن الله، وحسب مبادئه. وسيأتي اليوم الذي فيه يدين المؤمنون العالم، لكن هذا سيتم فقط بعد كرسي المسيح، حيث نكون قد تعلمنا الحكم الكامل على ذواتنا، بعدها نرتبط بالمسيح في دينونته للعالم.
«فَصَعِدَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّ الشَّعْبِ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ إِيلَ وَبَكوْا وَجَلَسُوا هُنَاكَ أَمَامَ الرَّبِّ، وَصَامُوا ذِلكَ الْيَوْمَ إِلَى الْمَسَاءِ، وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَذَبِائحَ سَلاَمةٍ أَمَامَ الرَّبِّ» (قض20: 26). الصوم هو علامة الحكم على الذات، أما إصعاد الذبائح فيُذكرنا بحقيقة أن ذبيحة المسيح هي الفيصل العظيم في دينونة الخطية، لأن في هذه الذبيحة فقط نجد الخطية وقد دينت بالتمام، وهذا بلا شك أمر يجعل الإنسان يتضع، لكن الله كان يُوصّل إسرائيل إلى نقطة الاتضاع والانحناء لقضائه - كما نرى في الصليب - قبل أن يدينوا بنيامين. وعلينا أن نتذكر ونحن مُقامُون للحكم أننا نحن خطاة أيضًا، ومُتَّكِلون على قيمة ذبيحة المسيح لترفع عنا خطايانا.
لقد أحرزوا النصر في هذه المرة، لكن هذا ليس بدون خسارة جسيمة «وَكَانَ جَمِيعُ السَّاقِطِينَ مِنْ بَنْيَامِينَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ مُخْتَرِطِي الْسَّيْفِ فِي ذَلكَ الْيَوْمِ. جَمِيعُ هؤُلاَءِ ذَوُو بَأْسٍ» (قض20: 46). فمَن عساه يفرح في نصر كهذا؟ ويُمكننا القول بكل يقين أنه لا نصر لأحد في الحرب.
إذًا فلماذا لا تنبذ الأمم الحروب؟ فبما أن نتائج الحروب دائمًا مأساوية فهناك من يقولون - ومنهم المسيحيون - إن أمتنا يجب ألا تشترك في حرب. والبعض يقول إن علينا تطبيق المبدأ المسيحي؛ تحويل الخد الآخر. لكن سواء أردنا أو لم نُرد يقول لنا الرب يسوع: «سَوْفَ تَسْمَعٌونَ بِحُرُوبٍ وَأَخْبَارِ حُروُبٍ» (مت24: 6). في الواقع أن أمتنا ليست مسيحية، وبالتالي لا نتوقع منها أن تعمل بالمبادئ المسيحية، إلا أنه على المسيحيين أن يظهروا ذلك كرد فعل للمعاملة السيئة. لكن مثلاً ليس مِن حق القاضي أن يأمر مَن وقع ضحية عملية نصب بمبلغ 10000 دولار أن يُظهر نعمة للنصاب بأن يعطيه هذا المبلغ مرة أخرى! فالله توقع مِن إسرائيل أن يضرب بنيامين، لا أن يُمرر تلك الجريمة البشعة وكأنها لم تكن.
إن كانت أمتنا تقتص من المجرمين فعلى المؤمن أن يخضع للسلطات كما تُعلمنا رومية 13: 1 وألا نُصعّد احتجاجًا على ما تفعل الحكومة، وأيضًا قيل للمؤمنين أن يشكروا الله على الرياسات، وأن يصلوا من أجلهم (1تي2: 1، 2). في الواقع ليس علينا فقط أن نشكر الله ونصلي للرياسات في أمتنا فقط، لكن أيضًا «لأَجْلِ الْمُلُوكِ وَجَمِيعِ الَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ»، وهو ما يتضمن ذوى المناصب في الأمم الأخرى أيضًا. لأن الله هو «الْعَلِيَّ مُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ وَأَنَّهُ يُعْطِيهَا مَنْ يَشَاءُ» (دا4: 32). إن الانتخابات العامة لا تحدد هذا الموضوع لأن الله قد حدد نتيجة الانتخابات مُسبقًا، وهو معنى بكل الأمم وليس الأمم المتوافقة مع أمتنا فقط، إلا أنه بإمكاننا أن نُصلي من أجل أمتنا لكي تفعل الصلاح، لأنه في حين ترفع النعمة شأن المؤمن شخصيًا إلا أن «اَلْبِرُّ (وليس النعمة) يَرْفَعُ شَأْنَ الأُمَّةِ» (أم14: 34).
لذلك يجد المؤمن صعوبة بالغة في أن يتصرف كمسيحي إن كان ذا منصب في أية أمة. وفي الواقع يسمح الرب بظروف صعبة لكي يمتحن البشر اليوم. وعلينا أن نعي أن لدى الله شيء مُهم ليقوله عندما يسمح ببلوى كالإرهاب الذي تسبَّب في معاناة ورعب غير مسبوق. ألا يلفت انتباهنا الحالة الأدبية المتدنية لبلادنا التي جلبت علينا اتهامات عدة؛ أمور نحن متأكدون أن الله لن يتهاون معها. يا ليت الكثيرين منا ينتبهون إلى ذلك، ويهتمون إلى الحد الذي به يلتفتون إلى الرب يسوع، ليجدوا غفرانًا لخطاياهم.
ليس بإمكان المؤمنين علاج الشرور الكثيرة التي تتطفل كل يوم في حياتهم، بالرغم من أنهم يُمتحنون بها، لكن ثقتهم في رب المجد الحي الذي سيأخذ شعبه إلى محضره قريبًا جدًا، ويُبطل الشر أخيرًا، ويُوقف الحروب.