أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2016
داود وأبطاله
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«فَذَهَبَ دَاوُدُ مِنْ هُنَاكَ وَنَجَا إِلَى مَغَارَةِ عَدُلَّامَ. فَلَمَّا سَمِعَ إِخْوَتُهُ وَجَمِيعُ بَيْتِ أَبِيهِ نَزَلُوا إِلَيْهِ إِلَى هُنَاكَ. وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ كُلُّ رَجُلٍ مُتَضَايِقٍ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكُلُّ رَجُلٍ مُرِّ النَّفْسِ، فَكَانَ عَلَيْهِمْ رَئِيسًا» (١صم٢٢: ١، ٢)

الملك المرفوض

بعد أن مَسَح صموئيل داود كان عليه أن ينتظر طويلاً قبل أن يستطيع أن يُمارس سلطته الملكية. ومن هذه الوجهة هو رمز للمسيح الذي بالرغم من كرامته الملكية، لكنه لم يستخدم سلطانه علنًا بعد، فهو ما زال مرفوضًا على الأرض، إذ طرده العالم مُسمرًا إياه على الصليب، ورفضه شعبه، ولم يُرد أن يملك عليه! لكن الله رفعه «إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ اسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هَذَا الدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا، وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ» (أف١: ٢٠-٢٣). إنه ملك الملوك ورب الأرباب من الآن، بالرغم من أن سلطته العلنية المرتبطة بذلك سوف تُستعلن عند مجيئه الثانى (رؤ١٩: ١١-١٦).

عندما تعين على داود الفرار لأن وقت مُلكه لم يكن قد حان بعد، صار مركزًا لعدد من الأتباع المُخلصين له، ورئيسًا لهم. وهكذا المسيح أيضًا، فبالرغم مِن كونه مرفوضًا مِن العالم، لكن لديه زمرة من التابعين؛ تلاميذه المرتبطين به بشدة. إنه مركز لخاصته الذين اختارهم وجذبهم إليه.

هذا ما نراه من حياة داود كما استُعرض لنا فى ١صموئيل ٢٢ حيث نزل إليه “إِخْوَتُهُ” فى مغارة عدلام لكن أيضًا «اجْتَمَعَ إِلَيْهِ كُلُّ رَجُل مُتَضَايِق، وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكُلُّ رَجُل مُرِّ النَّفْسِ». إن المجموعة الأولى؛ “إِخْوَتُهُ”، تُعطينا صورة لمن هم يعرفون الرب، ويُميزون دعوته لهم “كإخوة” بعد أن تمَّم عمله على صليب الجلجثة (مز٢٢: ٢٢؛ يو٢٠: ١٧)، أما المجموعة الثانية فتكونت من رجال قد جاءوا إلى داود مدفوعين باحتياجاتهم المختلفة، وهم يُمثلون كل مَن يسمعون دعوة الرب الرقيقة ويستجيبون لندائه: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (مت١١: ٨).

من البديع أن إنجيل متى لا يُصوّر لنا المسيح بهذا الصدد كالملك المرفوض وحسب، بل أيضًا كمركز لكل الذين يتخذونه ملجأهم، لأنه يدعوهم أن يأتوا إليه. إذًا هو ليس بدون أتباع مُخلصين له، بل لهم يُعلن اسم الآب الغالى. فى الوقت الحاضر هو لا يمارس حقوقه علنًا من جهة إسرائيل والعالم. لكن لماذا يفعل هذا؟ إن الهدف الأسمى فى التدبير الحالى هو أن يأخذ من كل الأمم شعبًا على اسمه، وليعلن لهم اسم أبيه كما أعلن بنفسه: «وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت١١: ٢٧؛ يو١٧: ٦؛ ٢٦).

هذا هو عمل نعمته فى الزمان الحاضر من خلال عمل الروح القدس الذى يُرينا أمجاد الابن، ويجمعنا كأبناء الله الغاليين حول المسيح الرب «لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ» (مت١٨: ٢٠). إن المسيح هو المركز لخاصته المجتمعين إلى اسمه، مكونين شعبًا منفصلاً عن العالم، زمرة سماوية من الكهنة القريبين من الله ومن الحمل للسجود له.

قيادته

وكما كان داود ليس فقط المركز بل أيضًا القائد والرئيس لأتباعه، كذلك المسيح أيضًا ليس فقط المركز، بل أيضًا مُنشئ الإيمان، ورئيس خاصته أجمعين «رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ» (عب١٢: ٢). فنحن نخرج إلى العالم من حيث نقيم فى محضره، من أجل اسمه. فأن نكون معه لهو التجهيز الذي نحتاجه لنُتمِّم إرساليتنا كسفرائه فى هذا العالم، لذلك نقرأ عن التلاميذ أن الرب دعاهم، (١) لِيَكُونُوا مَعَهُ (٢) ولكى يُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا (مر٣: ١٤).

لقد صار داود قائدًا لهم، وكذلك رئيسًا على كل من التجأ إليه، وبالمثل فإن المسيح ليس فقط الفادي بل أيضًا الرب والمُعلِّم، لكل مَن يأتى إليه، ليجد راحة لنفسه. إن له سلطان عليهم، ويريد أن يقودهم فى الحرب التي لا بد أن يخوضوها فى هذا العالم من أجل اسمه. وبعد قيامته من الأموات صار التلاميذ الذين كانوا يرافقونه جبابرة بأس، وشهود فى منتهى الشجاعة، حتى إن أعداءهم كانوا يعترفون «فَعَرَفُوهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا مَعَ يَسُوعَ» (أع٤: ١٣)، لأن الحياة فى محضر الرب غيَّرتهم كثيرًا، وجعلتهم أكفاء لخوض المعركة. ولقد تعلَّم أتباع داود منه، فتغيروا من أناس مُحبطين، إلى جبابرة بأس.

هكذا الحال مع كل التعابى المُثقلين عندما يلجأون إلى المسيح، فيتغيرون إلى صورته، فنراهم يذهبون من قوة إلى قوة فى حروبهم ضد العدو، تحت لواء الرب المُقام والمُمجَّد، وبقيادته؛ ذاك الذي قهر الشيطان وهزمه بسيفه، مُكونين جيش الله هنا على الأرض. وطالما نحارب بقوته نُحرز الانتصارات لمجد وكرامة ذاك الذي ضرب ربواته (٢صم١٧: ٨)، فنحن أكثر من منتصرين بالذى أحبنا (رو٨: ٣٧).

جيشه

كما نقرأ أيضًا عن أبطال داود «وَقْتَئِذٍ أَتَى أُنَاسٌ إِلَى دَاوُدَ يَوْمًا فَيَوْمًا لِمُسَاعَدَتِهِ حَتَّى صَارُوا جَيْشًا عَظِيمًا كَجَيْشِ اللهِ» (١أخ١٢: ٢٢). لقد كانوا فى شجاعة الأسود، وفى سرعة الأيل على الجبال، واعترفوا بسلطان داود عليهم وعاونوه لينصبوه ملكًا (١أخ١١: ١٠)، وكانوا هم أول من خضع لسلطة داود، بالرغم من أنه لم يكن يملك على إسرائيل بعد، فكانوا هم الآلية التى عملت على تمكين داود من المُلك على شعب الله، وعلى الشعوب المحيطة.

وبتطبيق ذلك على أنفسنا يعنى أننا ننتمي إلى جموع جبابرة المسيح، عندما نخضع لسلطانه، ونحارب لمجد اسمه فى يوم رفضه. وبالرغم من أن ملكه العلنى لم يتم بعد حرفيًا، إلا أنه قادر - بل ويريد - أن يقودنا بكلمته وبروحه. فهل نتبع ربنا السماوى؟

يذكر ١أخبار الأيام ١١ أبطال داود وانتصاراتهم بالتفصيل، ومن الملفت للنظر أن حروب رجال داود كانت دائمًا مُوجهة ضد الفلسطينيين، الذين هم صورة للمسيحيين الاسميين الذين عاشوا فى أرض الموعد لكنهم لم يدخلوها بالطريقة التى حددها الله لشعبه، فعلى خلاف الإسرائيليين لم يعبروا الأردن، لذلك فأولئك الرجال الغير مختونين هم صورة للناس الطبيعيين الذين لم يموتوا مع المسيح، ولا اُقيموا معه.

في ١أخبار الأيام ١١: ١٢-١٤ ذكرت واحدة من أكبر مفاخر رجال داود وهي حمايتهم لحقل شعير من الفلسطينيين. ويحدثنا الشعير عن حياة القيامة التى هى ثمر موت المسيح وقيامته (يو٦)، والمسيحيون الاسميون لا يعرفون هذه البركة، بل يجب أن تُلاقى ادعاءاتهم عن هذا الأمر تحديًا من خدام الرب.

كما يُقدم لنا هذا الأصحاح تقريرًا مُفصلاً عن عمل قام به ثلاثة من جبابرة داود الذين شقوا محلة الفلسطينيين فى بيت لحم حتى يحضروا ماءً من بئر بيت لحم الذي كان عند الباب. وفى الكتاب يشير الماء إلى الإنعاش، وعمل روح الله المحيى من خلال كلمته (يو٤؛ ٧)، الأمر الذي يُعدّ التمتع به معاقًا أو مستحيلاً تحت تأثير “الفلسطينيين” (أعني المسيحيين الاسميين، أو علماء الدين غير المؤمنين). وحتى فى أيام الآباء البطاركة قام الفلسطينيون بطم الآبار التى حفرها إبراهيم (تك٢٦: ١٥). إذًا فهذا العمل يعتبر شجاعة خاصة، على الأقل فى نظر الله، وهو أن تقهر هؤلاء الأعداء، وتتيح الماء الحي مرة أخرى؛ وربنا ابن داود الأعظم يُسر بهذا.

فى ١أخبار الأيام ١١، ١٢ ذُكر بالاسم كل أبطال داود الذين نصَّبوه عليهم رئيسًا، وهكذا الأمر مع أولئك الذين يتبعون المسيح كربهم فى يوم رفضه: «يَعْلَمُ الرَّبُّ الَّذِينَ هُمْ لَهُ» (٢تى٢: ١٩)، كما أن كل “أعمالهم البطولية” مُسجّلة فى السماء!

هوجو باوتر