أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2015
كيف ندخل المعركة؟
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

في الأصحاح التاسع عشر من سفر القضاة نقرأ عن واحدة من أغرب قصص الكتاب المقدس، مفادها أن رجلاً لاويًا كان بحاجة للمبيت ليلة واحدة في أرض جبعة التي لسبط بنيامين، وإذ جاءه بنو بليعال الأشرار الساكنون هناك، سلَّمهم سُرِّيَّتَه فأذلوها حتى ماتت، فقطَّع الرجل جسمها إلى اثنتي عشر قطعة، وأرسلها إلى كل أسباط إسرائيل، طالبًا منهم أن يحكموا على هذا الشر الحاصل وسط سبط بنيامين. بالطبع هذا ملخص القصة، لكني أناشد القارئ العزيز بالرجوع إليها، ثم قراءة ما فعله الشعب إزاء هذا الأمر في الأصحاح العشرين وهو موضوع تأملنا.

اجتمع أسباط إسرائيل في مجمع شعب الله، وقرروا أنه لا بد من محاربة سبط بنيامين، إلا إذا سلموهم هؤلاء الرجال لينزعوا الشر من وسطهم. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل هذا الحكم صائب أم خاطئ؟ والإجابة إن هذا الحكم صائب بنسبة صغيرة، وخاطئ بنسبة كبيرة، وإليكم الأسباب:

أولاً: في الأصحاحين السابع عشر والثامن عشر نقرأ عن رجل لاوي استأجره واحد اسمه ميخا ليكون كاهنًا له، ثم استأجره سبط دان ليكون كاهنًا لهم بالتوازي مع الكهنة الذين أقامهم الرب لنفسه في خيمة الاجتماع. لقد كان هذا شرًا عظيمًا لأنه لا يأخذ أحد هذه الوظيفة من نفسه بل المدعو من الله (عب٥: ٤). والسؤال: هل من موقف أخذه شعب الله تجاه هذا الشر؟ الإجابة لا. لم يكن هذا شرًا أخلاقيًا يمس كرامة الشعب في أعين نفسه وأعين من حوله من شعوب، لكنه شر متعلق بترتيب بيت الله، الأمر الذي لم يكن الشعب يوليه أي اهتمام في ذلك الوقت، لانحدار حالتهم الروحية. لذا فبالرغم من أنهم قالوا إن الحكم على سبط بنيامين هدفه مراعاة مجد الرب الحاضر وسطهم، لكن الأمر في حقيقته ليس كذلك بالتمام، بل إن الرجل استفزهم بإرساله قطع جسم سُرِّيَّته فأشعرهم بالمهانة، لكن عندما امتُهن مجد الرب فعلاً دون أن تُمتهن كرامتهم في الحادثة السابقة التي أشرت إليها لم يتحرك لهم ساكن. وهذا جانب من الخطأ في الحكم.

لقد علَّمنا الكتاب أن في الوقت الحاضر لا بد أن يسمح الرب بظهور البدع والتعاليم الغريبة بيننا، خاصةً المتعلقة بترتيب بيت الله، والغرض من ذلك هو أن يُظهر المُزكون (١كو١١: ١٩)، إذ سيتكبدون مشقة اتخاذهم مواقف رافضة لمثل هذه التعاليم. إنه من الممكن أن يشاركنا العالم في رفض الشرور الأخلاقية، إذ شرورٌ مثل هذه لا تُسمَّى بين الأمم (١كو٥: ١)، لكنه لن يعبأ أبدًا بمشاركتنا الرفض للشرور التعليمية، بل إنه سيرى رفضنا لها أنه شكل من أشكال سلب الحقوق الخاصة بحرية التعبير عن الرأي أو وجهة النظر، ولديه العديد من الأسباب المُقنعة لأولاد الله لأن يتركوا الشر التعليمي يعمل بحرية بينهم، وهذا هو المحك الذي يقصد الرب أن يضعنا فيه ليختبر طاعتنا له، هل سنُظهر الطاعة فقط عندما يتعلق الأمر بكرامتنا ومشاعرنا ومظهرنا، حتى لو قلنا أننا أصدرنا الحكم لمجد الرب، أم أن مجد الرب فعلاً له غلاوة على قلوبنا؟ وهل نحن نُقَيِّم الأمور كما يُقَيِّمها العالم، أم كما يُقَيِّمها الرب؟

ثانيًا: إذ نترك القصة السابقة لقصتنا بعد أن فهمنا منها خلفية عن حالة الشعب الروحية، دعونا نذهب لقصتنا وسنجد أن هناك استنتاجين منطقيين بنسبة كبيرة، أولهما أن شرًا أدبيًا من هذا النوع عادةً ما يكون وجوده أمر معروف لدى جميع الشعب، أي أن سماعهم عن هذا النوع من الانفلات الأخلاقي ليس جديدًا عليهم، لكن – وكما ذكرنا – أن هذا الرجل نجح في إثارة مشاعر الشعب وتهييجهم على سبط بنيامين. إنها ازدواجية غريبة تعكسها تلك الطفرة التي تمثلت في الانتقال المفاجئ بين ليلة وضحاها من حالة الصمت التام على هذا الشر إلى حالة الإدانة الشديدة له.

إن ضعف الحساسية الروحية لدى الشعب جعلتهم غير مدركين أن مجرد اتهام سبط بنيامين باحتضان هذا الشر يُعدّ إدانة صريحة لهم، إذ هم أنفسهم كانوا ساكتين عليه سنين هذا عددها رغم علمهم بوجوده. وهذا جانب آخر من الخطأ في الحكم.

ثالثًا: الاستنتاج المنطقي الثاني هو أنه من المعتاد أن يتواجد مثل هذا الشر في عدة أسباط وليس في سبط بنيامين وحده، وعليه فإن شكلاً آخر للازدواجية يظهر هنا، وهو ازدواجية المعايير أو ما يُسمى بسياسة الكيل بمكيالين، لذا فنحن لسنا أمام جماعة تحكم على الشر بسبب غيرتها على مجد الرب بشكل كامل لكن لتأثرها بروح الرياء الفريسية. وهذا هو الجانب الأخير للخطأ في الحكم.

رابعًا: قد تلاحظ قارئي العزيز أنني ألمحت سابقًا أن دوافع الحكم لم تكن مقدسة بالتمام، لكننا لا يمكننا أن ننكر أن ثمة نسبة ضئيلة من دوافع الحكم كانت مقدسة، والدليل أن الرب وقف في النهاية في صف الحكم وليس في صف سبط بنيامين. إذن هناك بصيص من الرجاء يبدو في قصتنا هذه، فإنه ليس بإمكان الشعب وهو في حالة روحية يُرثى لها، تظهر جليًا بطول سفر القضاة، أن يتحرك ضد الشر، إلا إذا كان هذا نتاج عمل إلهي في نفوسهم، حتى لو أنه اختلط بتأثير من الناس، وطالما أن الله ابتدأ بعمل فهو حتمًا سيُكمل، لذا قلت من البداية إن الحكم كان صائبًا بنسبة صغيرة.

لقد استطاع الرب على الأقل أن يُقدّس دوافعهم، ولكن تم هذا بطريقة قاسية عليهم، إذ أظهر الرب موافقته على محاربة الشعب لسبط بنيامين مرتين، وفي المرتين ينهزم الشعب أمام سبط بنيامين، ويُقتل منهم أربعون ألفًا في معركتين (قض٢٠: ٢١، ٢٥)، نعم لقد كان الرب مُصادقًا على الحكم إذ إنه موجه ضد شر موجود بالفعل، لكنه لم يكن مصادقًا على الدوافع والطريقة، لذا سمح لهم بالهزيمة مرتين.

أنتجت الهزيمة فيهم قدرًا من الإحباط والحيرة فيما هي مشيئة الرب، لكنها أنتجت شعورًا داخليًا مباركًا يبدو فيه التذلل والتوبة والانكسار، إذ لجأوا لخيمة الاجتماع ولفينحاس بن ألعازار الكاهن العظيم كممثل عن الله (قض٢٠: ٢٦-٢٨)؛ لقد حفر فيهم الرب اليقين بأنهم ليسوا أفضل من سبط بنيامين أدبيًا مما يجعلهم غير مؤهلين لإجراء الحكم على الشر بهذه الطريقة المستهترة غير المقترنة بالتوبة والاعتراف بأن سكوتهم عن الشر سابقًا يُعد مشاركة فيه. لقد ظهر تعلّمهم لتلك الدروس عندما قدموا الذبائح والمحرقات التي فيها يعلنون استحقاقهم لحكم الموت الذي سبق وحكموا به على المتورطين في الشر. لذلك يجب أن نتحذر جدًا عندما نُقدِم على ممارسة الحكم الكنسي، من أن نقع في مثل هذه الأخطاء، حتى لا نُعطي الفرصة للمخطئ أن يجد ثغرات في الحكم تبرر له ما يفعله من أخطاء، إذ تنكشف حالتنا الرديئة التي تثبت أننا متورطون مع المخطئ، سواء بالمشاركة الفعلية، أو بالسكوت على الشر لفترات طويلة سابقة للحكم.

إن حالة التوبة والتذلل والانكسار هي التي أوقفت الرب في صف شعبه فدفع سبط بنيامين ليدهم في المرة الثالثة (قض٢٠: ٣٥-٤٨) ، وهي ذات الحالة التي تُوقف الرب في صفنا اليوم. أما غير ذلك من حالة قلب غير مقدسة فستُضعف من أحكامنا الكنسية، وتجعلها بلا تأثير أو سلطان على الضمير، بل ستجعل تأثيرها هو تشويه صورة الحق أمام الناس.

ليتنا نتوب ونتذلل وننكسر في محضره كجماعة، حتى يتمم فينا مسرة الصلاح، فإنه هو الذي ابتدأ فينا العمل، لذا فحتمًا سوف يُكمل معنا.

أمجد ماهر