أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2015
ببراهين كثيرة قاطعة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
الفصل الثاني

القيامة

أكمل ابن الله عمله، وأحنى رأسه وصرخ بصوت عظيم، واستودع روحه لله، لكي يترك الأرض، وتبعت هذه الصرخة العظيمة المنتصرة - التي صدرت من على الصليب - آيات عظمى عديدة:

أولاً: انشق حجاب الهيكل ليفتح لنا الطريق لمحضر الله.

ثانيًا: تزلزلت الأرض، وتشققت الصخور، وتفتحت القبور «وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ» لكي يُعلنوا أنه «بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ» (مت٢٧: ٥١-٥٣؛ ١كو١٥: ٢٠).

ثالثًا: عندما طعنت حربة الجندي الروماني جنب يسوع «لِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ» (يو١٩: ٣٣-٣٧). وكان هذا برهانًا إلهيًا معجزيًا عن قوة الكفارة والتطهير لعمل الفداء.

هذه الشهادات الثلاثة للنتائج المباركة لموت المسيح تطغي عليها، رغم ذلك، شهادة الشاهد العظيم، وهي «كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ» (رو٦: ٤)؛ أي قيامته من بين الأموات.

وفي ذلك المساء، قبل أن يبدأ السبت، كانت نبوة إشعياء «وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ»، قد تمت. وأعطانا روح الله سبب ذلك؛ وهو سبب ثمين علينا أن نعرفه جيدًا «عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ» (إش٥٣: ٩). حقًا كان صوابًا أن جسده قد “لُفَّ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ”، “وَوُضِعَ فِي قَبْرٍ جَدِيدٍ” “لغني شريف”؛ قبر كان منحوتًا في صخرة «حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ»، وحيث لم يُدنسه فساد أي إنسان (مت٢٧: ٥٧-٦٠؛ مر١٥: ٤٢-٤٦؛ لو٢٣: ٥٠-٤٣؛ يو١٩: ٣٨-٤٢).

«ثُمَّ دَحْرَجَ حَجَرًا كَبِيرًا عَلَى بَابِ الْقَبْرِ وَمَضَى» (مت٢٧: ٦٠). وأغلق يوسف القبر بحرص، وهكذا وضع بغير قصد الأساس الذي لا يُدحض، للبرهان على القيامة التي ستظهر بعد قليل. وأضاف رؤساء الكهنة غير المؤمنين والفريسيون برهانًا آخر حينما تذكروا شيئًا قاله الرب عن قيامته، فطلبوا من بيلاطس حراسًا ليضبطوا القبر، وهكذا عينوا حراسة خاصة للقبر، وختموا الحجر (مت٢٧: ٦٢-٦٦). وهكذا اعتقدوا أنهم فعلوا كل شيء ممكن ليمنحوا أنفسهم راحة من اسم الناصري الذي أبغضوه؛ راحة إلى الأبد. ولكن خاب فألهم: فلا “الحجر الكبير جِدًّا ” (مت٢٧: ٦٠؛ مر١٦: ٤)، ولا الحراس، ولا الختم، ولا كل هذه مجتمعة أمكنها أن تمسك رئيس الحياة في القبر. فهو – تبارك اسمه – الذي له سلطان أن يأخذها، وهو الذي له السلطان أن يضعها (يو١٠: ١٨). فكافة الاحتياطات التي اتخذها أعداء الرب يسوع إنما خدمت كبراهين للقيامة. لقد ارتدت أسلحتهم إلى نحورهم.

«وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ» (مت٢٨: ١). كم كان مؤثرًا ورائعًا الدور المؤثر الذي لعبته النساء في كل هذه الملحمة! فنجدهن «وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ»، «وَكَانَتْ أَيْضًا نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ ... اللَّوَاتِي أَيْضاً تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي الْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ اللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ ... وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يُوسِي تَنْظُرَانِ أَيْنَ وُضِعَ»، عندما كنَّ عند وضعه في القبر (يو١٩: ٢٥؛ مر١٥: ٤٠، ٤١، ٤٧). وبعد ذلك «رَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطًا وَأَطْيَابًا. وَفِي السَّبْتِ اسْتَرَحْنَ حَسَبَ الْوَصِيَّةِ» (لو٢٣: ٥٦). ونراهن في إنجيل متى ٢٨: ١ ثانية عند القبر. وفي مساء السبت، قبل فجر أول الأسبوع، انشغلن بشراء وإعداد الحنوط والأطياب «لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ» (مر١٦: ١).

وفي صباح اليوم التالي «وَالظّلاَمُ بَاقٍ» (يو٢٠: ١)، أسرعت مريم المجدلية - التي ذُكر اسمها في معظم هذه الأحداث – إلى القبر بنفسها. وفيما بعد «إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ»، نراها ضمن الننساء الأُخَر (مر١٦: ١، ٢). وذكر الكتاب هاته النساء سبع مرات لإثارة التحية لهن، لإخلاصهن لسيدهن. وبالمقابلة فإن التلاميذ - بلا استثناء – هربوا.

وبدءًا من العدد الثاني من الأصحاح الثامن والعشرين من إنجيل متى، يُسجل الكتاب حوادث صباح القيامة «وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ، لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ» (مت٢٨: ٢، ٣). ونحن لم نسمع شيئًا عن الصعود الفعلي من القبر، سواء في إنجيل متى أو في أي موضع آخر. وفقط يُخبرنا مرقس أن هذا قد حدث «بَاكِرًا فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ» (مر١٦: ٩).

لم يُرسل الله واحدًا من رسله ليفتح الطريق لابن الله ليخرج من القبر، ولكن بالأحرى فتح القبر بيد الملاك، وأعطى العالم برهانًا قاطعًا لا يُدحض عن حقيقة قيامة المسيح من الأموات، وعن حقيقة القبر الفارغ. والبشير متى فقط يذكر كل هذا، أما روايات الأناجيل الثلاثة الأخرى فتبدأ عند نقطة متأخرة من الوقت. ومجموع هذه الروايات يجعلنا ندرك أن النساء لم يكن حاضرات فتح القبر.

ولكن ألم يكن هناك شهودٌ لهذه الواقعة؟ حقًا كان هناك شهود، فنحن نقرأ أن «فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ» (مت٢٨: ٤). فبواسطة بعض من نفس هؤلاء الحراس، علم رؤساء الكهنة الحقيقة بعد قليل، لأن «قَوْمٌ مِنَ الْحُرَّاسِ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ بِكُلِّ مَا كَانَ. فَاجْتَمَعُوا مَعَ الشُّيُوخِ، وَتَشَاوَرُوا، وَأَعْطَوُا الْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً قَائِلِينَ: قُولُوا إِنَّ تَلاَمِيذَهُ أَتَوْا لَيْلاً وَسَرَقُوهُ وَنَحْنُ نِيَامٌ. وَإِذَا سُمِعَ ذَلِكَ عِنْدَ الْوَالِي فَنَحْنُ نَسْتَعْطِفُهُ، وَنَجْعَلُكُمْ مُطْمَئِنِّينَ. فَأَخَذُوا الْفِضَّةَ وَفَعَلُوا كَمَا عَلَّمُوهُمْ، فَشَاعَ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَ الْيَهُودِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ» (مت٢٨: ١١-١٥). وحقيقة أن هؤلاء الحراس المرتعبين قد هربوا (عالمين أنهم يدفعون حياتهم ثمنًا لتركهم مواقعهم)، فضلاً عن حقيقة أن رواية هذه الأحداث قد قدمت برهانًا لا يدحض على أن المسيح قد قام. فمن غير اليهود قد اضطر لأن يقوم بمثل هذه الوسائل اليائسة مثل الأكاذيب والرشوة من أجل أغراضهم؟

ولكن يا للحسرة! فما أتعس الإنسان، قبل الصليب، وبعده! بل وحقًا في مشهد القبر الفارغ، نجده يضاد الله. ولكن هذه المقاومة للحق دائمًا تُكلّف الإنسان الكثير. لقد تكلّفوا في الأول ثلاثين قطعة من الفضة لتحقيق غرضهم المبدئي، ولكنهم الآن «أَعْطَوُا الْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً» (مت٢٨: ١٢). وهكذا باعوا أنفسهم للنهاية.

يا لها من مسؤولية ثقيلة تلك التي تقع على عاتق أعداء المسيح. ويُخبرنا إنجيل متى ٢٨: ١٥ عن الرواية التي اخترعوها «فَشَاعَ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَ الْيَهُودِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ». نعم، ولكن «حَتَّى الْيَوْمِ» نقرأ في مكان آخر «حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى، الْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ» (٢كو٣: ١٤، ١٥). ولماذا؟! لأنهم لم يُصدقوا الرسالة التي تبرهن صدقها عن قيامة يسوع المسيح من الأموات. وإذا استسلمنا لأقل شك في أحداث القيامة المجيدة، لأصبحنا حقًا «أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ».

«وَلَكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ» (١كو١٥: ١٩، ٢٠). فحينما مات – تبارك اسمه - ذهبت روحه إلى الفردوس* (لو٢٣: ٤٣)، وجسده رقد “في بطن الأرض”** «ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» (مت١٢: ٤٠)، ولكنه لم يرَ فسادًا. إنها معجزة المعجزات، والأكثر من ذلك، أنه لم يبقَ هناك. كلا «أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ» (أع٢: ٢٤-٣١؛ مز١٦: ٨-١١).

(يتبع)
فريتز فون كيتسل